Menu

25 عامًا على أوسلو: مراجعة من داخل الفريق الصهيوني المفاوض

ترجمة وتحرير ومراجعة: أحمد مصطفى جابر ود. وسام الفقعاوي

بقلم: جويل سنغر.

 [ من الذي طلب أن يعود عرفات وفريقه إلى غزة ثم الضفة؟ ومن صاحب فكرة إقامة شرطة فلسطينية مسؤولة عن حفظ النظام في المناطق المحتلة؟ وما هي قصة الاعتراف المتبادل؟ ولماذا لم يرد رابين تجميد الاستيطان؟ وبماذا وعد المفاوضون الفلسطينيون نظرائهم الصهاينة في أوسلو؟ وما السر في تشدد الوفد الفلسطيني في الفريق المشترك في واشنطن ومرونة المفاوضين في أوسلو؟

كلها أسئلة يجيب عنها جويل سينغر محامي اتفاقية أوسلو عن الجانب الصهيوني، في تفاصيل ربما لم تكن معروفة من قبل، ولم يذكرها أو نسي ذكرها كتاب المذكرات الفلسطينيين من مفاوضي القناة السرية.

في هذا النص تفاصيل بين ثناياه يظهر كيف أن اتفاقية أوسلو المشؤومة كانت مكسبا استراتيجيا للعدو الصهيوني وخسارة صافية للشعب الفلسطيني؟ خسارة لم يدرك أبعادها ومخاطرها مفاوضو منظمة التحرير، أو لعلهم أدركوا وتسابقوا لتحقيق "إنجاز" ما، والدوس على مصالح وتضحيات شعبهم.

لا يعتبر جويل سينغر شخصية عادية في تاريخ اتفاق أوسلو، بل كان أحد أبرز مهندسيه من الجانب الصهيوني، من خلال علاقاته وتأثيره على إسحق رابين وشمعون بيريس، ومن خلال دوره المباشر في التفاوض مع الفلسطينيين.

كان جويل سينغر يشغل منصب المستشار القانوني للوفد "الإسرائيلي" لمحادثات أوسلو، ومقربا من رئيس الوزراء الصهيوني اسحق رابين، ومفاوضا على اتفاق أوسلو واتفاقات تنفيذها مع منظمة التحرير الفلسطينية بين عامي 1993 و 1996، ولا نبالغ بالقول أن موافقته كانت ضرورية على كامل الإعلان، خصوصا بعد أن طلب منه رابين مراجعة المسودة الأولى للاتفاق، وكان له دور محوري في عدد من القضايا لعل أبرزها رسائل الاعتراف المتبادل.

وكان دوره قد ابتدأ عندما دعاه نائب وزير الخارجية آنذاك يوسي لمراجعة مسودة إعلان المبادئ المتعلق بترتيبات الحكم الذاتي المؤقت، والتي تم التفاوض عليها سرا في أوسلو بين ممثلين لمنظمة التحرير الفلسطينية واثنين من الأكاديميين الإسرائيليين، هما يائير هيرشفيلد ومهندس أوسلو الأساسي رون بونداك. في تلك الأيام، كان ممثلو الكيان الصهيوني منخرطين في مفاوضات واشنطن مع الوفد الأردني الفلسطيني المشترك، تحت رعاية وزارة الخارجية الأمريكية، ولم يكن أحد من هذه الأطراف يعلم ما يدور في أوسلو، ولكن بسبب عدم تحقيق أي تقدم حقيقي بقرار وتعليمات من ياسر عرفات لأعضاء الوفد الفلسطيني في واشنطن، ظهرت الحاجة إلى القناة الخلفية، حيث يزعم سينغر أنه وعلى خلاف تعليمات التشدد التي أعطيت للوفد الفلسطيني ضمن الفريق الأردني الفلسطيني المشترك، أظهر ممثلو منظمة التحرير في أوسلو مرونة كبيرة واستعدادا للمساعدة في التوصل إلى اتفاق للحكم الذاتي في الضفة الغربية وقطاع غزة تحت شروط مقبولة للكيان الصهيوني.

كان سينغر يعمل محاميا في واشنطن بعد تقاعده من الجيش الصهيوني برتبة رائد، حين تم استدعاؤه لمراجعة مسودة الاتفاق، من قبل رابين وبيريس، حيث كان سابقا رئيس قسم القانون الدولي في جيش الاحتلال، وكان مسؤولا، من بين أمور أخرى، عن الحفاظ على سيادة القانون، وله دور في الموافقة على كل أمر عسكري نشره القادة العسكريون في الأراضي الفلسطينية المحتلة وكل إجراء أمني رئيسي تم اتخاذه، وقضى وقتا طويلا في التصدي للالتماسات الفلسطينية في المحكمة العليا، مدافعا عن الجيش وقراراته، كما قام بصياغة قرارات مجلس الوزراء الإسرائيلي المتعلقة بالموضوع، والأهم من ذلك، أنه كان ممثل الجيش الصهيوني في الوفد "الإسرائيلي" الذي تفاوض على اتفاق الحكم الذاتي مع مصر والولايات المتحدة في أعقاب اتفاق كامب اتفاق ديفيد 1978، وهو أصلا من وضع خطة الحكم الذاتي الإسرائيلية مفصلة لحكومة مناحيم بيغن. وكان على دراية بكل التفاصيل المتعلقة بالمناطق المحتلة، وبما لا يقل أهمية، كان أحد المقربين من رئيس الوزراء رابين نتيجة للعمل معه عن كثب، لمدة خمس سنوات في الثمانينيات عندما كان وزيرا للحرب في عهد حكومة تحالف الليكود والعمل.

في هذا النص يسرد سينغر تفاصيل غير معروفة عن توقيع اتفاق أوسلو والعقبات التي جابهته، ويسرد من وجهة نظره، أهم الإخفاقات وأهم الإنجازات لهذا الاتفاق في مرور 25 سنة على توقيعه - المحرر].

بعد مراجعة المسودة، التقى رأيي السلبي حولها مع بيريس وبيلين، ثم أخذني بيريس لمقابلة رئيس الوزراء رابين، حيث أوضحت ما ظننت أنه أوجه القصور الرئيسية في المسودة، ووافق رابين معي تماماً، ومع ذلك، وبدلاً من الاستنتاج بأنه يجب التخلص من المسودة وإغلاق قناة أوسلو الخلفية، سألني رابين عما إذا كان بإمكاني إصلاح المسودة. عندما قلت "نعم" طلب مني أن أفعل، ثم أرسلني إلى أوسلو، حيث قضيت الأشهر الأربعة التالية في العمل مع منظمة التحرير الفلسطينية على تحديد مشروع، تحت إشراف رابين الدقيق، حتى تم التوصل إلى اتفاق كامل، وكان إعلان المبادئ الذي تم التوقيع عليه في أوسلو في 20 آب/أغسطس 1993، ثم وقع رسميا في واشنطن في 13 أيلول/سبتمبر 1993، وطوال تلك الفترة، عملت مع رابين وبيريس كمتطوع. وبمجرد التوقيع على الإعلان، قبلت عرض بيريس بأن أصبح مستشارًا قانونيًا لوزارة الخارجية الإسرائيلية، حيث قضيت السنوات الثلاث التالية في التفاوض على تنفيذ اتفاقيات أوسلو، بما في ذلك اتفاق غزة-أريحا، والاتفاق الانتقالي الذي مد ترتيبات الحكم الذاتي من غزة إلى الضفة الغربية.

 بعد عدة أشهر تم اغتيال رابين وفي تشرين الثاني/نوفمبر عام 1995، عدت إلى الولايات المتحدة، وهنا أسجل رأيي المهني في نجاحات وأخطاء أوسلو بعد وقت كاف على تأمل هذا الاتفاق ونتائجه.

الجزء الأول: ثلاثة أخطاء رئيسية صادرة عن حكومة رابين-بيريس.

الخطأ الأول: الوثوق بياسر عرفات ليكون شريكاً تفاوضياً راغباً وقادراً:

عندما يعتبر قائد دولة واحدة أن الوقت قد حان لمفاوضات سلام مع زعيم العدو، هناك سؤالان مهمان يجب على القائد النظر فيهما: هل الزعيم الآخر على استعداد لتقديم التضحيات اللازمة لتحقيق السلام؟ وهل هذا القائد قوي بما فيه الكفاية ليقدم تلك التضحيات ويفرض الصفقة داخليا، أي هل هو قادر؟

يجب أن تكون الإجابة على هذين السؤالين "نعم". إن وجود زعيم راغب ولكنه عاجز أمر سيء في التوصل إلى معاهدة سلام كزعيم قادر ولكنه غير راغب.

والآن للحصول على الفلاش باك، عندما كان موشيه دايان وزير الخارجية الإسرائيلي في أواخر السبعينيات، سأل أحد الدبلوماسيين الأمريكيين ذات مرة: "لماذا لا توافق إسرائيل على التحدث مع عرفات؟رد دايان: "لأنه إرهابي ولا تتحدث إسرائيل مع الإرهابيين".

 

أجاب الدبلوماسي الأمريكي: عرفات لم يعد إرهابياً، هناك بعض الفصائل داخل منظمة التحرير الفلسطينية، تواصل المشاركة في الإرهاب، لكن عرفات لا يسيطر عليها، ورد دايان "إذا لم يسيطر عرفات على شعبه هذا سبب أكبر لنا حتى لا نتحدث معه ".

كان الخطأ الرئيسي لرابين وبيريس في اتخاذ قرار الدخول في اتفاق أوسلو مع عرفات في التسعينيات،  حيث غرر بهم، معتقدين بأن عرفات قد تغير منذ تقييم دايان له.

أولاً، استنتجوا أن عرفات قادر على عقد صفقة مع إسرائيل، وعلى مدى سنوات، كانوا قد شهدوا قدرة عرفات على إعاقة أي صفقة حاولت إسرائيل القيام بها، مع أي أطراف غير منظمة في منظمة التحرير الفلسطينية بشأن مستقبل المناطق. لقد عرقل الخيار الأردني، وهي خطة ناقشتها عدة حكومات إسرائيلية مع العاهل الأردني الملك حسين، والتي كانت ستُعاد بها الضفة الغربية إلى الأردن، ولقد أحبط محاولات إسرائيل للتفاوض على خطة للحكم الذاتي في أعقاب اتفاق الإطار في كامب ديفيد لعام 1978، حيث وافقت مصر على تمثيل مصالح الفلسطينيين. وخلال الثمانينيات دعمت إسرائيل بناء القيادات المحلية، بعيدا عن السيطرة السياسية لمنظمة التحرير في الضفة الغربية، اختفت هذه القيادات، إما قتلوا أو هددوا بالقتل إذا تجرؤوا بالحديث مع إسرائيل، وفي أوائل التسعينيات، تم تشكيل وفد أردني فلسطيني مشترك في أعقاب مؤتمر مدريد للتفاوض مع إسرائيل، مع وفد فلسطيني تم اختياره بعناية بعيدا عن منظمة التحرير كما يفترض، وسرعان ما أصبح واضحا أن عرفات يسيطر عليهم أيضا، وأعطاهم تعليمات منعوا بموجبها من التقدم في أي اتفاق، وهذا الأمر أدى برابين وبيريس إلى الاعتقاد أن عرفات قوي بما فيه الكفاية للتوصل إلى اتفاق مع إسرائيل بل أنه الوحيد القادر على هذا.

ثانياً، نقلت الرسائل التي أرسلها عرفات إلى إسرائيل في أوسلو، من خلال وفد منظمة التحرير الفلسطينية، استعداده لعقد صفقة تاريخية مع إسرائيل، ومن الواضح أن المواقف المقدمة في أوسلو كانت أكثر اعتدالا من تلك التي قدمها في واشنطن الفريق الفلسطيني غير التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، لدرجة أنه عندما تم توقيع اتفاق أوسلو فإن عرفات ورئيس المفاوضين الفلسطينيين أحمد قريع تم انتقادهما بقسوة من قبل بعض أعضاء الفريق الفلسطيني، الذين تم إخفاء قناة أوسلو عنهم، وهكذا استنتج رابين وبيريس أن عرفات لم يكن قادراً على عقد صفقة فحسب، بل كان أيضاً على استعداد للقيام بذلك.

لجميع هذه الأسباب، كان يُنظر إلى عرفات من قبل رابين وبيريس كشريك تفاوضي مثالي، وهو زعيم ذو خلفية متشددة، لكن عندما تغيرت الظروف، كان مستعدا أن يرتفع إلى مستوى الحدث والمخاطر المتوقعة، ومثل شارل ديغول في الجزائر وريتشارد نيكسون في الصين، سيخون قاعدته من الأتباع المخلصين، ويفعل ما لا يمكن تصوره من خلال عكس موقفه، علاوة على ذلك، اعتقدوا أنه يملك شرعية كافية لإقناع شعبه بإتباعه وقوته الكافية لفرض قراراته ضد أي معارضة.

في الواقع، خلال العامين الأولين من إعلان أوسلو أثبت عرفات أنه مستعد وقادر، ومرارا وتكرارا، لاحظت أنه تمكن من اتخاذ القرارات الصعبة التي أظهرت عزمه على دفع عملية السلام إلى الأمام من خلال تقديم تنازلات صعبة، ورائعة جدا، ويسيطر على الجزء الأكبر من الشعب الفلسطيني، من سكان غزة، و الضفة الغربية، ولكن عندما بدأت حماس ومنظمات إرهابية أخرى في قتل الإسرائيليين، أثبت عرفات أنه غير قادر، بل كما قال العديد من الإسرائيليين، غير راغب في وقف الإرهاب،  وعندما تحول تركيز المفاوضات من مناقشة ترتيبات الحكم الذاتي - والتي في التعريف تتناول قضايا عابرة مؤقتة - لمناقشة مرحلة ما بعد الاستقلال الذاتي، وقضايا الوضع الدائم، ازدادت مواقف عرفات صلابة وأصبحت جامدة تماما.

ثم اتضح أن عرفات مستعد لاتخاذ خيارات جريئة فقط فيما يتعلق بالقضايا الأقل أهمية، وعندما وصلت الأطراف إلى القضايا المهمة، صار عرفات يسعى إلى إجماع داخلي فلسطيني، وهذا يتطلب أن تكون مواقفه مقبولة لدى عدوه اللدود حماس، وبعبارة أخرى بدلاً من ديغول - نيكسون أو حتى أنور السادات، أثبت عرفات في النهاية أنه غير راغب وغير قادر.

وريث عرفات، غير المؤثر محمود عباس (المعروف باسم أبو مازن)، في حين أنه ربما أكثر استعدادا، وخاصة فيما يتعلق بالحفاظ على التعاون الأمني ​​مع إسرائيل، هو أقل قدرة على اتخاذ هذا النوع من القرارات التاريخية المطلوبة لوضع نهاية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. لا عجب إذن في أن عملية السلام التي انطلقت في أوسلو قد توقفت تماماً.

الخطأ الثاني: السماح لمنظمة التحرير الفلسطينية بأن تكون مسؤولة عن الأمن الداخلي للفلسطينيين:

كان الأمن في الضفة الغربية وقطاع غزة بعد احتلال إسرائيل لهذه المناطق في عام 1967 يعني تقليديًا ثلاثة عناصر رئيسية: (1) الدفاع عن التهديدات الخارجية (2) الحفاظ على النظام العام المتعلق بالإدارة العادية وغير الأمنية للاجئين الفلسطينيين (3) الحفاظ على الأمن الداخلي، أي الدفاع ضد التهديدات الإرهابية لإسرائيل والإسرائيليين.

عندما تفاوضت إسرائيل ومصر والولايات المتحدة في اتفاقية كامب ديفيد عام 1978، اتفقوا جميعا على أنه خلال فترة الحكم الذاتي التي ستمتد لخمس سنوات، ستواصل إسرائيل مسؤوليتها للدفاع ضد التهديدات الخارجية، وأن قوة الشرطة الفلسطينية القوية ستنشأ للحفاظ على النظام العام.

 لم تتناول اتفاقية كامب ديفيد أصعب الأسئلة حول من سيكون مسؤولاً عن الحفاظ على الأمن الداخلي، وخلال السنوات الثلاث من التفاوض على اتفاق تفصيلي للحكم الذاتي بعد كامب ديفيد، جادلت مصر، التي تمثل المصالح الفلسطينية، بأنه كان ينبغي اعتبار الأمن الداخلي جزءاً من النظام العام، وبالتالي يجب أن تكون الشرطة الفلسطينية مسؤولة عن ذلك، كنت آنذاك واحداً من ممثلين عن جيش الدفاع الإسرائيلي في الوفد الإسرائيلي، والموقف الذي طورناه كان العكس تماماً، يجب أن يبقى الأمن الداخلي مسؤولية إسرائيل، لأن إسرائيل لا تستطيع الوثوق بالشرطة الفلسطينية الوليدة لحماية إسرائيل من التهديدات الإرهابية خلال فترة الحكم الذاتي، ولأن الأطراف الثلاثة لم تتمكن من التوصل إلى اتفاق حول مستقل للحكم الذاتي، لم يتم حل هذه المسألة.

بعد أن طلب مني بيريس وبيلين مراجعة مشروع إعلان، أدركت أنه ببساطة تم نسخ منهج اتفاقية كامب ديفيد بشأن الأمن، وبالتالي لم أكن صامتًا بشأن من سيكون مسؤولاً عن الأمن الداخل، وبناءً على ذلك، عندما طلب مني رابين إصلاح المسودة، من بين العديد من التغييرات الأخرى التي اقترحتها، كان هناك بند يتعلق بالأمن خلال فترة الحكم الذاتي التي مدتها خمس سنوات. وذكرت الإدعاء أنه خلال فترة الحكم الذاتي، لن يكون الفلسطينيون مسؤولين إلا عن النظام العام، بينما ستكون إسرائيل مسؤولة عن الدفاع ضد التهديدات الخارجية وعن الحفاظ على الأمن الداخلي، ولكن عندما قدمت المشروع لرابين للموافقة عليه، أوعز لي رابين لتغيير هذا الشرط،، والكتابة بدلا من ذلك أن الفلسطينيين سيكونون مسؤولين عن النظام العام والأمن الداخلي للفلسطينيين، وإسرائيل ستظل مسؤولة عن الدفاع ضد التهديدات الخارجية والداخلية وأمن الإسرائيليين. بعبارة أخرى، تصور رابين وضعاً تتقاسم فيه إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية المسؤولية عن الأمن الداخلي، بدلاً من أن تتحمل إسرائيل وحدها المسؤولية عن ذلك.

للتوضيح، لم يكن رابين أقل قلقا بشأن الأمن مما كنت عليه، على العكس من ذلك، قال لي رابين مرارا وتكرارا، إذا كان كل شيء سيكون على ما يرام مع الحكم الذاتي، باستثناء الترتيبات الأمنية، سوف نفشل في الاتفاق، في حين أنه إذا فشلت أجزاء أخرى ونجحت الترتيبات الأمنية سينجح الاتفاق، وقد استند رابين في تقسيم المسؤولية كما علمت لاحقا على اعتبارين وجها تفكيره: أولا، من دون علمي، قبل رابين فكرة بيريس دعوة عرفات وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية للانتقال من تونس، حيث كان المقر الرئيسي لمنظمة التحرير الفلسطينية إلى الضفة الغربية وغزة، والسيطرة على السلطة الفلسطينية، والتي كان من المقرر أن تنشأ هناك وفقا للإعلان، وعندما التقيت بيريس للمرة الأولى، لمناقشة مشروع الإعلان أخبرني عن فكرته، ولكنني لم آخذ الأمر على محمل الجد، وظننت أن رابين لن يقبل، وكنت مخطئا، وأفترض أن ما دفع رابين وبيريس لتبني هذه الفكرة هو نفس المنطق القاتل الذي لجأ إليه الرئيس ليندون جونسون، عندما شرح لماذا لم يطرد إدغار هوفر  مديرFBI ؟ بإنه ربما من الأفضل الاحتفاظ به تحت نظره.

لقد أدرك رابين أن عرفات لن يوافق على قبول هذه الدعوة، إذا كان يعلم أنه سيخضع للحماية الإسرائيلية، لذلك، ولتسهيل قبول عرفات دعوة إسرائيل للانتقال إلى الضفة الغربية، وافق رابين على أنه يمكن أن يأتي مع قوة أمن فلسطينية مسلحة، إلا أن ذلك لم يشكل وحدة صغيرة من الحراس الشخصيين المسلحين، ولكن قوة كبيرة عسكرية فلسطينية.

وخلافا لمنطق بيغن الذي اخترع فكرة الحكم الذاتي قبلها بـ 15 سنة كحل دائم للمناطق، فإن رابين وبيريس ينويان حقا أن يسمحا أن تكون أوسلو ترتيبا يؤدي في نهاية المطاف إلى إنشاء كيان سياسي فلسطيني منفصل.

ثانيا، رابين اعتقد أن عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية سيكونان قادران على حفظ الأمن الداخلي في المناطق الخاضعة لسيطرتهما بشكل أفضل من إسرائيل، وهذا الاعتقاد كان قائما على وعود من كبار نشطاء فتح بسحق قوات المعارضة على نحو فعال بمجرد أن يدخلوا إلى المناطق، وكان رابين يعتقد حقاً أن منظمة التحرير الفلسطينية، كان يمكنها أن تقاتل المعارضة الفلسطينية أكثر من إسرائيل. في الواقع، في خطاب متلفز في مارس 1994، أوضح رابين أن الشرطة الفلسطينية قادرة على محاربة حماس، دون تدخل (بتسيلم والمحكمة العليا)، على العكس من التقييدات التي خضعت لها القوات الإسرائيلية، ولكن للأسف، كان هذا الاعتقاد يستند إلى الاعتقاد الخاطئ بأن عرفات كان شريكا راغبا وقادرا.

في الواقع، عندما بدأت المعارضة الفلسطينية شن هجمات إرهابية ضد الإسرائيليين وإسرائيل، لم يفعل عرفات أي شيء تقريبا لوقفها، مما أدى إلى مقتل أكثر من 1500 من الإسرائيليين، فضلا عن أكثر من 7000 "قتيل" فلسطيني. وبعد تصاعد أعمال العنف الفلسطيني إلى ما أصبح يعرف باسم الانتفاضة الثانية (2000-2005)، وأدت وسائل الدفاع الإسرائيلية المشروعة في نهاية المطاف إلى  إعادة احتلال الضفة الغربية وكان ضربة قوية لأوسلو.

ولكي نكون واضحين، كانت إسرائيل هي من اقترح تسليم الضفة الغربية وغزة لمنظمة التحرير الفلسطينية وعرفات، وأيضا إسرائيل هي من اقترحت منح الفلسطينيين المسؤولية عن الأمن الداخلي خلال فترة الحكم الذاتي.

 

الخطأ الثالث: الإخفاق في تجميد النشاط الاستيطاني خلال فترة الحكم الذاتي:

كان بيغن يهدف من وضع خطة الحكم الذاتي الأصلية في عام 1978 لإدامة الحكم الإسرائيلي على الضفة الغربية وغزة، دون تطبيق السيادة الإسرائيلية على تلك المناطق في وقت واحد، مما يسمح بالاستيطان اليهودي هناك بحرية. بالنسبة لـ بيغن، كان الحكم الذاتي هو الحل الدائم للمناطق و اعتمد رابين وبيريس خطة بيغن للحكم الذاتي من حيث المبدأ، ولكن مع تعديلها في بعض الجوانب الهامة لتناسب الرؤية المختلفة لمستقبل الضفة الغربية وغزة، وكان أحد الاختلافات الرئيسية هو أنهم نظروا إلى الحكم الذاتي كترتيب انتقالي ينبغي أن يؤدي إلى إنشاء كيان سياسي فلسطيني منفصل في تلك المناطق في نهاية الفترة الانتقالية الخماسية، وسيسيطر الفلسطينيون على مثل هذا الكيان، وسيتعين إزالة جميع المستوطنين الإسرائيليين من أي مناطق سيتم نقلها إلى السيطرة الفلسطينية، في ظل هذه الرؤية، كان على رابين وبيريس أن يؤمنا بتجميد النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية وقطاع غزة خلال الفترة الانتقالية.

لكن الحسابات السياسية لرابين وبيريس حلت في موقف متناقض تماما، طلب مني رابين أن أعترض على إدراج أي قيود على النشاط الاستيطاني خلال فترة السنوات الخمس الانتقالية، وهو اعتراض قبلته منظمة التحرير الفلسطينية في أوسلو، و أفترض أن دافع رابين هو الرغبة في تأمين الدعم الشعبي لإعلان المبادئ، وكان يعلم أن إدراج بند بتجميد المستوطنات في المناطق من شأنه أن يثير حفيظة المستوطنين، مع العلم أن اللوبي الاستيطاني كان ولا يزال، اللوبي الأقوى في إسرائيل، وفضل رابين القتال مع المستوطنين مرة واحدة فقط، وهذا ما جعله يؤجل المعركة إلى نهاية فترة الخمس سنوات، عندما يحين الوقت سيأتي للحصول على موافقة الجمهور على اتفاقية الوضع الدائم.

وبالإضافة إلى ذلك، لم يناقش لا رابين ولا بيريس رؤيتهما للحل الدائم معي، وأعتقد أن رابين لم يكن ينوي الموافقة على الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الضفة الغربية في نهاية الفترة الانتقالية، وبدلاً من ذلك، كان يخطط للمطالبة بضم بعض المناطق لإسرائيل، على أساس الاعتبارات الأمنية، وبسبب ذلك قال أنه يريد الاستمرار في قوننة تلك المناطق التي كان يعتزم ضمها لإسرائيل، في حين يوافق على تجميد الاستيطان من جانب واحد في جميع المجالات الأخرى، لكنه لا يريد أن يكشف عن خططه بطريقة دقيقة في اتفاق أوسلو لأن ذلك قد يفتح معركة سابقة لأوانها، مع كل من الفلسطينيين والإسرائيليين، على الموقع النهائي للحدود.

عندما عرضت موقف رابين من النشاط الاستيطاني على منظمة التحرير الفلسطينية في أوسلو، حاول المفاوضون الفلسطينيون استكشاف إمكانية إدراج بعض القيود على المستوطنات، لكنني وقفت صامدا وأنا واثق من قبولهم موقف رابين، لأنهم أدركوا الصعوبات الداخلية التي يواجهها فيما يتعلق بتجميد الاستيطان، ولو أصروا على موقفهم، لكان هناك خطر حقيقي من شأنه أن يهدد وجود اتفاق، لكن خطط عرفات ورابين كانت قصيرة النظر، ليس لأنه تم اغتيال رابين بعدها بسنتين، ولكن لأن حزب العمل بقيادة بيريس خسر الانتخابات لصالح الليكود، ما أعاد إدراج خطة بيغن الأصلية بإدامة الحكم الذاتي إلى الأبد، وإدامة السيطرة الإسرائيلية على الضفة الغربية.

من الصعب الآن تخيل كيف سيكون أي رئيس وزراء إسرائيلي، حتى الأكثر رغبة، قادراً سياسياً على طرد 400.000 مستوطن يهودي من الضفة الغربية، وإذا انتظر المرء 25 سنة أخرى، فمن المرجح أن يكون هناك مليون مستوطن للإخلاء. باختصار، أنا غالبا ما يكون لدي شعور من نوع أنني لو كنت أقل نجاحاً في أوسلو وسمحت للجانب الفلسطيني بتسجيل نصر في قضية تجميد الاستيطان، كان بإمكاني أن أنقذ إسرائيل من الحل الافتراضي للدولة الواحدة، أنا بالتأكيد لدي شعور من الموت الوشيك في هذا الصدد.

الجزء الثاني: النجاحات الثلاثة الرئيسية في أوسلو:

على الرغم من حقيقة أن أوسلو فشلت في التوصل إلى اتفاق حول الوضع النهائي لحل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، على النقيض من الحكمة التقليدية، إلا أنها لم تنته بعد، في الواقع، لقد حظيت الاتفاقية ببعض النجاحات المهمة التي يبدو أنها نجت من كل التحديات والنكسات التي واجهتها.

النجاح الأول: الاعتراف المتبادل:

عندما سمعت لأول مرة عن المناقشات السرية التي أجريت في أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية خلال لقائي الأول مع بيريس في أوائل عام 1993، سألته: "هل يجب الانتهاء من" الاتفاق "في أوسلو، ماذا ستفعل به؟ فرد علي بيريس: "سنعطيها لوفدنا في واشنطن ونطلب منهم التوقيع عليها، وسوف تمنحها منظمة التحرير الفلسطينية للوفد الفلسطيني في واشنطن وتطلب منهم التوقيع عليها".

قلت "إن الوفد الإسرائيلي في واشنطن ليس دمية مربوطة بخيط، وسيسألون: "من أين أتت هذه الاتفاقية؟" إن حقيقة أن إسرائيل تتفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية تسرب بسرعة للصحافة، وكيف تفسر الحكومة الإسرائيلية لماذا وافقت على إجراء محادثات مع منظمة إرهابية؟ ''بدلا من ذلك، اقترحت على بيريس قبل إتمام الإعلان، بأنه يجب على إسرائيل أولا التفاوض على اتفاق مبدئي مع منظمة التحرير الفلسطينية، والتي بموجبها تقدم المنظمة لإسرائيل التزامات معينة، مثل: الالتزام بوقف الانتفاضة (الانتفاضة الأولى التي اندلعت في عام 1987 وكانت لا تزال مندلعة في 1993)، والالتزام بوقف الهجمات الإرهابية ضد إسرائيل، والالتزام بالاعتراف بإسرائيل، والالتزام بإلغاء الميثاق الفلسطيني الذي دعا إلى تدمير إسرائيل". وبعبارة أخرى، شرحت أن على "منظمة التحرير الفلسطينية يجب أن تثبت لإسرائيل أنها لم تعد منظمة إرهابية، وفي المقابل، فإن إسرائيل تعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل للشعب الفلسطيني وتوافق على التفاوض معها، عندئذٍ، وعندها فقط، تستطيع إسرائيل التفاوض مع  منظمة التحرير الفلسطينية دون الحاجة للتخفي"، لم يعجب بيريس بفكرتي، وأعرب عن قلقه من أن المطالب الإضافية من منظمة التحرير الفلسطينية التي اقترحتها ستجعل من الصعب على عرفات قبول اتفاقية أوسلو.

لكنني لم أستسلم، وبعد أن طلب مني رابين أن أصلح مشروع الإعلان، شرحت فكرتي بشأن الحاجة إلى التوصل إلى اتفاق تقديري أولي مع منظمة التحرير الفلسطينية، ولم يرفض رابين هذه الفكرة، وبدلا من ذلك، كان رده: «إنه من المبكر جدا، فهمت أن قلقه هو أن فكرة اعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية كشريك في المفاوضات كانت أكثر من اللازم بالنسبة للجمهور الإسرائيلي، ولن يكون قادرا على ابتلاعها حينذاك، ولم أستسلم وقلت لرابين: هل يمكنني نقاش هذه الفكرة مع منظمة التحرير الفلسطينية كفكرة خاصة بي وليست رسمية؟" رد رابين: "إذا كنت ستطرحها كفكرة شخصية فلا بأس"، وبعد ذلك توجهت إلى أوسلو وأبلغني أبو علاء أن عرفات رفض الفكرة أيضا، حيث لم تعجبه الالتزامات الكثيرة التي تضمنها اقتراحي، ومرة أخرى لم أستسلم وفي النهاية قبل كل من رابين وعرفات بفكرتي، لكن بيريس واصل معارضته، وبعد الانتهاء من توقيع اتفاق المبادئ بالأحرف الأولى في أوسلو سافرت مع بيريس والنرويجيين تيري لارسن ويوهان هولست وزير الخارجية النرويجي إلى الولايات المتحدة لإطلاع وزير الخارجية وارن كريستوفر على الاتفاق، وكان سعيدا جدا، وحينها خرج بيريس بفكرة جديدة حول تفسير أصل هذا الاتفاق، حيث اتفق مع كريستوفر على أن تقوم الولايات المتحدة بتقديم الإعلان كمقترح للفريقين ثم استضافة حفل التوقيع في واشنطن، وبعد التشاور مع الرئيس بيل كلينتون على الهاتف، أجاب كريستوفر بأن الولايات المتحدة ستكون سعيدة لاستضافة حفل التوقيع، لكنها لا تستطيع تقديم الاتفاق كمقترح أمريكي.

بقي بيريس دون أي خيار آخر سوى السماح لي بالتفاوض حول فكرتي الشخصية حول الاعتراف المتبادل مع منظمة التحرير الفلسطينية، هذه المرة كاقتراح إسرائيلي رسمي، لذلك توجهت مباشرة من الولايات المتحدة إلى أوسلو، إلى جانب هولست ولارسن ويول، في الوقت الذي جاء فيه ممثلو منظمة التحرير الفلسطينية والمفاوضون الإسرائيليون إلى أوسلو. كان لدينا فقط بضعة أيام للتفاوض على اتفاق الاعتراف المتبادل قبل الموعد المحدد لحفل التوقيع، وتمكنا من استكمال المفاوضات قبل أن يحين الوقت.

وخلافا لاتفاق أوسلو الذي كان يقصد به أن يكون ترتيبا مؤقتا، كان المقصود من اتفاق الاعتراف المتبادل أن يكون دائما، ولذلك لا يزال قائما بعد 25 عاما، وهو يمثل إنجازا تجاوز هدفه الأصلي، وهو يمثل بداية المصالحة بين الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني، اللذان يشتركان في نفس الموقع الجغرافي، وهما يحاولان تقسيم الأرض بينهما، ويتعلمان العيش جنبا إلى جنب. فقبل مائة عام من اتفاق الاعتراف المتبادل، رفض الطرفان التحدث مع بعضهما البعض، ويعتقد العديد من الفلسطينيين أنه لا يوجد شيء اسمه الشعب اليهودي، وأن اليهودية ليست سوى دين، كما رفض العديد من الفلسطينيين قبول وجود دولة إسرائيل وأشاروا إليها كـ "الكيان الصهيوني".

وهكذا نُقل عن رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير قولها في عام 1969 إنه "لا يوجد شيء اسمه الفلسطينيين". وفي السياق نفسه، كان الموقف الرسمي لإسرائيل لسنوات عديدة أن الوضع المستقبلي للمناطق يجب أن يتحدد من خلال مناقشات مع الأردن ومصر، المحتلين السابقين لهذه المناطق، وليس مع الممثلين الفلسطينيين، ناهيك عن منظمة التحرير الفلسطينية، التي اعتبرت من قبل إسرائيل منظمة إرهابية (رغم أن غالبية الفلسطينيين قبلوا منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي لهم).

لا تزال تسمع أصوات مماثلة من وقت لآخر على كلا الجانبين (بما في ذلك في البيان الذي أدلى به أبو مازن نفسه للمجلس الوطني الفلسطيني في رام الله مايو 2018، وجاء فيه: أن اليهود ليسوا شعبا واليهودية ليست سوى الدين)، من الواضح أن اتفاقية الاعتراف المتبادل، رغم أنها أصبحت الآن جزءًا رسمياً من اتفاقية أوسلو، تحتاج إلى مزيد من الوقت لتجاوز السياسات والمعتقدات القديمة، لكن اتفاق الاعتراف المتبادل لا يزال قائما، بغض النظر عن أوجه القصور في أوسلو.

النجاح الثاني: فتح الباب أمام علاقات أفضل بين إسرائيل والعديد من الدول العربية:

نجاح آخر في اتفاقية أوسلو هو أنها فتحت الباب لإقامة أو تقوية العلاقات بين إسرائيل والعديد من الدول العربية، فقبل توقيع اتفاقية أوسلو، تمكنت إسرائيل من إقامة علاقات سلمية مع دولة عربية واحدة – مصر، وجلبت أوسلو تغييرًا جذريًا في موقف إسرائيل في الشرق الأوسط. على سبيل المثال، في عام 1994، أي بعد عام واحد فقط من توقيع معاهدة أوسلو في واشنطن، وقعت إسرائيل معاهدة سلام مع الأردن، كما عزز اتفاق أوسلو العلاقات الإسرائيلية المصرية، التي كانت باردة للغاية لسنوات عديدة. في الواقع، جرت جميع المفاوضات تقريباً بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية بشأن عمليات أوسلو في مصر،  وكان اتفاق غزة-أريحا قد وقع في القاهرة، واستضاف الرئيس المصري هذا الحدث، وكان الدبلوماسيون المصريون وضباط الجيش مفيدين للغاية في المساعدة على حل الخلافات بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية على مر السنين، كما مهد اتفاق أوسلو الطريق لإسرائيل لإقامة علاقات رسمية مع الدول العربية الأخرى، ففي طريق العودة من واشنطن لإسرائيل مباشرة بعد التوقيع على إعلان المبادئ في عام 1993، توقفنا في المغرب لأول اجتماع مفتوح مع الملك المغربي الحسن، الذي قرر بسرعة إنشاء مكاتب تمثيل متبادلة، وبعد ذلك بوقت قصير، تفاوضت أيضا على افتتاح مكاتب إسرائيلية مماثلة في تونس وعمان. الدول العربية الأخرى حذت حذوها بطريقة أقل رسمية، وأخيرا، في عام 2002، نشرت المملكة العربية السعودية مبادرتها للسلام التي دعت إلى وضع حد للصراع العربي الإسرائيلي، وتطبيع العلاقات مع إسرائيل من قبل جميع الدول العربية في مقابل الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي المحتلة عام 1967، وكانت المبادرة السعودية أقرتها جامعة الدول العربية في عام 2002 ثم أعيدت الموافقة عليها في قمة جامعة الدول العربية عام 2007 وفي قمة الجامعة العربية عام 2017.

لم يكن أي من هذه التطورات ليحدث بدون اتفاقية أوسلو، وهذه مجرد التطورات الرئيسية المعروفة على نطاق واسع، ووراء الكواليس، أصبح التعاون بين إسرائيل والعديد من جيرانها العرب أعمق مما كان يتصور المرء قبل توقيع اتفاقية أوسلو.

النجاح الثالث: خلق أساس لاتفاقية سلام إسرائيلية فلسطينية مستقبلية:

في حين أن اتفاقية أوسلو لم تؤد بعد إلى اتفاق كامل حول الوضع النهائي للمناطق، إلا أنها وضعت الأساس لاتفاق سلام إسرائيلي فلسطيني في المستقبل. لا يجب مراقبة تقدم مبادرات السلام في الشرق الأوسط من خلال ساعة توقيت، بل بالأحرى مع تقويم يمتد لعدة سنوات، وربما عقود، فعملية السلام في الشرق الأوسط لا تتطور باستمرار بطريقة خطية، بل من خلال تقاطعات غير منتظمة، حيث يسبق كل تطور إيجابي فترة طويلة من الجمود، يتم هضمها من قبل كل القوى السياسية الفاعلة، وعلى المرء أن يتذكر أنه بعد عام 1973 أي بعد الحرب، عُقد مؤتمر للسلام في الشرق الأوسط في جنيف، بدأت فيه عملية السلام بين إسرائيل ومصر و سوريا والأردن واستغرق الأمر ست سنوات لإبرام معاهدة سلام مع إسرائيل، وتطلب الأمر 21 سنة من الأردن أن يفعل الشيء نفسه، بينما مرت 45 سنة بدون اتفاق مع سوريا، على الرغم من أنني أعتقد أنه سيتحقق حتما، وحقيقة أن 25 عاما مضت منذ أوسلو لا ينبغي أن تكون سببا لليأس، فبعد كل شيء يبقى النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، أكثر تعقيدًا بكثير من النزاع الإسرائيلي-السوري في هذه الأثناء، وحتى يصبح الوضع ناضجاً للتوصل إلى اتفاق نهائي بين الإسرائيليين والفلسطينيين، يجب أن يكون التركيز على ضمان عدم انهيار الأساس الجيد الذي أنشئ في أوسلو، والذي ما زال قائماً.

والإنجاز الأكثر أهمية في أوسلو، هو وجود قيادة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية تتكون من قادة منظمة التحرير الفلسطينية المحليين وغير المحليين، القادرين على التعامل مع معظم الشؤون اليومية لمعظم الفلسطينيين. ويقيم الفلسطينيون بنيتهم التحتية الوطنية من الأعلى إلى الأسفل ومن الأسفل إلى الأعلى، فهم يبنون من جملة أمور قوات أمن قوية، على الأقل في الضفة الغربية، تتعاون بنجاح كبير مع القوات الإسرائيلية، وكذلك في غياب اتفاق وضع دائم لاحق يحل محل اتفاق أوسلو، فإن ترتيباته المؤقتة- مع بعض التعديلات – تغلق افتراضيا الفجوة، وتسمح نقل السلطة بشكل إضافي ودوري من إسرائيل إلى الفلسطينيين، بعيداً عن الأضواء، دون إعلانات عامة وقبل توقيع أي اتفاق نهائي.

تعتبر هذه الآلية النموذجية عنصراً أساسياً في أوسلو: فهي تمكّن الطرفين من مواصلة بناء علاقاتهما نحو حل الدولتين حتى قبل أن تحسما خلافاتهما الأساسية، وإلى أن يحين الوقت المناسب للتوصل إلى اتفاق نهائي، يجب ألا يفقد الطرفان الأمل، بل يستمرا في المعالجة والتغلب على العديد من التحديات أمام التعايش الإسرائيلي-الفلسطيني الهش، إذا أمكن تحقيق ذلك، سيأتي السلام، حتى لو استغرق الأمر وقتا أطول من المتوقع.