Menu

(1994 - 2017)

الأوضاع الاجتماعية (الطبقية) في الضفة الغربية وقطاع غزة (ج5)

غازي الصوراني

اقتصاد- ارشيف

خاص بوابة الهدف

. ملامح التحول والتغير في البنية الاجتماعية ما بعد قيام السلطة 1994:

 يمكن الحديث عن هذه الملامح في ضوء المؤشرات الأساسية التالية :

  1. خلال السنوات 1994 – 2017 نلاحظ تراجع ظاهرة المجتمع السياسي التي انتشرت إبان الانتفاضة الأولى، وكان من الممكن أن تشكل مدخلاً أو تمهيداً لولادة المجتمع المدني الفلسطيني في سياق الصراع الوطني والصراع الطبقي الداخلي، لكن هذه الإمكانية لم تعد قابلة للتحقق في الوضع الراهن.
  2. المتغيرات الاقتصادية التي طرأت على المجتمع الفلسطيني بعد قيام السلطة 1994، كانت في معظمها متغيرات سلبية من خلال ارتباط نخب وشرائح طبقية بيروقراطية- كمبرادورية بالمشروع الأمريكي- الإسرائيلي لتصفية جوهر القضية الوطنية، ونخب منظمات غير حكومية ومصرفية وإعلامية، هي أبعد ما تكون عن الارتباط الوطني كما لم تسهم في تغيير قوى وعلاقات الإنتاج في القطاعات الاقتصادية، أو في تطوير دور القطاع الخاص الفلسطيني والارتقاء به وخاصة في القطاعات الإنتاجية الرأسمالية، أو في استيعاب مزيد من العاملين فيه وتنوع خصائصهم أو تغيير وعيهم المهني والنقابي والاجتماعي كطبقة متبلورة أو مستقلة ولو بالمعنى النسبي.
  3. إن الأوضاع الاجتماعية/الاقتصادية التي سادت في السلطة منذ نشأتها عام 1994 لم تشكل قطيعة بأي معنى، مع مرحلة الاحتلال السابقة، إذ بقي الاحتلال بعد قيام السلطة كما هو – بصورة مباشرة وغير مباشرة – وبقيت العلاقات الاقتصادية والقانونية محكومة لنفس المرجعيات والآليات السابقة في اطار التبعية والخضوع والتكيف مع السياسات الإسرائيلية، كما ظلت أيضا محكومة –بهذه الدرجة أو تلك – للعلاقات الاجتماعية ما قبل الرأسمالية العشائرية والحمائلية والعائلية إلى جانب كبار الملاك من الأسر شبه الإقطاعية "الارستقراطية" التقليدية والفلاحين.
  4. على أثر قيام سلطة الحكم الذاتي المحدود، نشأت تغيرات على البنية الاجتماعية في الضفة والقطاع، ويمكن تلخيص هذه المتغيرات كالتالي[1]:
  • حدوث توسع نسبي في حجم الفئات العمالية (العاملة في القطاعين الرسمي وغير الرسمي من الاقتصاد)، وتراجع نسبي في مستوى معيشة الطبقة العاملة والشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى.
  •  نمو شريحة جديدة من الطبقة الوسطى الحديثة متمثلة في بيروقراطية السلطة وفي مجال التعليم والصحة، وفي إدارات المنظمات غير الحكومية، وفي توسع صفوف ذوي الاختصاص وأصحاب المهن الحرة.
  •  تكون نواة شريحة من أصحاب رؤوس الأموال في المنطقة الرمادية بين القطاع العام والقطاع الخاص.

ويمكن عنونة أبرز تحولات البنية الاجتماعية عقب قيام السلطة الوطنية كالتالي:

  • توسع " الطبقة " العاملة عموماً والوسطى[2] أو البورجوازية الصغيرة خصوصاً، ويعود هذا التوسع لعدة أسباب، أبرزها نمو أجهزة السلطة الفلسطينية ومؤسساتها وهيئاتها، وعودة كوادر منظمة التحرير والتنظيمات السياسية وكثيرين من العاملين في دول الخليج (وتحديداً من الكويت) في إثر حرب الخليج، كما شهدت المنظمات غير الحكومية توسعاً ملحوظاً، هذا بالإضافة إلى زيادة أعداد العاملين في مجالات معينة، كالتعليم الجامعي والمحاماة والطب والهندسة.
  • تواصل الضعف التكويني والرأسمالي للبرجوازية المحلية، لكن تكوين هذه الفئة بقي محكوماً لرأس المال العائلي الصغير، وهذا هو مصدر ضعف هذه الطبقة الاجتماعية، ومصدر ضعف القطاع الخاص، فما لا يقل عن 90% من منشآت القطاع الخاص منشآت صغيرة جداً، أي تستخدم من عامل إلى أربعة عمال.
  1. في تناولنا للأوضاع الاجتماعية تحديداً، لا نستطيع الحديث عن علاقات اجتماعية طبقية محددة في اطار المجتمع الفلسطيني، حيث نلاحظ بقاء ما يسمى بحالة السيولة الطبقية أو عدم التبلور الطبقي المحدد والواضح، الذي يسهم في تغيير نتيجة مصادر تشكل الوعي الطبقي، وتمايزه في هذه الطبقة عن الطبقات الأخرى، إلى جانب ما يسمى بالحراك الطبقي نتيجة فرص التعليم والفرص الفردية على قاعدة أهل الثقة والمحاسيب، وبالتالي ظل التشكل الطبقي الفلسطيني ضعيفاً وبطيئاً بحكم استمرار عوامل التخلف الداخلي من ناحية، وبحكم استمرار التبعية أو احتجاز التطور من ناحية ثانية، الأمر الذي أدى إلى استمرار حالة التشوه الاقتصادي والاجتماعي وتداخل الأنماط القديمة والحديثة والمعاصرة وتأثيرها على تشكل العلاقات الاجتماعية والوعي السائد، ارتباطاً بتداخل الولاءات السلطوية المركزية (لفتح أو لحماس كما هو حالنا في ظل الانقسام) أو العائلية والجهوية المحلية مع الولاءات الطبقية الجديدة والقديمة، إلى جانب بروز أشكال متنوعة للحراك الفردي في سياق الفساد السياسي والاقتصادي، أو في سياق ظروف الحصار والاغلاق الإسرائيلي وما يترتب عليه من آثار تنعكس على الأوضاع الاقتصادية عبر السوق السوداء والاحتكار والتهريب تحت مسميات مختلفة، لكنها في المحصلة النهائية تشكل وعاء واسعاً لحراك اجتماعي وفساد اقتصادي وتحولات اجتماعية مرتبطة بهذه الظروف أو بذريعتها.

 

لكن كل ذلك لا يلغي أبداً أهمية تطبيق مفهوم المواقع الطبقية في مجتمعنا الفلسطيني، وهو "مفهوم يقوم على تعايش وتمفصل أكثر من شكل أو مظهر داخل النمط الرأسمالي التابع والمشوه السائد في المدينة أو الريف أو في المخيمات التي تتميز عن المدينة والريف بكونها تضم فئات واسعة من "المهمشين" الذين تعيلهم وكالة الغوث، إلى جانب المساعدات أو المعونات الإغاثية ذات الاهداف المتعددة المقدمة للاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة اثناء الحصار، وخاصة بعد الحرب العدوانية. وفي هذا السياق نشير إلى المحاولات الدؤوبة من السلطة الفلسطينية، منذ قيامها، وقبلها م.ت.ف من أجل "تكييف المخيمات" عبر الاستعانة ببعض "النخب" العائلية والعشائرية والسياسية التقليدية بشتى الاشكال والاساليب بهدف أو بوهم استجابة المخيمات لسياسات السلطة أو م.ت.ف ما بعد اتفاقات أوسلو، رغم أن المسار الوطني لـ م. ت.ف استند بصورة رئيسية إلى مجتمع المخيمات في الوطن والشتات طوال مرحلة النضال التحرري ما قبل توقيع تلك الاتفاقات، ولكن بالرغم من حالة الهبوط السياسي في قيادة م.ت.ف، إلا أن ذلك لا يعني القطيعة بينها وبين جماهير المخيم، إذ أن التأييد الجماهيري لـ م.ت.ف داخل المخيمات استمر – بشكل أو بآخر – رغم هذا التناقض الذي يفسره جلبير الأشقر بقوله: "هذا ويبقي ثمة تناقض ظاهري بين تحليلنا لقيادة م.ت.ف. وكونها حظيت, حتى الآن, بتأييد جماهيري واسع. والتناقض هذا لا يتعلق بوصفنا لها بالبرجوازية, وهو أمر يمكن التحقق منه بالملموس ولا جدال فيه... بل يتعلق التناقض المذكور, بالأحرى, بوصفنا لمسار م.ت.ف. في السنوات الأخيرة, إن لم يكن منذ سنه 1973, بأنه نهج استسلامي. ف جورج حبش , الذي يشاطر التحليل ذاته, قد ذكر ثلاثة أسباب بالترتيب الزمني لتفسير ذلك التناقض الظاهري في المقابلة الطويلة التي نشرتها الهدف في ديسمبر 1987 ، قال إن هناك, أولاً, كون اليمين الفلسطيني قد بادر إلي الكفاح المسلح سنه 1965, الأمر الذي أضفى عليه مجداً كبيراً وسمح له بأن يحتل, من البدء, موقعاً قيادياً . وان هناك, ثانياً, كون "البرجوازية الفلسطينية مرتبطة, بحكم طبيعتها الطبقية وميولها التساومية والتهادنيه, بعلاقات وثيقة مع الأنظمة الرجعية والبورجوازية العربية, الأمر الذي جعلها تستند إلي دعم سياسي ومادي كبير من هذه الأنظمة, ساهم في هيمنتها... وإن هنالك, أخيراً, كون "العدو القومي - "إسرائيل" - قابَلَ الانحراف السياسي الذي اتسمت به مواقف وممارسة اليمين الفلسطيني, بالمزيد من التشدد والتصلب, مما جعل هذا اليمين يبدو في نظر الجماهير في موقع مقبول, ويتبع تكتيكات مقبولة"[3].

وفي كل الاحوال فإن هذه الظاهرة غير مستغربة، ذلك إن أهم ما تتميز به الأوضاع الاجتماعية-الطبقية في بلادنا، أنها أوضاع انتقالية، غير مستقرة وغير ثابتة، والأشكال الجديدة فيها، تحمل في ثناياها العديد من ملامح القديم ضمن علاقة التعايش بحكم ظروف أو محددات التخلف والتبعية وتشوه الخارطة الطبقية، ما يعنى استمرار بقاء هذه الأوضاع – دون أي تطور نوعي – طالما بقي تأثير تلك المحددات، لذا فإن التحليل الطبقي لمجتمعاتنا، القائم على المقارنة الميكانيكية أو التشابه بينها وبين مسار التطور الأوروبي كمعيار، سيؤدي بنا إلى مأزق تحليلي ومعرفي عند مناقشة الوقائع العينية والأحداث التاريخية التي ميزت واقعنا، لأن هذه الأحداث والوقائع كانت عاملا أساسيا من عوامل تشوه وتميع الوضع الطبقي الفلسطيني، فالنكبة الأولى عام 1948، التي شردت شعبنا ودمرت قاعدته الإنتاجية (الارستقراطية شبه الإقطاعية –المنظومة الحمائلية والعائلية-العلاقات شبه الرأسمالية آنذاك) ومجمل بنيته الطبقية والمجتمعية، ثم ضم وإلحاق الضفة الفلسطينية إلى الأردن لتصبح جزءا من اقتصاده ومجتمعه، ووضع قطاع غزة تحت الوصاية المصرية، وتكريس التباعد الجغرافي والسياسي بينهما، الذي عَمَّقَ التباعد الاجتماعي-الاقتصادي بين أبناء الشعب الواحد حتى الاحتلال عام 1967 ، الذي قام بإلحاق اقتصاد كل من الضفة والقطاع بالاقتصاد الإسرائيلي .

إن هذه الأحداث والمتغيرات والتطورات التي واكبت تطور مجتمعنا الفلسطيني  تفرض علينا أن نأخذ بعين الاعتبار هذه الخصوصية في تطور مجتمعنا، وعدم إمكانية تطابق مساره التطوري مع المعيار أو المسار الأوروبي كما شَرَحتْه بعض مقولات المادية التاريخية في تناولها للمجتمعات الأوروبية .

إن تشخيصينا لملامح التحول والتغير للبنية الاجتماعية في الضفة وقطاع غزة ما بعد قيام السلطة، ثم على أثر الانقسام والحصار العدواني الإسرائيلي، اظهر مجموعة من الحقائق والمؤشرات الدالة على طبيعة التشكل الطبقي في بلادنا :

    1.  نشوء شريحة بيروقراطية- كمبرادورية نافذة في القرار السياسي ومرتهنة بالتمويل الأمريكي الأوروبي ومتساوقة مع الرؤية السياسية الإسرائيلية بهذا القدر أو ذاك، وهذه الشريحة هي حامل اقتصادي اجتماعي وليس مجرد قيادة سياسية.
    2.  تزايد مظاهر الانحطاط السائد في المجتمع الفلسطيني، بسبب التبعية والتخلف والفقر وانسداد الأفق السياسي، وما ستؤدي إليه هذه الحالة من الانهيار التدريجي في النسيج الاجتماعي في ظل انحسار الآمال الوطنية الكبرى أو المأزق المسدود بتأثير مباشر للانقسام ومن ثم اشتداد الحصار وتكريسه، وتحويل القسم الأكبر من المجتمع، خاصة في قطاع غزة إلى حالة قريبة من اليأس والانهيار على الصعيدين الاجتماعي والسياسي بعد أن فرض على شعبنا أن يدخل في متاهة صراع داخلي يضاف إلى قهر وظلم الاحتلال، لن يخرج منه احد رابحاً سوى العدو الإسرائيلي المنتشي بتحقيق أطماعه تحت غطاء هذا الانقسام الذي حقق هدف العدو في تقويض أمن ومستقبل الإنسان الفلسطيني ومن ثم تقويض الأساس المادي والمعنوي لضمان حياته ومصدر رزقه .
    3.  تميز التطور الاجتماعي في شكله وجوهره، بطابع تراكمي كمي مشوه، بحيث لم يستطع أن يفرز بوضوح ملموس أية أطر برجوازية تنويرية أو ليبرالية، فكرية، أو ثقافية معاصرة، وبقيت القيم والأفكار القديمة والتقليدية الموروثة سائدة في أوساط الوعي الاعتيادي (العفوي) للجماهير الشعبية بالرغم من بعض أوجه الحداثة الشكلية المستوردة التي أسهمت في تعميق حالة التبعية والتخلف الاجتماعي إلى جانب الهبوط السياسي .
    4.  بروز المؤشرات السلبية الخطيرة على العاطلين عن العمل بسبب فقدانهم للأمن الاجتماعي ونظرتهم السوداوية وفقدانهم الثقة بالآخرين واضطرابهم النفسي والسلوكي وتزايد حدة توترهم العائلي ورغبتهم في الانتقام، وما يؤدي إليه كل ذلك  من تراجع القيم الأخلاقية والتربوية في الأسرة وتدهور العلاقة بين الأب والأبناء مع تزايد حالة الاكتئاب النفسي لدى الأب أو المعيل الرئيسي، وهي حالة طبيعية حين يعجز الأب العاطل عن تأمين احتياجات أسرته وأطفاله ويشعر بفقدانه لقيمته الاجتماعية كأب مما يؤثر في علاقته بالآخرين.
    5. جرى عن وعي تفكيك الأركان الأهم في المجتمع السياسي الفلسطيني التي تأسست في زمن الاحتلال، الحركة النقابية العمالية والحركة النسوية وقوى اليسار الفلسطيني، الأمر الذي مهد الطريق لصعود الإسلام السياسي، خاصة بعد تقهقر وارتداد اتجاهات واسعة في القيادة اليمينية "البرجوازية" في م.ت.ف، خاصة بعد اعترافها الصريح بدولة العدو الإسرائيلي.
    6. في ضوء تكريس الانقسام وتفكك النظام السياسي، تسود مجتمعنا اليوم سلوكيات أنانية تتسم بالراهنية والتركيز على حل قضايا الأجل القصير دون أن تعطي الاهتمام المطلوب لقضايا المستقبل، ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال تفاقم مظاهر التخلف الاجتماعي، وتراجع العلاقات القائمة على أساس المشروع الوطني والتعددية الديمقراطية لحساب قيم النفاق والإحباط والقيم الانتهازية والمصالح الشخصية بدلا من قيم التكافل والتضامن والمقاومة . ترافق إلى جانب ذلك، غياب المجتمع السياسي الفلسطيني ليحل محله – في الفترة الأخيرة، قبل وبعد الانقسام – مجتمع محكوم بالصراع والاستبداد والخوف والتعصب الديني اللاعقلاني، ومحكوم أيضاً بالمصالح والثروات الشخصية، على قاعدة أن السلطة مصدر للثروة وليست مصدرا للنظام والقانون والعدالة – إلى جانب الجرائم والانحرافات بكل أنواعها الأخلاقية والمجتمعية التي لم يعرفها مجتمعنا من قبل.
    7.  تفاقم النزعة الاستهلاكية لدرجة أن ينفق المجتمع الفلسطيني حوالي 4.5 مليار سنوياً فيما ينتج نصفها فقط ناهيكم عن تزايد مساحات الفقر وارتفاع الأسعار وتفاقم البطالة، الأمر الذي منح القوى السياسية المدعومة مالياً –في سلطة الحكم الذاتي- تربة خصبة لشراء الذمم وتجييش المحاسيب.
    8.  برجزة القيادة السياسية، حيث يتبدى للعيان الثراء الفاحش على فريق سلطة أوسلو وأجهزتها وإتباعها، إلى جانب الامتيازات ومستوى الدخل المريح لكافة الفصائل الوطنية التي أعلنت موافقتها على اتفاقات أوسلو وأصبحت مذيلة تماماً للسلطة وسياساتها الهابطة ارتباطاً بتلك المصالح والامتيازات، دون أن يتجاوز مستوى الدخل ونمط المعيشة البرجوازي الصغير لدى عدد قليل من الكوادر والقيادات في فصائل المعارضة اليسارية التي استفادت من نظام التبعيات في السلطة في الوظائف العليا خصوصاً، ناهيكم عن الامتيازات الملحوظة لدى مجموعات من الشرائح البرجوازية العليا (ذات العلاقة التاريخية بحركة الإخوان المسلمين وحركة حماس راهناً) من كبار تجار الجملة والعقارات ومحلات الصرافة والخدمات وبعض المنشآت الصناعية التي تزايد نشاطها بعد وصول حماس وتفردها في حكومة غزة، وممارستها لنفس أساليب السلطة السابقة، بما أفقد الساحة شرطها القيادي الثوري الذي عرفته المسيرة الفلسطينية في عقود سابقة، ولكن لا يجب ان ننسى من باب الإنصاف الإشارة بأن الإسلام السياسي لم ينفك متحدياً بالدم للاحتلال وشروط الرباعية وقابضاً على جمر حق العودة حتى اللحظة.
    9.  تطورت العلاقات الاجتماعية في اتجاه تبلور مجتمع طبقي مشوّه، وتابع، في سياق نسيج اجتماعي متنوع في سماته الطبقية بين القديم والحديث والمعاصر، رغم توحد معظم اطرافه في الموقف الوطني العام ضد العدو الصهيوني، والاحتلال، مع الاخذ بعين الاعتبار تباينات هذا الموقف ودرجاته بين القوة والضعف وبين مصداقيته العالية لدى الجماهير الشعبية الفقيرة وتضحياتها اللامحدودة من ناحية ومصداقية الاطراف الطبقية الاخرى وسقفها الهابط والمحدود وفق مصالحها من جهة ثانية.
    10.  تميز هذا التطور في شكله وجوهره، بطابع تراكمي كمي مشوه، بحيث لم يستطع أن يفرز بوضوح ملموس أية أطر برجوازية تنويرية أو ليبرالية، فكرية، أو ثقافية معاصرة، وبقيت القيم والأفكار القديمة والتقليدية الموروثة سائدة في أوساط الوعي الاعتيادي (العفوي) للجماهير الشعبية بالرغم من بعض أوجه الحداثة الشكلية المستوردة التي أسهمت في تعميق حالة التبعية والتخلف الاجتماعي، وفي ظل هذه التراكمات والتطورات الاجتماعية والإنتاجية المشوهه بصورة عامة، لم يكن ممكنا تبلور الطبقة العاملة الفلسطينية تبلورا يؤدي إلى توليد وعيها الذاتي بمصالحها (كطبقة).
    11. برغم تزايد مظاهر التخلف والانحطاط الاجتماعي وما رافق ذلك من توزع الولاءات الشخصية والعشائرية والاستزلام، في المناطق الشعبية الفقيرة بصورة خاصة، إلا أن الانقسام الاجتماعي الداخلي، في جوهره وحقيقته الموضوعية يعبر عن نفسه في صفوف أبناء شعبنا، في الضفة والقطاع، على قاعدة توزع السكان في السُلَّم الطبقي أو الاجتماعي، بين القلة من الأغنياء، والأغلبية الساحقة من الفقراء .
    12. تزايد انتشار الفقر الذي لم يتوقف عند الفقر المادي أو الفقر في الدخل, بل تخطى هذه الحدود إلى الفقر في القانون والنظام والقيم، وتزايد التفاوت اتساعا بين مستويات المعيشة، وخاصة في مناطق شمال وجنوب الضفة وخاصة طولكرم وجنين، وفي جنوب القطاع وبصورة خاصة في خانيونس ورفح. إلى جانب ذلك نلاحظ استمرار التفاوت الاجتماعي – في سياق التخلف التاريخي- بين الجنسين لصالح الذكور بصورة صارخة .
    13. نتيجة تراكمات السنوات الخمسة عشر الماضية، تسود مجتمعنا اليوم، خاصة بعد الانقسام بين "شرعيتين" متصارعتين في الضفة والقطاع وما أدى اليه من مظاهر القلق والإحباط واليأس، سلوكية أنانية تتسم بالراهنية أو اللحظة، تهتم بحل القضايا الحياتية الانية على حساب القضايا الوطنية الكبرى، فمع تزايد تلك المظاهر إلى جانب التخلف الاجتماعي، تراجعت العلاقات القائمة على أساس المشروع الوطني والعمل الحزبي المنظم – وتراجع دور الأحزاب الوطنية عموما واليسارية خصوصا– لحساب مشاعر الإحباط والقلق والتذمر واليأس السائدة في الأوساط الشعبية التي لم تعد تحرص على المشاركة في العمل السياسي من منطلق النضال التحرري والديمقراطي، واكتفت بالمشاركة في هذا العمل عبر الالتحاق أو التواصل مع احد القطبين، ارتباطاً بتأمين لقمة العيش والمصالح الخاصة وما تفرضه هذه العلاقة من دفاع هذه الأوساط الشعبية عن سياسات وممارسات القطب الذي تنتمي إليه في الضفة أو في قطاع غزة، ما يعني اننا نعيش حالة من الانحطاط عنوانها سيادة وانتشار قيم النفاق والإحباط بدلا من قيم التكافل والتضامن والصمود والمقاومة. ترافق إلى جانب ذلك، انهيار المجتمع السياسي الفلسطيني ليحل محله مجتمع محكوم بالإكراه أو بالمصالح الفئوية أو الحزبية لقطبي الصراع، في الضفة والقطاع رغم اختلاف الآليات والبرامج والاهداف في كل منهما.
    14.  تضخم نسبة العاملين في القطاع الحكومي إلى حوالي 15.4% من إجمالي القوى العاملة الفلسطينية، وإلى 26.5% من إجمالي العاملين بالفعل في الضفة والقطاع كما في منتصف عام 2016، حيث يقدر اجمالي عدد الموظفين في حكومتي الضفة وغزة، بحوالي (200) ألف موظف مدني وعسكري، منهم (42) ألف يتقاضون رواتبهم من "حكومة" حماس، و (158) ألف من حكومة رام الله، منهم (100) ألف في الضفة و (58) ألف في قطاع غزة.
    15. آثار الانقسام على التربية والتعليم من حيث محاولات تعديل المناهج من قبل حكومة السلطة / رام الله كاستجابة للشروط الأمريكية الإسرائيلية، أو من حيث سيادة المنطق الأصولي الغيبي في قطاع غزة عبر سياسات وممارسات حكومة حماس التي- أدت فيما أدت إليه – إلى تغيير بعض المناهج والكتب الدراسية وفق رؤاها السياسية والدينية، الأمر الذي أدى إلى تراجع قيم التنوير والديمقراطية والعقلانية والحداثة بصورة غير مسبوقة في مجتمع قطاع غزة .
    16. دفع الحصار الإسرائيلي بنحو 84% من الأسر الفلسطينية إلى تغير أنماط حياتها فيما تنازل 93% منهم عن المتطلبات المعيشية اليومية، وعبر 95% عن استيائهم الشديد لتحويل القطاع إلى سجن كبير كما تؤكد تقارير "برنامج غزة للصحة النفسية" وغيرها من التقارير الصادرة خلال أعوام 2009 - 2015، وفي هذا السياق نشير إلى تأثير الحصار على المرضى وخاصة مرض الفشل الكلوي والسرطان والمرضى المحولين للخارج ، إلى جانب نسب النقص في الأدوية وانقطاع التيار الكهربائي عن المستشفيات، كما أثر الحصار على البيئة حيث يؤكد العديد من المصادر أن مياه البحر تلوثت بشكل حاد حيث تصب فيه 50% من مياه الصرف الصحي (ما يعادل 77 مليون لتر من المياه العادمة).
    17. انعكاس الآثار السلبية للحصار والعدوان على الأطفال من النواحي الصحية والاجتماعية والنفسية، حيث تشير نتائج دراسة د.سمير قوته إلى أن 51% من الأطفال لم تعد لديهم الرغبة في المشاركة في أية نشاطات وأن 47% منهم لم يعودوا قادرين على أداء الواجبات المدرسية والعائلية، وأصبح 48% منهم يعانون من أمراض سوء التغذية إلى جانب بروز علامات الخوف والقلق على 61% منهم[4].
    18. انتشار ظاهرة التسول المباشر وغير المباشر بصورة غير مسبوقة وخاصة بين الأطفال دون الخامسة عشر في شوارع غزة وخانيونس ورفح بعد أن فقدوا بهجة الحياة نتيجة الحصار والفقر وسوء التغذية الذي أدى إلى انتشار أمراض فقر الدم (الانيميا)  في المناطق الفقيرة، وفي هذا السياق تظهر نتائج مسح القوى العاملة للعام 2014 أن نسبة الأطفال الاطفال العاملين (10-14 سنة) 1.6% أما الاطفال في الئة العمرية (15-17 سنة) فبلغ حسب الجهاز المركزي للاحصاء 7.5% ، أما بالنسبة للأطفال العاملين وغير الملتحقين بالتعليم ، فقد بلغت في الفئتين العمريتين 16.2% و 30.8% على التوالي[5]  – الاطفال دون سن 18- العاملين بأجر أو دون أجر بلغت 3.7 % أو ما يعادل (70300 طفل) من إجمالي عدد الأطفال في الضفة والقطاع البالغ 1.9 مليون طفل.
    19. قد نتفق على أن خطوات "حكومة حماس" خلال عامي 2008/2009 في إزاحة رموز الفساد والفلتان العشائري وعصابات تهريب المخدرات في قطاع غزة، قد أراحت سكان قطاع غزة بعد أن فرضت نوعاً من الانضباط فيه، لكن حكومة حماس بدأت عبر أجهزتها طوال سنوات الانقسام اللاحقة حتى اللحظة (2017)، في ممارسة أشكال جديدة من الاعتقال وكبت الحريات والآراء، وتعبئة الرأي العام ضد اليساريين والعلمانيين أو ما تسميهم "الملحدين" في محاولة صريحة ومباشرة منها لفرض شرعيتها أو هويتها السياسية المتذرعة بغطاء ديني، وبالتالي تكرس نفس أساليب السلطة، ولكن بمسميات وذرائع مختلفة ومرفوضة من قطاعات واسعة جداً من أبناء شعبنا الذين عرفوا بتجربتهم التاريخية والراهنة مدى مصداقية قوى اليسار وثوريته وتضحياته قبل أن تظهر حركة حماس على سطح الحياة السياسية والاجتماعية في بلادنا، ما سيجعل الشعب الفلسطيني يضع حماس وحكومتها جنباً إلى جنب مع فتح وسلطتها أو حكومتها، خاصة بعد أن اتضح لأبناء شعبنا أن العديد من ممارسات حكومة حماس لا تختلف اليوم عن ممارسات السلطة، ما يعني أن حماس وقعت في محظور ممارسات البذخ وشراء الشقق والأراضي والسيارات والمرافقين إلى جانب ممارسة الاستبداد وقمع الحريات العامة وحرية الرأي بذرائع دينية في مجتمع قطاع غزة المحافظ على التقاليد الدينية تاريخياً دون أي شكل من أشكال التعصب أو الانغلاق، علاوة على المحظور الأكبر المتمثل في استمرار الانقسام والمأزق المسدود الراهن، الذي وَفَّر – إلى جانب البؤس الاجتماعي السائد بسبب البطالة والفقر – المناخ اللازم لولادة وتأسيس التنظيمات السلفية العدمية المتطرفة إلى الحد الذي أوصلها إلى تكفير حركة حماس ذاتها وتكفير كل من يتحدث عن الديمقراطية والتعددية أو تطبيق القوانين الوضعية، إن هذه الصورة لم يكن ممكنا بروزها بهذه الحدة لولا الانقسام واستمرار الصراع على السلطة والمصالح بين فتح وحماس والتراجع المتزايد في مجتمعنا الفلسطيني الذي نشهده اليوم، الذي خلق مناخاً أصبح هم المواطن فيه ينحصر في الانخراط في الحياة الاجتماعية لتأمين مصلحته العائلية الخاصة والمحافظة على سلامته – كما يقول د.هشام شرابي- انسجاماً مع القول العربي المأثور "امش الحيط الحيط" إن النتيجة الحتمية لهذا المسار الاجتماعي، تقضي بأن تحل روح الخضوع محل روح الاقتحام وروح المكر محل روح الشجاعة وروح التراجع محل روح المبادرة وروح الاستسلام محل روح المقاومة، وتبعاً لذلك فإن "القوي المسيطر لا يواجهونه مواجهة مباشرة، بل يستعينون بالله عليه، كما في القول "اليد التي لا تستطيع كسرها بوسها وادعي عليها بالكسر" ففي حالة الإحباط تتراجع قيم مقاومة الظلم لحساب الخضوع كما في القول المأثور "العين ما بتقاوم المخرز" أو المخرز حامي والكف طري"، فقط المواجهة تكون مع الأضعف، وحين تسود هذه الخصائص أو السلوكيات فإن القوى يأكل الضعيف بغير حق في كل الأحوال.
    20. تزايد انتشار البطالة في أوساط الشباب أدى إلى السرقات والجرائم وانتشار المخدرات بكل أنواعها (الحشيش والبانجو والهروين وحبوب الاترمال وغير ذلك) والانحرافات الأخلاقية والاجتماعية والأمنية التي أدت إلى الإخلال بالأمن الاجتماعي، إلى جانب سعي القسم الأكبر من الشباب للهجرة إلى الخارج هروباً من هذا الواقع.
    21. بذريعة الحصار، أصبح التهريب عبر الإنفاق وغيرها في قطاع غزة خصوصا، ظاهرة "مشروعة" يتهافت عليها أصحاب المصالح والمحتكرين والزعران إلى جانب تهافت العمال المعدمين العاطلين عن العمل الذي تعرض العشرات منهم للموت للحصول على لقمة العيش، في ظل صمت الأجهزة الأمنية أو تواطئها، وبالتالي فإن الآثار الناجمة عن التهريب والأنفاق أدى التهريب والأنفاق إلى خلق حالة من الحراك الاجتماعي الشاذ الذي أفرز شرائح اجتماعية عليا أو ما يطلق عليهم الأثرياء الجدد أو أثرياء الحرب والسوق السوداء إلى جانب شريحة من العمال المعدمين الذين اضطروا للعمل في الأنفاق في ظروف أمنية معقدة بسبب مخاطر العدوان الإسرائيلي المتواصل على الأنفاق، ودون أي شكل من أشكال الحماية والضمانات الاجتماعية، وفي ظروف بالغة السوء من النواحي الصحية إلى جانب مخاطرها التي أدت إلى وفاة أكثر من 250 عامل من هؤلاء حتى نهاية عام 2016 بسبب عدم توفر الحد الأدنى من الوسائل المطلوبة لتأمين حياة العاملين في الأنفاق، الذين بلغ عددهم حوالي 15 ألف عامل، وتراجع هذا العدد إلى أقل من ثلاثة آلاف بعد أن قامت الحكومة المعصرية بضرب واغلاق معظم الانفاق بعد عام 2014.
    22. تردي أحوال الصيادين وبائعي السمك وعمال الصيانة ( حوالي 4000 صياد يعيلون حوالي 25 ألف نسمة) تدهورت معيشتهم بسبب الحصار الإسرائيلي سواء عبر حرمانهم من الصيد أو تعطيل حركتهم أو تهديدهم بالقتل، وارتفعت البطالة في صفوفهم بعد أن فرض عليهم الصيد في الأيام المسموح بها –في مسافة (3) أميال فقط رغم أن اتفاق أوسلو سمح لهم بالصيد لمسافة (20) ميل بحري.

 

كل ما تقدم، وغيره الكثير من التفاصيل الحياتية المجتمعية، يؤكد على ثقل العبء الذي يجب ان تتحمله القوى الوطنية الفلسطينية عموماً وقوى اليسار الفلسطيني خصوصاً، حيث ان دوره في الجانب الاجتماعي والديمقراطي والتنوير العقلاني لا يقل أهمية وخطورة عن دوره في جانب التحرر والنضال الوطني.

 

[1]  المصدر : د.جميل هلال – الطبقة الوسطى الفلسطينية – مؤسسة الدراسات الفلسطيني – بيروت – 2006 – ص56.

[2]  المصدر السابق ص 57.

[3] جيلبير الأشقر – الشرق الملتهب – ترجمة سعيد العظم - دار الساقي – بيروت – ط1 – 2004 – ص167/168.

[4] سمير قوتة – الانترنت .

[5] المصدر: موقع وفا الاخباري – الانترنت.