إن كل ما نشهده اليوم من خطوات متلاحقة، قرارات وإجراءات وقوانين، تصدر عن الجانب الأمريكي والصهيوني، يأتي كترجمة لمخطط سياسي استراتيجي متكامل، يمكن أن يسمى صفقة القرن أو غيرها. يكشف عن التطابق الكامل وغير المسبوق بين السياستين الأمريكية - الإسرائيلية.
لقد كان القرار الأمريكي بشأن القدس ، إشارة البدء بترجمة فكرة "لسنا بحاجة الى شريك"، وهي بمثابة القاعدة الرئيسية التي سيتم العمل بموجبها في المرحلة المقبلة، وكما قال المسؤولون الأمريكيون وبمن فيهم ترامب نفسه، القرار يعني سحب قضية القدس من التفاوض، أي حسمها من طرف واحد لصالح إسرائيل، وعلينا أن نفسر كل إجراء أو قرار أو قانون صدر عنهما، أو سوف يصدر لاحقا، إزاء أي قضية، باعتباره يحسم هذه القضية وفقا للمنظور الاسرائيلي ولصالح إسرائيل، وبالتالي سحبها من التفاوض. وبذات المعنى يأتي قانون ضم القدس والضفة للسيادة الإسرائيلية، وكذلك الأمر بخصوص وقف تمويل الأونروا، والتقرير بشأن تعداد اللاجئين بأنهم لا يتجاوزون 50 ألفاً -من ولدوا قبل النكبة (48) دون احتساب ذريتهم- هذا إنهاء صريح لقضية حق العودة، متكاملا مع ما يسمى قانون القومية الذي يعطي اليهود حصراً حق تقرير المصير في أرض فلسطين.
يجب أن لا تخدعنا الدعاية الأمريكية المروجة، والتي تحاول أن تظهر اهتمامها بضرورة قبول الطرف الفلسطيني للتفاوض، بل وتبرير بعض القرارات المتعلقة بوقف الدعم المالي للأونروا والسلطة، بأنه بسبب رفض الطرف الفلسطيني للتفاوض. إن قبول الطرف الفلسطيني التفاوض وفقا للأجندة الإسرائيلية الأمريكية الجديدة، هو كما يقال، زيادة الخير، خير. وإن لم يأتوا، فهو مبرر لأن تتسع دائرة الإجراءات والقرارات من طرف واحد لتشمل قضايا أخرى.
إذا سلمنا بأن إسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة، يتصرفان على أساس القاعدة السابقة الذكر "لسنا بحاجة إلى شريك". علينا أن نفكر ونبحث في حقيقة هل إسرائيل فعلا ليست بحاجة إلى شريك لحسم الصراع وإنهاء القضية الفلسطينية؟ هل إسرائيل في وضعية تسمح لها أن تقرر وتقوم بإجراءات من طرف واحد دون أن يكون هناك رادع يجعلها تتحمل أعباء تفوق طاقتها على التحمل؟
إذا كان من غير المتوقع رد فلسطيني، أو عربي، أو دولي، يضعها في موقع الخاسر، اقتصاديا (الإجراءات الاقتصادية من الاتحاد الأوروبي مثلا)، أو سياسيا (على مستوى التحالفات أو العلاقات مع بعض البلدان العربية الموقعة على اتفاقيات علنية أو سرية، أو علاقاتها الجديدة في أفريقيا وآسيا، الهند والصين وغيرهما)، أو أمنيا (مثل وقف التنسيق الأمني مع أجهزة السلطة وزيادة في مستوى التهديد في الضفة، أو التنسيق الأمني مع مصر والأردن، وغيرها، الحراك داخل المناطق المحتلة 48)، أو معنويا (ملاحقات قانونية للقادة الصهاينة، محاكمتها لبناء الجدار والاستيطان، أو ردود الفعل الإسلامية بشأن القدس). إذا كانت هذه الضغوط والمؤثرات غير واردة، وخصوصا في ظل التغطية السياسية الكاملة من قبل الولايات المتحدة، والتواطؤ العربي، والغرق الفلسطيني الكامل في مستنقع أوسلو، ما الذي سيمنع الكيان الصهيوني من القيام بخطوات أحادية وفقا لرؤيته ولتحقيق مصالحه؟
ولكن، كيف حققت إسرائيل هذه الوضعية؟ كيف تداعت هذه الجبهات، التي كانت يوما ذات تأثير، بنسبة أو بأخرى في الصراع، وتضغط لإلزام إسرائيل للعمل ضمن قيود محددة بحيث لا تستطيع القيام بخطوات أحادية الجانب؟
إن التحولات التي مرت بها القضية الفلسطينية بدءا من اتفاقية كامب ديفيد وما تلاها، على الصعيد الفلسطيني، وخاصة العدوان الصهيوني على لبنان 82 وتدمير بنية الثورة الفلسطينية، على الصعيد العربي حروب الخليج، وعلى الصعيد الدولي انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية، كل ذلك مهد في تراكم تراجعي إلى اتفاق أوسلو، باعتباره نتيجة لمنهجية معينة في إدارة الصراع مع الكيان الصهيوني. منهجية متكاملة لعقل سياسي أدار عملية التحالفات والتناقضات الداخلية والخارجية على مدى ربع قرن، وعلى كافة الأصعدة الدولية والعربية والفلسطينية، بحيث أفضت هذه المنهجية إلى التراجعات الاستراتيجية في مراحل عدة لتموضع فلسطيني جعل من دخوله في متاهة أوسلو أشبه بحتمية.
فطبيعة التعامل الفلسطيني مع ما وصلت إليه التسوية اليوم من طريق مسدود، يفسر أن أوسلو بالنسبة لهذا الفريق السياسي، أكثر من خيار سياسي من بين عدة خيارات، هو منهجية عقل سياسي. فرغم أن أوسلو قد انتهى كاتفاقات موقعة بين طرفين، إلا أن فريق أوسلو الفلسطيني غارق في الوقائع التي أفرزها ذاك الاتفاق، ومصر على أن الوصول إلى الحقوق الوطنية الفلسطينية، كما يدعي، يتم من خلال متابعة الطريق في ذات الاتجاه، بل ويؤمن أنه لا بدائل أخرى، ويشتم كل من يأتي على ذكر البدائل الأخرى!
إن القاسم المشترك بين وضعية إسرائيل اليوم، التي لا تحتاج فيها لشريك فلسطيني لحسم قضايا الصراع، ووضعية الفلسطيني الذي يغرق في مستنقع أوسلو، ويصر على أن الوصول إلى الحقوق الوطنية الفلسطينية تقتضي الاستمرار في التوغل أكثر فأكثر في أوحال المستنقع، هي منهجية العقل السياسي الفلسطيني الذي يتولى إدارة الصراع في الجانب الفلسطيني. هذا العقل يعمل بمنظومة من المفاهيم قوامها الاستخفاف بقدرات الشعب الفلسطيني ونضالاته وتضحياته، لأنها نقيض تام لمنطقه، والاستقواء بحالة الانهيار على المستوى العربي، باعتباره جزء منها، ويتعامل مع موازين القوى الدولية كقدر، وما تعطينا إياه، هو الممكن الذي يجب أن نرضى به، وهذا ما يرجح استمراره في تشييد مبنى الأوهام على طمي المستنقع، حيث لا أرض صلبة يقف عليها.
ولأن أوسلو كما أسلفنا، منهجية عقل سياسي لهذا الفريق، نرجح أنه سوف يستمر بالعمل وفق ذات المنظومة المفاهيمية، وبالتالي من غير المرجح أن يغير من قواعد اللعبة، والأفضل حالا بينهم يتصور أن بإمكانه تجاوز أوسلو وهو غارق في مستنقعه. كل المقترحات الفلسطينية التي تقدم للرد على السياسة الإسرائيلية الأمريكية بوجود السلطة ووهم إنجازاتها هو البقاء في المستنقع، لأن السلطة هي الاسم الحركي لهذا العقل السياسي، وهي المستنقع الذي أغرق المشروع الوطني الفلسطيني، بعدته وعتاده. السلطة (العقل السياسي) هي الأعباء الأمنية والسياسية والاقتصادية، وهي الالتزامات الدولية، وهي وهم المناصب والمكاسب، كل ذلك بدون أية حقوق. سلطة ممنوع أن تمارس السلطة، إلا حين تكون لمصلحة الاحتلال، فيما الأرض يبتلعها الاستيطان، والسيادة ينتهكها الاحتلال بدواعي الحاجة الأمنية، وبدون داعي، المقدسات تهود ويتم تطبيق نظام التقسيم الزماني والمكاني، واللاجئون، يتم تصفية قضيتهم، وإنهاء حقهم في العودة وقتل الشاهد.
إذا المشكلة الحقيقية، هي هذا العقل السياسي وأصحابه، وهم بالمناسبة ليسوا حزبا بعينه، بل هم فريق سياسي يمثل طبقة، يتشعب امتدادها يمينا ويسارا، فإن الرد الحقيقي على صفقة القرن، ليست في إنهاء الانقسام، ولا في تحقيق المصالحة، ولا في الوحدة الوطنية، لأن هذه المفردات فارغة من أي مضمون، هي مجرد أوهام وأصنام ننادي بها دون أن نتحقق من مضمونها، ماذا تعني بالضبط وكيف سيتم تحقيقها، هي ملهاة بكل ما تعني الكلمة من معنى، فالرد الجدي على صفقة القرن يبدأ من تعرية هذا الفريق، وتسمية الأمور بمسمياتها، دون تردد، وانتظار جلاء غبار المعارك الوهمية التي يخترعها، مرة خطاب هام، وأخرى مجلس مركزي، وتشكيل لجان لدراسة قرارات، ثم توصيات تموت في مهدها، وتارة تهديد بحل السلطة، ثم وعيد برفع دعوى لمحكمة الجنايات، عدا عن مسلسل المصالحة والتهدئة، الرد على الورقة المصرية، ثم رد فتح على ورقة حماس، وانتظار رد حماس على ورقة فتح.. والعكس صحيح إلى ما شاء الله...
الرد الحقيقي يبدأ من القطيعة مع هذا العقل السياسي، وأنه لا مجال للمصالحة معه، إلا في حال أجرى مراجعة نقدية جدية، وأقر بالمسؤولية التاريخية عما وصلنا إليه، وهذا ليس من شيمه ولا من تكوينه، لذلك لا إمكانية للمتابعة على ذات المنوال.