لم يكن المفاوض الإسرائيلي غبيًا عندما فرض على المفاوض الفلسطيني، أن يكون موضوع الأسرى خاضع للتفاوض، فتم ترحيله كما قضايا (الأرض والاستيطان والحدود والأمن والدولة ... الخ)، إلى ما سُمي مفاوضات الحل النهائي، التي أجلت بدورها مرارًا، وصولًا إلى مفاوضات كامب ديفيد2، لتتفجر ومعها تفجر صاعق انتفاضة الأقصى في سبتمبر 2000، مع تحولات طبيعية، شهدها الاحتلال الكولونيالي – الاستيطاني ومجتمعه، بالانزياح كليًا نحو اليمين، بقيادة أرئيل شارون، وبالتالي خضع موضوع الإفراج عن الأسرى "لحسن النوايا الإسرائيلية"، والأدق الابتزاز الإسرائيلي للمفاوض الفلسطيني في هذه القضية.
ومن المعروف، وبعيدًا عن الموقف من مبدأ القبول بنهج التسوية، الذي ولجته القيادة المتنفذة في منظمة التحرير الفلسطينية، فإن المفاوضات وإفرازاتها، واتفاقاتها السياسية والاقتصادية والأمنية، أثبتت أن المفاوض الفلسطيني، لم يكن يملك استراتيجية واضحة في مفاوضاته واتفاقاته مع العدو الصهيوني، بحيث كنا أمام فهلوة وشطارة وارتجال حكمت أداء هذا المفاوض، وباعتراف أصحاب نهج "الحياة مفاوضات"، فإنهم خضعوا للعلاقات الشخصية وثقتهم بحسن نوايا "طرفهم الآخر"، الذي لم يترك شاردة ولا واردة في المفاوضات واتفاقاتها، إلا وأدركها كما أدرك نتائجها في إطار انضباطه لمشروعه الكولونيالي، وكيف ستصب في محصلة أرباح هذا المشروع وأهدافه، في حين أن من قدَّم علاقاته الشخصية وارتكز على حسن النوايا، ضخم مشاريعه وأرباحه الخاصة على حساب الأهداف والمصالح الوطنية.. وفي الواقع كثير من الشواهد التي تزكي هذا الاستنتاج.
لقد عمل المفاوض الإسرائيلي ومشروعه، على كسب الأرض والزمن معا، ولم يتوقف عند هذا الحد، بل عمل أيضا على تدمير الإنسان الفلسطيني، وكان جزء من ذلك إخضاع "ملف" الأسرى إلى التفاوض والابتزاز، باعتبارهم رهائن لديه، ولم يجرِ العمل على الإفراج عن الأسرى بمجرد توقيع "اتفاق السلام"، كما هو معروف في كل اتفاقات السلام الحقيقية، التي جرت بين كل الدول المتصارعة/المتحاربة، باعتبارها نتيجة طبيعية لثمرة السلام، التي أساسها الحفاظ على الإنسان وكرامته كما الأرض وحرمتها.
تدمير الإنسان وعزله عن أرضه وتاريخه ومقاومته وقيادته التي ناضل تحت لوائها نجده بين وظاهر في التعامل مع قضية الأسرى الذين جرى تجزئتهم/تصنيفهم، بين أسرى عرب وفلسطينيين، والفلسطينيين إلى فلسطينيي الداخل ممن حملوا قسريًا "الهوية الإسرائيلية"، إلى أسرى الضفة والقطاع، وبين من تلطخت أيديهم بالدماء، وبين من اعتقلوا قبل اتفاق أوسلو ومن اعتقلوا بعده، وصولا للأسرى المعارضين لهذا الاتفاق ومن يؤيدوه، بحيث خضعوا لابتزاز التوقيع على "وثيقة إدانة نضالهم/كفاحهم الوطني" الذي خاضوه ودفعوا ثمنه غاليًا من أجل حرية شعبهم وحريتهم، وعودة "قيادتهم" قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، التي تخلت عنهم وتركتهم وحدهم أمام معركة المصير والحياة والحرية..!!
ينتصب أمامي الآن.. المناضلّين كريم وماهر يونس، اللذان أمضيا خمسة وثلاثين عامًا في الأسر، وحرما من التحرر وصفقات التبادل، كونهما يحملان "الهوية الإسرائيلية"، كما ينتصب أمامي المناضل وليد دقة الذي أمضى واحدًا وثلاثون عامًا لذات السبب السابق، وماذا يختلج في دواخلهم من ألم وأسئلة حائرة وأمل لم يتبدد؟! ماذا يقولون عنا وكيف ينظرون لنا كما تلك القيادة التي تركتهم وحدهم يواجهون مصيرهم؟!
ينتصب أمامي الآن.. المناضل صدقي المقت، ابن الجولان السوري وكل أبطال الدوريات العرب، الذين التحقوا بالثورة الفلسطينية وقاتلوا تحت لوائها، وذادوا عنها بالمهج والأرواح وزهرات الشباب، ونالوا "الجنسية الفلسطينية" التي منحتهم إياها الثورة الفلسطينية، والشعب الفلسطيني الذي كتب بطولاتهم في سِفر المجد والعزة والفخار؟!
ينتصب أمامي الآن.. المناضل أحمد سعدات الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الذي تعرض ورفاقه الأربعة: عاهد أبو غلمي ومجدي قرعان وباسل الأسمر ومحمد الريماوي ومعهم المناضل فؤاد الشوبكي، إلى خديعة كبرى، استكملت بصفقة العار، التي أودعتهم في سجن أريحا تحت الحراسة الأمريكية – البريطانية، ليلقوا مصيرهم وحدهم في مواجهة آلة التدمير والقتل الصهيونية.. ولنتذكر مشهد الخروج لكثيرين عرايا كما تعرى المفاوض الفلسطيني البائس، ومشهد الخروج بلباس إرادة المواجهة حتى الرمق الأخير في معركة الشرف والإباء للفلسطيني الحر.
ينتصب أمامي الآن.. أسرى القدس والداخل الفلسطيني والدوريات العرب، الذي حرموا منذ هذا الشهر، من الكنتينة التي تصرف لهم، من قبل وزارة الأسرى، في ضوء رفض إدارة مصلحة السجون استلامها، بحجة أن هؤلاء لا يخضعون لمسؤولية وزارة سلطة أوسلو، والتي يجري الضغط عليها في ضوء شروط إدارة الرئيس الأمريكي ترامب ومبعوثه غرينبلات، لوقف حتى المخصصات التي تصرف لذوي الأسرى جميعهم. أي أن تنفيذ هذه الشروط يجري بمنطق خطوة خطوة.
ينتصب أمامي الآن.. الأسرى وجزء منهم يخوض اليوم اضرابًا عن الطعام، كنا نأمل أن يكون خطوة نضالية عامة، لكن يبدو أن واقع الانقسام الذي تجذر منذ عام 2007 بأشكال متعددة، استغلته وزكته إجراءات إدارة مصلحة السجون بالفصل بين معتقلي فتح وحماس، وسياسات اللعب على تناقضات الحركة الأسيرة من جانب، ومن جانب آخر ترسخ بالنزعات والنعرات الفئوية والتنظيمية الضارة، والميل إلى البطولات الفردية، التي لا نجد مفر من الانحناء أمامها، مع الأخذ بعين الاعتبار أنها لا يمكن أن تكون حلا لقضية الأسرى، باعتبارها قضية وطنية عامة.
اليوم.. وفي السابع عشر من نيسان، يوم الأسير الفلسطيني، يتطلع لنا زهاء سبعة آلاف أسير وأسيرة، في سجون الاحتلال الإسرائيلي، بعيون ملؤها الألم والمعاناة والأمل، بأن نرتقي إلى مستوى تضحياتهم، التي عمدوها بزهرات شبابهم، ومعارك الأمعاء الخاوية، ودم وعرق ومرض وأكياس حجرية مطبقة عليهم، لكنها لن تكون أقسى من أن نتركهم وحدهم في معركتهم/معركتنا المصيرية، التي تخلى عنها أصحاب نهج "الحياة مفاوضات"، لنصل للحظة الإدراك الحاسمة، أن لا حرية للأرض دون حرية الإنسان عليها.
الشهداء كما الأسرى يزهرون في نيسان، كما كل العام، ونغدو نحن كذبته البليدة، ولن نكون حقيقته إلا إذا أدركنا أن الوفاء لهم عنوانه الفعل لا الكلام.. (فالحياة مقاومة).