Menu

"الربيع العربي" وحضارة السوق

أرشيف: تظاهرات الربيع العربي

د. جلال أمين

ما أكثر ما نصادف فى التاريخ أن يقع حادث ما فنفهمه بمعنى معين، ويعلن أصحابه له هدفا أو أهدافا بعينها، ثم يظهر بعد مرور الزمن أن مغزاه التاريخى مختلف تماما عما كان يظنه الناس وقت حدوثه، وأن أهدافه الحقيقية ليست هى ما أعلن عنه فى البداية.

عندما قامت الثورة الفرنسية فى 1798 فهمها الناس على أنها ثورة من أجل "الحرية والإخاء والمساواة"، ثم تبين بعد أقل من نصف قرن من قيامها، أنها كانت فى الحقيقة ثورة الطبقة البورجوازية ضد الاقطاع، وأن هدفها الحقيقى هو تسليم الحكم لهذه الطبقة الحديثة بدلا من الاقطاعيين.

وعندما قامت الثورة الروسية فى 1917، قدمت للناس على أنها ثورة من أجل تحقيق الاشتراكية والعدالة الاجتماعية، بل ذهب بعض المتحمسين لها الى أنها بداية لحضارة جديدة، ولكن كتب مفكر فرنسى "ريمون آرون" بعد ذلك بأربعين عاما، أن المغزى الحقيقى للثورة الروسية هو أن تلحق روسيا (المتخلفة اقتصاديا عن الغرب) بالدول الرأسمالية المتقدمة، فتبنى مثلها "المجتمع الصناعى الحديث".

وعندما قامت الحربان العالميتان فى النصف الأول من القرن العشرين، قدمت كل منهما لشعوب الدول المتحاربة، على أنها حروب قومية، تستهدف الدفاع عن الوطن، أو حماية الديمقراطية، ولكننا نعرف الآن أنها كانت فى الحقيقة منافسة بين دول استعمارية من أجل أن تحتفظ كل منها بمستعمراتها، أو أن تضيف إليها مستعمرات أو مناطق نفوذ جديدة.

ومنذ ربع قرن قامت ثورات فى دولة بعد أخرى من دول أوروبا الشرقية، انتهت بسقوط الاتحاد السوفيتى نفسه، وتفككه الى عدة دول، وقيل وقتها (بل ولا يزال يقال)، إنها كانت ثورات من أجل الديمقراطية والتخلص من الحكم الشمولى الاستبدادي، ولكن هناك من رأى فيما حدث انتصارا جديدا لما يمكن أن يسمى بـ"حضارة السوق"، اذ امتدت هذه الحضارة، نتيجة لسقوط الشيوعية، لتكسب أراضى جديدة، فتظفر بأسواق جديدة تحتوى على ملايين من المستهلكين الجدد الذين كانوا ممنوعين، فى ظل النظام الشيوعي، من الاشتراك فى مهرجان المجتمع الاستهلاكى العظيم.

عندما قامت ثورة فى دولة عربية بعد أخرى خلال الخمس سنوات الماضية، رفعت أيضا شعارات عظيمة تدور حول القضاء على الفقر، وتحقيق الديمقراطية، واحترام الكرامة الإنسانية، مما كان يناسبه تماما ما وصف "الربيع العربي"، لو كان هذا هو المغزى الحقيقى لهذه الثورات، ولكن حدث خلال هذه السنوات الخمس ما نعرفه جميعا من خيبة الآمال، فى دولة عربية بعد أخري، مما يجعل من الملائم جدا أن نتساءل عما اذا كان المغزى الحقيقى لما حدث، فى هذه المرة أيضا، مختلفا تماما عن معنى الشعارات التى رفعتها هذه الثورات.

لسنا فى حاجة هنا، كما أننا لم نكن فى حاجة قط، فى أى من الأمثلة التاريخية السابقة، الى الاعتقاد بوجود "مؤامرة"، فالبورجوازية فى فرنسا لم "تتآمر" على الاقطاع، ولا كان الماركسيون فى روسيا "متآمرون" ضد الشعب الروسي، ولا كان زعماء أوروبا خلال الحربين العالميتين "متآمرين" ضد شعوبهم، لقد كان هؤلاء جميعا يؤمنون بما يقولون، ويصدقون الشعارات التى يرفعونها، عن الحرية والمساواة، وعن العدالة الاجتماعية، وعن حماية الوطن من الأعداء، وهكذا كان أيضا الثوار العرب فى الخمس سنوات الماضية ولكن "النية" شيء، و"المغزى التاريخي" شيء آخر، ونحن نكتشف المغزى التاريخى للحدث، ليس مما يقوله ويؤمن به أصحابه، ولكن مما تفرضه الظروف الاجتماعية، وما تمليه العلاقات الدولية السائدة.

ما هى هذه الظروف إذن، وما هى العلاقات الدولية السائدة التى تكاد تحتم اتجاه هذه الثورات العربية فى مسار دون آخر؟ وما الذى يجعلنا نرجح أن الذى يحدث فى الدول العربية الآن هو جولة جديدة فى تطور "حضارة السوق"، حيث تقوم هذه الحضارة "أو هذا النظام" بضم أراض جديدة الى ما سبق له ضمه؟

إنى أبدأ بالاعتراف بأنى أنطلق من وجهة نظر محددة "قد لا يتفق معها القارئ"، وهى إعطاء الأولوية فى تحديد مسار الأحداث التاريخية الكبيرة، للتطور التكنولوجي، وليس للأفكار، أو الآمال والطموحات، قد يبدو هذا الترتيب مؤسفا "وهو فى نظرى كذلك"، ولكنى لا أجد حيلة لإنكاره، الإنسان للأسف تحكمه الحاجات المادية المباشرة أكثر مما تحكمه العواطف والأفكار النبيلة، بل إن العواطف والأفكار تتكيف مع الوقت مع هذه الحاجات المادية أكثر مما يحدث العكس، ونظام السوق هو النظام الذى يسمح أكثر من غيره، بانطلاق التطور التكنولوجي، ليعبر البحار والمحيطات، وليهدم أقوى السدود، وليتجاوز أشد الحواجز مناعة، حدث هذا طوال الخمسمائة عام الماضية، منذ بدأ الأوروبيون فى استعمار العالم الجديد، وفى انتشار الثورة الصناعية من بلد لآخر فى أوروبا وأمريكا، ثم فى الدول الاشتراكية نفسها، غزت حضارة السوق الحضارات الآسيوية، بداية من اليابان، وحتى الصين والهند، ثم أسقطت النظام الشيوعى فى الاتحاد السوفيتى وبقية أوروبا الشرقية، باسم نشر الديمقراطية، وها هى الآن تقوم بغزو العالم العربى باسم "ثورات الربيع العربي".

قد يقال: وهل كان النظام السائد فى البلاد العربية قبل هذه الثورات، مختلفا عن نظام السوق؟ قد يكون من الممكن وصف ذلك النظام بهذا الوصف، ولكنه كان من نوع "رث"، أو "متخلف"، وهناك من القوى الخارجية أقرب الى ما يعرف بنظام "المحاسيب"، حيث تغلب العلاقات الشخصية (أو الشللية) مع أصحاب النفوذ، على العلاقات القائمة على حساب الربح والخسارة وتعظيم الأرباح.

قد يرجح صحة هذه النظرة ما نلاحظه من أن البلاد العربية التى لم تشهد خلال هذه السنوات، ثورة أو انتفاضة أو تطورات من النوع الذى أطلق عليه وصف "الربيع العربي"، هى بلاد لا تحتاج "حضارة السوق" الى غزوها فى الوقت الحاضر، قد تحتاج هذه البلاد حقا الى ديمقراطية أكثر، أو الى عدالة اجتماعية أكثر، ولكنها (ويا للغرابة) لم تشهد "ربيعا عربيا" مثلما شهدت غيرها.

قد يرجح صحة هذه النظرة أيضا، ما نراه فى بعض البلاد العربية، التى شهدت مثل هذه الثورات، من سير حثيث نحو المزيد من "الخصخصة" وتحرير الاقتصاد من تدخل الدولة، حتى بالمقارنة بما كان سائدا من قبل.

إن الكلام يتردد بين الحين والآخر بأن ما يحدث الآن فى البلاد العربية، يذكر بما وصفته وزيرة سابقة للخارجية الأمريكية بـ"الفوضى الخلاقة"، كما تتردد بين الحين والآخر الإشارة الى أن العالم العربى يشهد الآن تكرارا لما حدث فى أعقاب الحرب العالمية الأولى من تجزئة وتقسيم وتوزيع جديد لمناطق النفوذ طبقا لاتفاقية "سايكس بيكو"، ولكن القول بـ"الفوضى الخلاقة" وإن كان يسير بحق الى ما تعيشه البلاد العربية اليوم من فوضي، فإنه لا يدلنا بالضبط عما هى تلك الثمار البديعة التى ستقوم هذه الفوضى بخلقها فى النهاية، أما تشبيه ما يحدث بما حدث نتيجة لاتفاقية سايكس بيكو، فقد لا يكون صحيحا إلا من حيث دور العوامل الخارجية فى تطور الأحداث العربية، وربما أيضا من حيث الرغبة فى التجزئة والتفرقة، ولكنه لا يفيدنا كثيرا فى اكتشاف الدافع الحقيقى وراء كل ذلك، فهل التشخيص الحقيقى لهذا كله هو كسب موطئ قدم جديد لـ"حضارة السوق"؟

نقلاً عن: الأهرام