Menu

الأم.. هي الفقد الأصعب..!

نصّار إبراهيم

21686330_1924301207844026_9033726246143344011_n

سلام عليك أيتها الأم فاطمة أحمد الذويب الدرعاوي... والدة الصديقين جمال وداوود درعاوي... أم فلسطينية عالية... أم حرست أطفالها كما تحرس أي أم شجاعة عرينها... تحملت الأيام الصعبة... وفي النهاية أبدعت رجالاً وبناتاً بما يليق بأم بدوية فلسطينية حنونة حاسمة وصارمة... ثم رحلت بما يليق بها من كبرياء الأم وروحها المبدعة.

في العزاء بوالدة الدكتور الراحل النائب اللبناني ألبير مخيبر الملقب (طبيب الفقراء)، وكان حينها قد تجاوز الثمانين من عمره (1912 – 2002)، تساءل أحد المعزين عن عمر الراحلة والدته، فردّ مخيبر: "إنّ الأم هي الكائن الوحيد الذي لا يُقاس الحزن على فقده بواقعية العقل ومتوسط العمر، بل إنّ عمراً تمضيه مع الأم أطول يجعل الشعور بالفقد أكبر".

الأم؛ شاعرة الوجود بفطرة الدور والتكوين والطبيعة...! وإلا كيف كان لها أن تواصل بدأب مدهش تقديم الحنان لنا كل صباح وكل مساء وعلى مدار العمر رغم تفاهاتنا وسخافاتنا وحماقاتنا ومشاكساتنا... كيف لها ذلك لو لم تكن تشعر بحسها الأنثوي الأقصى بتوازن نص الحياة ومعناه... إيقاع الموسيقى في ملحمة الولادة والرضاعة وخصب العطاء، كيف تكون كذلك لو لم تدرك كنه الحالة الشعرية الأزلية للوجود... و لهذا فهي ومنذ الخلق الأول تواصل كتابة الشعر على طريقتها... هي ربة الشعر الأولى... وبسبب هذه الخافية الأزلية في سر الوجود، فما أن يبدأ أحدنا أولى خربشاته أو خطواته الشعرية أو الأدبية حتى يعود أولاً وقبل أي شئ لتلك البئر الأولى وفضائها الذاهب نحو البدايات، ليغرف منها شحنة إحساس تشكل الدفعة الابتدائية لأبجدية الشعر وأسراره... لهذا فنحن ننكص أولاً ونعود إليها ومن هناك نبدأ رحلة الصعود والقيامة.

متنوعة وكثيرة أشكال الفقد في حياة الإنسان، فقد يفقد الإنسان وطناً... في هذه الحالة يكون الفقد جمعياً أو فردياً قاسياً... لكن الإنسان يتحمل ويتكيف ويقاوم لاستعادة ما فقد... ويمكن أن يفقد أباً أو إبناً أو إبنة، زوجاً أو زوجة...... وقد يكون صديقاً... كما قد يكون عملاً أو بيتاً أو شجرة... وقد يفقد الإنسان بعض جسده أو بعض عقله أو كله... قد يفقد فرصة أو أملاً... أو ... قد يفقد أي شئ...كل هذا قاسٍ ومؤلم. .. وكل فقد قد تستمر آثاره ومفاعيله قليلاً أو كثيراً أو بين بين... ولكنها جميعها قابلة للتعايش والتعويض ولو جزئياً.

ولكن من بين كل أنواع الفقد يبقى فقد الأم هو الفقد الأعلى... وقريب منه فقد الأب... إنه فقد من نوع خاص ... ذلك لأنه يحتوي كل أنواع الفقد... إنه تكثيفها الأعلى والأكثر عمقاً... لهذا فإنني أتمنى لكل أم أن تعيش أطول ما يكون من العمر... كي يبقى معها أبناؤها وبناتها أطول مدة ممكنة... ومع ذلك سيكون الفقد بالتأكيد أكبر، ولكن في ذات الوقت ستكون متعة اللحظات والأيام والسنوات والعقود التي كانت معها أطول. لتعش كل الأمهات أطول عمر متاح... وليفرح كل بأمه ما دامت ترف بقلبها وعينيها ولا ينسى.

لقد حدثني داوود طويلاً عن والدته.. كان يحدثني وأنا أعيد تشكيل المشاهد.. حدثني عن موهبة الأطفال في الإمساك بذيل ثوب الأم فيما تنفتح عيونهم دهشة على تفاصيل الحياة.. حدثني عن مشاغبات كثيرة.. حدثني عن حكايات كثيرة تروي روح المقاومة والعناد في قلب أم كان همها أن تحمي روح أطفالها ولقمة عيشهم بشرف وأمانة وكبرياء... لقد حدثني كثيراً وكل الأحاديث كانت تعود إلى روح الأم العالي وصلابتها وحنانها وغضبها الأليف والحبيب أيضاً.

فسلام على روحك يا فاطمة أحمد الذويب الدرعاوي.. لقد كنت ووفيت.. ورحلت بكامل بهاء الأمهات.