يحدث معي مرارًا أن يحين موعد كتابة المقال وأنا لم أحسم أمري حول ماذا سأكتب. فالأسبوع الماضي حافل بالأحداث التي تستحق الكتابة عنها بدءًا بمجزرة النفق، وتسليم المعابر، ومرور مائة عام على "وعد بلفور"، وانتهاء باستقالة رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري.
جاءت مجزرة النفق في توقيت مهم وحساس يتعلق ببدء مسيرة المصالحة الطويلة والمليئة بالألغام، ووضعت المصالحة في امتحان خطير اجتازته بنجاح غير متوقع، فحجم المجزرة أكبر من أن تمر من دون رد، وعدم الرد غير متوقع إذا أخذنا التجارب السابقة، ولكنه يدل على نضج وحنكة سياسية وقدرة فلسطينية فائقة على ضبط النفس ساهم في وقوعها الراعي المصري.
أرادت إسرائيل من خلال ارتكابها للمجزرة إيصال رسالة مفادها أنها ستواصل حربها ضد المقاومة والأنفاق، سواء أكانت هناك مصالحة أم لم تكن، كما أنها طرحت موضوع سلاح المقاومة على أجندة الحوار القادم في القاهرة بما لا يمكن تجنبه، ولا بد من الاستعداد لاتخاذ موقف فلسطيني موحد بشأنه، فلا يمكن وضع المقاومة وسلطة ملتزمة بمنع المقاومة على سطح واحد وتوقع أن يستمر التعايش بينهما لوقت طويل، فإما أن تنزع السلطة سلاح المقاومة، وإما أن تقبل بأن تكون سلطة مجاورة للمقاومة، ولا أقول سلطة مقاومة، وإما الصدام الآتي ولو بعد حين، خصوصًا في وقت يبتز فيه الاحتلال وداعموه السلطة لتنفيذ ما تعهدت به من شعارات بإقامة سلطة واحدة وسلاح واحد.
وفي هذا السياق، من الملح بلورة موقف فلسطيني موحد يستند إلى ما جاء في وثيقة الوفاق الوطني بهذا الخصوص، الذي في جوهره يحتفظ بحق الشعب في المقاومة وممارستها في الوقت والمكان والشكل المناسب، ويحقق تنظيم وإدارة سلاح المقاومة من خلال قرار وطني يتخذ من المؤسسة القيادية الجامعة.
وشهد الأسبوع المنصرم خطوة مهمة، وهي تسليم معابر قطاع غزة إلى السلطة بسرعة وسلاسة، رغم بعض المشاكل التي دفعت موسى أبو مرزوق للحديث عن "أنها تمت بصورة غير لائقة"، معترضًا على غياب الشراكة، والإعلان عن أن معبر رفح سيفتح على أساس اتفاقية المعابر العام 2005.
السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا العودة إلى اتفاقية لم تنفذ طوال سنوات الانقسام العشر، و مصر ليست طرفًا فيها، والعودة إليها تشكل نوعًا من إعادة الاحتلال لمعبر رفح من خلال تمكين الإسرائيليين من التحكم عبر المراقبين الأوروبيين؟
قد يقال إن عدم الالتزام بها يعطي لإسرائيل ذريعة لعدم تنفيذ ما عليها، وهذا قول يمكن الرد عليه بالقول، أنه يعني شيئًا واحدًا، وهو أن تبقى السلطة تدور في نفس الدوامة التي تدور فيها منذ تأسيسها بشكل عام، ومنذ اغتيال الرئيس ياسر عرفات بشكل خاص، إذ التزمت السلطة بالتزاماتها في اتفاق أوسلو من جانب واحد. والمطلوب تفكير مختلف وأداء مختلف قادر على تحقيق أهداف الشعب وحقوقه الوطنية.
كل ما يحدث حتى الآن منذ الشروع في الجولة الحالية من المصالحة يؤكد أن ما يحدث عودة السلطة إلى القطاع بكل التزاماتها، وهذا لا يعكس استفادة من التجربة السابقة منذ تأسيس السلطة وحتى الآن، إذ لم تحقق هدفها الرئيسي بإنهاء الاحتلال وتجسيد الدولة، بل ما حدث عكس ذلك تمامًا.
إن السلطة بحاجة إلى إعادة النظر في شكلها والتزاماتها ووظائفها حتى تتحول إلى رافعة لإنجاز الحقوق وليست عبئًا عليها، فهي كما يقول الرئيس "سلطة بلا سلطة". ويجب إعادة النظر في الاتفاقات التي استندت إليها، بما في ذلك مسألة الاعتراف بإسرائيل.
مسألة الاعتراف بإسرائيل هذه تجعلنا نقف أمام الحملة الواسعة بمناسبة ذكرى وعد بلفور، وهي خطوة جيدة، ولكنها تعاني من معضلة جسيمة تتمثل في تعارض الاستمرار بالاعتراف بحق إسرائيل في الوجود مع تنظيم حملة واسعة ضد بريطانيا ومطالبتها بالاعتذار عن وعد بلفور الذي أعطى فيه من لا يملك لمن لا يستحق، لأن الاعتراف بإسرائيل يشكل تسليمًا بوعد بلفور، ويُضعف المطالبة بالاعتذار والتعويض ومحاكمة بريطانيا، لذا كان سيكون للحملة ضد بريطانيا تأثير أكبر بكثير لو ابتدأت بسحب الاعتراف بإسرائيل، أو تجميده على الأقل إلى حين اعترافها بالحقوق الفلسطينية، أو بالدولة الفلسطينية، لأن الدول تعترف بالدول، وليس كما حصل في أوسلو إذ اعترفت المنظمة بحق إسرائيل في الوجود، في حين اعترفت إسرائيل بالمنظمة، وشتان ما بين الاعترافين. العناد كفر وحان الوقت، بل تأخر كثيرًا، للعمل من أجل توفير متطلبات تجاوز أوسلو قولًا وعملًا .
وفي هذا السياق هناك أسئلة تطرح نفسها بقوة:
لماذا كل هذا الاهتمام بوعد بلفور ومحاكمة بريطانيا ومطالبتها بالاعتذار ولا نعطي اهتمامًا مماثلًا، بل أكثر، بالعوامل والأخطاء والتآمر العربي الذي جعله ينجح في إقامة "دولة إسرائيل" وليس وطنًا قوميًا لليهود فقط كما جاء في الوعد المشؤوم، مع أنها لا تزال مستمرة وتنذر بنكبات جديدة؟
لماذا لا نعمل حملة مماثلة ومستمرة ضد إسرائيل التي جسدت هذا الوعد وترتكب كل أنواع الجرائم باستمرار ضد الشعب الفلسطيني؟
لماذا نستثني الولايات المتحدة من الملاحقة، ونقبل بأن تكون وسيطًا ونتوقع منها أن تبادر إلى تحقيق السلام وهي التي تقدم كل أنواع الدعم والحماية لإسرائيل واحتلالها وعنصريتها وجرائمها؟
لماذا نكتفي بنبش الماضي وغض الطرف عن مخاطر وتحديات وجرائم الحاضر؟
أما القضية الأخيرة التي يتناولها هذا المقال هي استقالة الحريري وما يجري في السعودية، وإذا غضضنا النظر عن كونه مجبرًا عليها، وأنها تعود لما يجري في السعودية أكثر ما تتعلق بلبنان، وهل ستؤدي إلى حرب أم لا، وركزنا على أنها تعبير جديد عن الصراع الضاري على السلطة في الرياض، وتهدف إلى تعبيد الطريق لتولي ولي العهد أكثر وأكثر مقاليد الحكم وخلافة والده.
إن أي حملة ضد الفساد أمر حميد لأنه ينخر النظام العربي من رأسه حتى أخمص قدميه، ولكن كيف يمكن شن حملة ضد الفساد في نظام ملكي مطلق من دون قضاء مستقل ولا مؤسسات منتخبة، وفي ظل غياب الرقابة الشعبية والمجتمع المدني الفاعل، عدا عن عدم الحق في الحصول على المعلومات، لدرجة أنه غير معروف بالضبط مبررات الحملة، وهل هي ضد الفساد، ولماذا هؤلاء فقط، وهل هم قيد التحقيق أم صدرت اتهامات ضدهم، أم هي إحباط لمحاولة انقلاب فاشلة استخدمت فيها الحرب على الفساد للتغطية على حقيقة ما يجري والحصول على الدعم الشعبي، أم تستهدف جمع الأموال لتغطية المصاريف الباهظة جراء الحروب الداخلية والخارجية وتكاليف إرضاء إدارة ترامب؟
أظن أن ما يجري علامة تنذر بأن التصدع قد بدأ في القلعة السعودية التي صمدت طوال عشرات السنين رغم كل العواصف العاتية والزلازل التي عصفت في المنطقة بما فيها ما سمي "الربيع العربي" الذي قادت السعودية الحرب ضده وقد تكون أحد ضحاياه. هل بدأ الزلزال السعودي يقترب إن لم يكن قد بدأ فعلًا؟ "الله يستر من تداعياته على المملكة والمنطقة"، وربما يفتح طريق النجاة لشعوب المنطقة التي هي بحاجة إلى تغيير شامل.