Menu

كلام في الدستور ودوره

عبد الله السّناوي

الدستور مسألة شرعية. هذه حقيقة أولى في أي سجال حول التعديلات الدستورية المقترحة من بعض النواب لا يصح تجاهلها، أو الاستخفاف بتبعاتها.

والدستور مسألة عقد اجتماعي. هذه حقيقة ثانية تتطلب التوافق الوطني والرضا العام قبل الإقدام على أي تعديل، وإلا فإنه إخلال بالاستقرار الضروري لمواجهة التحديات والأزمات التي تعترض مصر الآن.

ولكل دستور فلسفته التي تتسق مع حقائق عصره. هذه حقيقة ثالثة إذا ما شوهت تزهق روحه.

بلغة الحقائق فإنه يصعب تجاوز فلسفة الدستور وروحه من دون أثمان باهظة بالنظر إلى عمق جذوره.

الجذر الأول طلب الانتقال إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة على ما دعت ثورتا «يناير»، و«يونيو».

لم يخترع أحد ذلك الطلب من فراغ سياسي، ولا طرأت فكرته فجأة في مداولات اللجنة التي خولت وضع الدستور.

في «يناير» تبدت بالشوارع الغاضبة أهداف عامة تتبنى الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، لكنها افتقدت أي تحديد للمقصود بها. وكان ذلك طبيعياً في أجواء الثورة، غير أنه أفضى إلى اختلاط مريع في الأوراق، إذ كان ممكناً على سبيل المثال أن يردد الجميع، بغض النظر عن مواقعهم الاجتماعية والفكرية، الالتزام بقضية العدل الاجتماعي من دون أن يقول أحد ماذا يقصد بالضبط؟

الأمر نفسه انصرف إلى طبيعة الدولة، وأيهما له الأولوية، الدستور أم الانتخابات، ومدى الالتزام بالقواعد الديمقراطية في ممارسة الحكم.

وفي ضباب العبارات العامة جرى اختطاف «يناير» من جماعة «الإخوان». ولأسباب أخرى جرى اختطاف «يونيو» من أشباح الماضي.

قوة دستور (٢٠١٤) تعود إلى اتساقه مع طلب التغيير، ونصوصه المنضبطة في توصيف طبيعة الدولة، ونظام الحكم والتوازن بين السلطات، بحيث لا تتغول واحدة على أخرى، ومدى ما يوفره من ضمانات سياسية واجتماعية.

حسب مادته الخامسة فإن «نظام الحكم يقوم على أساس التعددية السياسية والحزبية والتداول السلمي للسلطة والفصل بين السلطات والتوازن بينها وتلازم المسؤولية مع السلطة واحترام حقوق الإنسان وحرياته».

جذر «يناير»، و«يونيو»، امتد بتأثيره إلى الحريات العامة، والحقوق الاجتماعية والثقافية الواسعة، وغير المسبوقة التي انطوى عليها الدستور المصري في طبعته الأخيرة. لم يكن ذلك منحة من أحد بقدر ما كان تعبيراً عن حقائق المشهد المصري في تطلعه إلى مغادرة الماضي بكل سياساته وأساليبه.

استقلال الجامعات، واستقلال القضاء، والتزام الشرطة «بما يفرضه عليها الدستور والقانون من واجبات واحترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية»، بدت كلها تعبيراً عن تحول جوهري في النظر إلى طبيعة الدولة أن تكون دستورية وعادلة، وللنص الدستوري قوته المعنوية التي لا يمكن التقليل من شأنها.

إذا لم يطبق اليوم فغداً، وإذا ما جرى تعديل بعض أحكامه ضد فلسفته فإنه فعل إنكار للتضحيات التي بذلت، والرهانات التي حلقت ذات يوم في الآفاق المفتوحة.

ليست هناك قداسة لدستور، وتعديله ممكن إذا ما اقتضت الضرورة، شرط أن يكون هناك توافق وطني واسع، وألا يمس فلسفته التي تستند إلى جذر الثورة.

والجذر الثاني حقائق العصر، كما تؤكدها الوثائق الدولية، وتلح عليها ثورة الاتصالات والمعلومات. هناك وثيقتان رئيسيتان أصدرتهما الأمم المتحدة، تحكمان إلى حد كبير التفكير الإنساني المعاصر في النظر إلى الخيارات والانحيازات الرئيسية لنظم الحكم.

بصورة، أو أخرى، فهما مرتبطتان، إذ لا يمكن فصل وثيقة الحقوق السياسية والمدنية، عن وثيقة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

بالقدر نفسه، يستحيل أي فصل في الدساتير الديمقراطية بين ما هو سياسي وما هو اجتماعي، بين ما له صلة بتنظيم الدولة على أسس حديثة وضمانات الحريات العامة، وما له صلة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإلا فإنه تجهيل بالعصر وإنكار لحقائقه.

لا حرية تتأسس على فقر مدقع، ولا حقوق اجتماعية ممكنة في ظل التهميش السياسي.

بنص الدستور: «يلتزم النظام الاقتصادي اجتماعياً بضمان تكافؤ الفرص والتوزيع العادل لعوائد التنمية، وتقليل الفوارق بين الدخول والالتزام بحد أدنى للأجور والمعاشات يضمن الحياة الكريمة، وبحد أقصى في أجهزة الدولة لكل من يعمل بأجر».

هناك أعداد متزايدة من الأجيال الجديدة تتطلع إلى الهجرة خارج البلاد يأساً من أي دور يلعبونه، وأي إسهام يشاركون فيه وهذه خسارة كبيرة لبلد يحتاج أبناءه الموهوبين للنهوض بشأنه. 

وهناك أعداد أخرى قد تلتحق من باب اليأس بجماعات العنف والإرهاب، أو تتورط في الجرائم الجنائية وهذه مسألة منهكة للأمن تسحب من رصيد الاستقرار اللازم لحركة الاقتصاد وتنشيط السياحة.

وهناك أعداد ثالثة، يصعب حصرها، تراهن على «ضربة حظ» كالتي يوفرها «زهر الطاولة»، ل«ركوب أول موجة في سكة الأموال» كما تقول أغنية شعبية حققت نجاحاً غير مسبوق في معدلات مشاهدتها والاستماع إليها على شبكة التواصل الاجتماعي.

الظاهرة تستحق نظرة علمية فاحصة من علماء الاجتماع، لنعرف أين وجه الخلل بالضبط في اتساع الاستجابة العامة لأغنية «لو لعبت يا زهر»، في مصر وعالمها العربي، عند الأغنياء كما عند الفقراء.

لماذا تراجع إلى هذا الحد التعويل على الجهد الإنساني، والعمل المضني، والتخطيط المتقن والأولويات الحقيقية في طلب الخروج من الأزمات الاقتصادية؟

إحدى الإجابات الأساسية عدم تطبيق الدستور، بفلسفته، وروحه، ونصوصه المنفتحة على حقائق مجتمعها وعصرها. الذين يطالبون بتعديل الدستور قبل تطبيقه يمنعون عن مصر حقها في تحسين البيئة العامة حتى تنهض من جديد.