Menu

ما بين المصالحة والوحدة الوطنية

د. وسام الفقعاوي

المصالحة وخطواتها المنتظرة العنوان الحاضر بكثافة هذه الأيام، ونأمل حقًا أن تتم، وتصدق الأفعال الأقوال، وتطوى صفحة الانقسام ونتائجه الكارثية، لكن مفهوم مفردة "المصالحة" يحضر في ذهني باعتباره مفهومًاً قبلياً/عشائرياً وليس مفهوماً وطنياً، نما وترعرع هذا المفهوم في كنف الانقسام، ويبدو أن الفعالية والحسم في الأمر كان "للجاهات" العربية وليس "للجاهات" الفلسطينية، بعد أن رفع الفيتو من أطراف إقليمية ودولية، كانت لفترة قريبة ترفض كما تعرقل أي خطوة باتجاه تحقيق المصالحة، وفي مقدمة هذه الأطراف، الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة الأمريكية..!! وهذا ما يفتح الباب أمام التساؤل حول الأهداف والمرامي من وراء رفع الفيتو عن "المصالحة"، وتلاحق الخطوات التي اُتخذت، منذ أن وضعت حركة حماس "وديعتها" في يد السلطات المصرية، والتي ترتب عليها حل اللجنة الإدارية، وصولاً إلى قدوم "حكومة التوافق" إلى قطاع غزة، حيث تعقد أول اجتماع بكامل وزرائها على أرضه، وعليه فهل ستكون هذه "المصالحة" مدخلاً لحل أوسع وأشمل للقضية الفلسطينية في إطار إقليمي، بدأ الإعداد له فعليًا في الدوائر الغربية وخاصة الأمريكية وبموافقة "إسرائيلية" مقدمتها يكون بتوحيد مؤسسات السلطة، خاصة وأن الحديث عن "صفقة القرن" حاضر وبقوة، وهذا أمر غير مستبعد؟! أم أن الطرفين الرئيسيين المنقسمين في السلطة وعليها، أعني فتح وحماس، قد وصلا في ليلة وضحاها إلى "قناعة" بأن الانقسام، ضرره أكثر من منافعه، ولا مناص أمامنا سوى المصالحة؟! وإذا كان الأمر كذلك، فهل كان الوصول لهذه القناعة يحتاج لعشر سنوات من التدمير الذاتي المستمر وطنياً واجتماعياً كي نصل لها؟! كذلك، هل يمكن أن تكون المصالحة جدية وحقيقية إن لم تكن الإرادة السياسية كما المصلحة الوطنية الفلسطينية، هي الأساس في الذهاب نحوها، وليس الإرادة الإقليمية والدولية ليس فقط المجافية لحقوقنا وأهدافنا الوطنية، بل وتستهدف النيل منها إن لم يكن تصفيتها؟! 

إن التساؤلات المطروحة والإجابة عليها، يضاعف المسؤولية الوطنية ليس على طرفي الانقسام "فتح وحماس" فقط، بل على الكل الفلسطيني، لذلك لن تكون المصالحة، مصالحة فلسطينية حقيقية، إن لم تكن مدخلًا للوحدة الوطنية، بما هي قوة وتواصل وشراكة وثقة بالذات واحتراما لها، واستثماراً وتحشيداًً وتوحيدا لمكونات وطاقات وكفاءات الشعب الفلسطيني، أمام استحقاقات الصراع مع العدو الصهيوني والقوى الإقليمية والدولية التي تدعمه وتحفظ أمنه وتعزز وجوده.

والوحدة الوطنية كمفهوم وممارسة، ليس مسألة اختيار فقط، بل هي ضرورة وطنية واجتماعية، إن لم تكن ممر إجباري مطلوب منا أن نولجه، وبما يتخطى الفهم القاصر والضيق لها، واختزالها في وحدة فصائلية كانت في أغلب المراحل شكلية، بعد أن جرى تجويفها إن لم يكن تجريفها من الداخل، إلى ما هو أرحب وأوسع وأشمل على الصعيدين الوطني والاجتماعي، كخطوة مصيرية وحاسمة تعطي لأي رؤية وطنية وسياسية قوة ودينامية حقيقية وتطبيقية، تحافظ على ما هو موحِد للشعب الفلسطيني وتعززه باستمرار، وتستجيب لميله الطبيعي وتوقه الدائم لها، بحكم الكثير من التفاعلات الاجتماعية والوجدانية التي يعبر عنها مفهوم الوحدة الوطنية لديه، كرد فعل طبيعي على واقع الاستهداف المستمر لحقوقه وأهدافه ومكتسباته، ومحاولات التبديد والطمس والتمزيق والتذويب والتصفية.

ما سبق يضع الحركة الوطنية الفلسطينية، أمام استحقاقات كبيرة ومهام مباشرة وواقع تتحدد فيه الرؤى والسياسات والمهمات، خاصة أن عدم الاتفاق الواضح والعميق على الخطوط الاستراتيجية في ميادين العمل النضالي المتنوعة، يُبقي بذور الخلاف والشقاق والانقسام قائمة، وعوامل الصراع والانفجار حاضرة، وهذا بدوره ما يتطلب توفير المقدمات والشروط التي توصلنا إلى تحقيق وحدة وطنية حقيقية وشاملة.

وأولى تلك المقدمات والشروط، الاقتناع العميق من كل القوى السياسية الفلسطينية، بأهمية وضرورة الوحدة الوطنية، باعتبارها ناظم ومحدد وموجه للنضال الوطني، ليس كرد فعل على حدث معين أو تحدٍ معين أو ظرف ما أو ضغط من هذا الطرف أو ذاك، وإنما كخيار وضرورة وطنية، وفي ذات الوقت رد استراتيجي على تحديات المرحلة وما تحمله من مخاطر جدية على القضية والحقوق الوطنية كما وجود الفلسطيني برمته.

أما ثانيها، وعي التلازم بين الاقتناع العميق بالوحدة الوطنية، كناظم للنضال الوطني، وبين ضرورة توفير بيئة ديمقراطية تؤمن الشروط الملائمة، لكي تقوم الوحدة الوطنية بوظيفتها ودورها بأعلى درجة من الفاعلية والدينامية والاستمرارية، وإلا سنبقى نغرق في وحل السياسات والممارسات القاصرة الفئوية والتسلطية والإقصائية، مما يفقدها وظيفتها الأساسية، أي توحيد واستثمار الإمكانات والطاقات والكفاءات المتاحة لتحقيق الأهداف الوطنية.

أما ثالثها، هو أن الوصول للوحدة الوطنية بمعناها الواسع والشامل، يستدعي حوارًا وطنيًا حقيقيًا بين كل مكونات الشعب الفلسطيني السياسية والمجتمعية. فإذا كانت الوحدة الوطنية هي الهدف، فإن الحوار الوطني الشامل هو الوسيلة، التي نصل من خلالها إلى وضع القواعد والأسس والنواظم التي ستقوم عليها هذه الوحدة. وعندما نقول حوار وطني شامل كشرط وضرورة لهذه الوحدة، نعني أننا بحاجة لإعادة النظر في مجمل السياسات والخيارات التي حكمت الأداء الفلسطيني لأكثر من ربع قرن على الأقل، بما يضعنا أمام مراجعة جدية وشاملة، للرؤى والاستراتيجيات والسياسات المختلفة.

أما رابعها، الاتفاق الوطني على رؤية واستراتيجية وأطر موحدَة وموحدِة، تحكم الأداء والممارسة الفلسطينية في مواجهة العدو الصهيوني والأطراف الداعمة له ولمشروعه الاستعماري الكولونيالي والتصفوي من جهة، ومتطلبات واستحقاقات الوضع الداخلي وأبعاده الاجتماعية المتعددة من جهة أخرى.

وثمة ما يجب أن يقال هنا، وهو أن منظمة التحرير الفلسطينية وبرغم كل ما لحق بها من ضرر فادح، بحكم الأداء والممارسة القاصرة والارتجالية وغير المسؤولة من قبل القيادة المتنفذة فيها أولًا، وباقي الفصائل المنضوية في إطارها، وتلك التي خارجها ثانيًا، إلا أنها لا تزال تمثل أهم منجز وطني حققه الشعب الفلسطيني خلال ثورته المعاصرة، عبرت ماديًا ورمزيًا عن الهوية والكيانية الفلسطينية، وشكلت إطارًا وطنيًا معبرًا عن وحدة الشعب الفلسطيني، وأهدافه الوطنية العليا، كما حظيت باعتراف رسمي وشعبي عربي ودولي كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، وهذا يتطلب من جميع القوى السياسية والمؤسسات المجتمعية والشعبية الفلسطينية، أن تعمل بجد ومثابرة من أجل استعادة دور ووظيفة المنظمة، والمدخل إلى ذلك هو إعادة بناء مؤسساتها بشكل ديمقراطي وإعادة الاعتبار لميثاقها الوطني وبرنامجها التحرري، وعلى هذا الصعيد أمامنا العديد من الاتفاقات والتفاهمات التي نستطيع أن نبني عليها، ومنها اتفاق القاهرة آذار 2005، ووثيقة الوفاق الوطني (الأسرى) 2006، ونتائج اجتماعات اللجنة التحضيرية التي عقدت في بيروت خلال الشهر الأول من هذا العام والتي بحاجة لاستكمال أعمالها.        
بوضوح وصراحة، لا توجد اليوم أولوية تتقدم على الحفاظ على وحدة الشعب الفلسطيني، في ظل المخاطر التي تتهدد وجوده وحقوقه وقضيته وهويته، وهذا مرهون بالتوافق على رؤية وطنية بممارسة واعية وأطر جامعة وديمقراطية.  
لهذا إما أن نكون أمام مصالحة تهدف في المآل النهائي إلى وضع "رقاب الجميع" على سكة قطار التسوية نحو التصفية كما تريدها الأطراف المعادية والتي يمكن لحظها باشتراطات الإدارة الأمريكية والتي أعلنها غرينبلات من ضرورة اعتراف الحكومة القادمة بالكيان الصهيوني والاتفاقيات والالتزامات الموقعة، ورفض ما يسمى بـ"العنف"، أو نكون أمام وحدة وطنية شاملة وحقيقية، تفتح نافذة أمل نحو استعادة مكانة القضية وحماية الحقوق الوطنية والتاريخية لشعبنا وأمتنا العربية.