مازال الصراع العربي الصهيوني مستمراً حتى اللحظة وسيستمر , فطبيعة الصراع ليست عسكرية فحسب بل تمتد إلى ما هو أكثر من ذلكـ فهو صراع حضارات وثقافة وجذور تمتد حتى القدم , وتقع العاصمة الفلسطينية القدس في مركز هذا الصراع.
فرغم استيلاء الاحتلال على كامل المدينة المقدسة إبان حرب 1967 شرقها بغربها إلا أنها مازالت تحتل الصدارة في نفوس العرب بشكل عام والفلسطينيين بشكل خاص على اختلاف أماكن تواجدهم وتنوع دياناتهم , فهي تعتبر من أكثر المدن الضاربة في القدم عالمياً , وتحمل مكانة دينية وحضارية لدى الملايين من سكان هذا العالم، وبالنسبة للفلسطينين هي اكثر من ذلك ، هي عاصمتهم وحلمهم المسلوب.
عيون تراقب , وقلب يخفق !!
على مر التاريخ لم تفارق القدس عيون من يقفون على الخط الأول للمواجهة , فهي الحاضرة في الوجدان وإن منعوا من رؤيتها كما هو الحال مع سكان قطاع غزة المحاصر , فمنذ اشتعال فتيل انتفاضة الأقصى في مطلع عام 2000 صودر حق الغزيين بالعبور إلى الأراضي المحتلة بما فيها القدس وتم وضع العديد من العراقيل أمام المواطنين لتجريد القدس من هويتها العربية الفلسطينية , رغم كل الأصوات في هذا العالم التي كانت تنادي بمنع المخطط الصهيوني لاغتصاب القدس إلا أن المشروع الصهيوني صَعّدْ من هجماته تجاه المدينة المقدسة في سبيل تهويدها وعيون الفلسطينيين مازالت ترتقب محاولةً حماية العاصمة الثقافية والدينية والحضارية للدولة الفلسطينية ؛ إلى أن جاءت الحرب الأخيرة على القطاع لتجمل بعضا من الواقع المفروض على الفلسطيني فتتلقفه السياسة الصهيونية وتدخله في حسبتها لتحمى مصالح دولة الكيان وتنفذ مخططاته الخبيثة , فقررت سلطات الإحتلال تقديم تسهيلات مشروطة لعبور معبر بيت حانون نحو القدس والضفة الغربية، في مسعى منها لامتصاص احتقان الغزيين ، إضافة لرغبتها بالظهور كما لو كانت تدخل تسهيلات على حياة الغزيين والحصار المفروض عليهم .
سحر المدينة
الدكتور فرج الجربة - 66 عاماً - هو أحد المحظوظين الذي استطاعوا زيارة مدينة القدس في الآونة الأخيرة مع الإشارة بأنه قد زارها أكثر من مرة قبل العام 2000 ولكن هذه المرة كانت تختلف باختلاف التاريخ ؛ على حد تعبيره , حيث يلخص لنا تفاصيل رحلته إلى القدس التي استمرت قرابة 12 ساعات إلى المدينة المقدسة فيقول : " عندما تجتاز معبر بيت حانون تحس بدفء المكان وعبق الأرض المسلوبة فالهواء متغير وإحساس بالفرحة يدخل إلى قلبك .. " يستدرك الدكتور فرج قائلاً: " يجوز لأني أب لثلاثة شهداء ولم يتم إيقافي على المعبر على عكس ما كنت أتوقع "
ويفيد الجربة عن طبيعة الرحلة ما بعد معبر بيت حانون قائلاً : " في الباص الذي يقوده واحد من فلسطينيي الداخل تجمع البطاقات الشخصية وتبقى إلى حين العودة للمعبر مرة أخرى , استمرت رحلة الوصول إلى مدينة القدس 3 ساعات تقريباً عند الوصول إلى المدينة كانت الساعة قد شارفت على العاشرة صباحاً تقريباً من يوم الجمعة فنزلنا عند باب الأسباط وهناكـ قد افترقنا لنتجمع الساعة 4:00 مساءً لننطلق في رحلة العودة إلى قطاع غزة
وحسب ما أفاد الجربة فإن حفاوة الترحيب من أهلنا في القدس وأهالي الضفة الغربية لسكان قطاع غزة "كان جنونياً" وكأنما قد خرجوا من الأسر حيث يقول : " عند إقترابي من مسجد الصخرة كان هناكـ أحد الأخوة الضفاوية يحث المصلين على إخلاء مساحة لإخوانهم أهالي غزة .. "
أم ناهض -61 عاماً - تقول : " الرحلة إلى القدس كانت سهلة وميسرة ولو يكن بها أي عراقيل فبعد أن سجلت اسمها في الإدارة المدنية بشهر قد تم تحديد موعد زيارتها " أم ناهض التي زارت القدس مرة واحدة قبل ذلك تؤكد على أن المدينة مازالت كما هي مرسومة في ذاكرتها بغض النظر عن تطور البنيان التي شهدته المدينة في حارة الشرف أو الحارة اليهودية كما جرت العادة على تسميته , حيث تقول : " وإحنا جايين بالباص إتذكرت زيارتي للمدينة عام 1989 , المدينة لسا متل ما هية ناسها وأهلها ومعالمها وبيوتها , مع إنه حارة اليهود مبنية بناء جديد , لكن القدس متل ما تركتها في الزيارة الأخيرة .. "
موعدُ لم يأتِ
هناك العديد من المواطنين الذين يتمنوا زيارة المدينة المقدسة ولو لساعات ولكن القيود التي تحددها السلطات الصهيونية تقف أمام رغباتهم المشروعة بزيارة هذه البقعة من الأرض؛ أبو محمد القيق -64عاماً – لم يحن موعد رحلته بعد وما زال ينتظر على أحر من الجمر أن يُعلن عن اسمه في الكشوفات التي تصدرها الإدارة المدنية بشكل دوري , حيث يقول : " أنا سجلت من شهرين وإن شاء الله يطلع إسمي , صارلي أكثر من 30 سنة ما صليت في المسجد الأقصى ونفسي أشوف القدس "
أم محمد -54 عاماً – تتمنى زيارة القدس ولو لساعة واحدة فقط ولكن لا تنطبق عليها الشروط التي وضعها المحتل فهي لم تبلغ الستين عاماً بعد؛ حيث تقول: " لقد ذهبت إلى مكتب الإدارة المدنية أكثر من مرة حتى أستطيع الانضمام إلى كشوف المسجلين للذهاب إلى القدس ولكن دائماً أُقابل بالرفض لأنني لم أبلغ العمر المطلوب. "
من لم يزر القدس من الغزيين خصوصا صغار السن ابتكروا طرق يحتالون فيها للوصول للمكان " معنويا"، في الوقت الذي يتعذر وصولهم المادي اليه، حيث يقوم العشرات من شبان وشابات غزة بالطلب من أصدقاء لهم في القدس بالتقاط صور لاوراق قد كتبت عليها أسماء هؤلاء الغزيين في ساحات المسجد الأقصى واحياء مدينة القدس، فيما قام اخرين منهم بدبلجة صور شخصية لهم في القدس
روح لن تفارق الجسد
تبقى مدينة القدس أحد أهم المدن الفلسطينية وهي العاصمة الأبدية التي لن تحيد عنها البوصلة الوطنية وزيارتها هي حق طبيعي لكل المواطنين الفلسطينيين , فهي القلب النابض في جوف كل فلسطيني وهي الهدف الأسمى لكل التضحيات , فيما يقف الغزيين اليوم امام التضحيات التي قدموها في الحروب الأخيرة على القطاع بما تضمنته من مجازر وحشية وهمجية ويرونها ضرورية في سبيل القدس واسترجاع أراضينا المحتلة .