Menu

كايد الغول يكتب افتتاحية ملف "الحكيم: دروس وعبر في المرحلة الراهنة" في الذكرى 11 لرحيله

كايد الغول

خاص بوابة الهدف

وأنا أفكر في ما يمكن أن أكتبه في ذكرى رحيل رفيقنا القائد المؤسس " جورج حبش "، وجدت أنه من الصعوبة بمكان أن أحيط في هذه المناسبة بكامل تجربته، وما مثّله على مدار مسيرته الطويلة، فهو وكما قال عنه بحق رفيقنا الأمين العام أحمد سعدات في تموز 2008:

(أن تكتب عن الحكيم "جورج حبش" فأنت تكتب عن فلسطين الوطن وعن قضية العرب الأولى، مسارها، وسيرورة النضال الوطني الفلسطيني، ومشوار الكفاح للشعب الفلسطيني، فقد تماهت صورة الرجل مع صورة فلسطين).

وعليه، فإنني سأجتهد باستحضار بعض الأسئلة الأساسية فقط والتي كان يطرحها علينا، وعلى نفسه، خاصة في المحطات الصعبة التي كانت تواجهها الثورة، والنضال الوطني الفلسطيني، لما لذلك من علاقة بالحالة الراهنة، وبالمأزق الذي يعيشه الوضع الفلسطيني.

ومن أهم تلك الأسئلة:

هل يمكن التعايش مع الكيان الصهيوني؟! وهل هناك إمكانية للوصول معه إلى حل سياسي يُلبي حقوق الشعب الفلسطيني؟!

كان جواب الحكيم قاطعاً بالنفي، لأنه على قناعة راسخة بأن المشروع الصهيوني وتجسيداته بكيانٍ على أرض فلسطين، هو مشروع استعماري، ونقيضٌ للشعب الفلسطيني بتاريخه ووجوده وأرضه، وأن أهدافه لا تقف عند اغتصاب فلسطين على خطورة ذلك، بل تتعداها للسيطرة على الوطن العربي وتمزيقه.

لذلك، قاوم الحكيم بقوة وثبات شديدين، الاتفاقيات التي وقعت معه ومقدمات الوصول إليها، ودعا إلى أوسع تحشيد فلسطيني وعربي لمواجهة تداعياتها ومخاطرها.

وفي ذلك الوقت، كثيرون من أدعياء الواقعية اتهموه بالتشدّد والعناد، وعدم قراءة الواقع، فكان جوابه لهم "إننا مع الواقعية الثورية التي تنطلق من الواقع لتغييره، لا الارتهان له"، وكان يرفض التضليل الكامن في مقولة "أن السياسة فن الممكن" حيث يرى فيها، وخصوصاً في الحالة الفلسطينية انحناءه لموازين القوى المحسومة إلى حدٍ كبير لصالح العدو الصهيوني، ومقدمة لتبرير التنازلات الكبيرة التي جسدتها فيما بعد اتفاقيات أوسلو التي اعترفت بالكيان الصهيوني وبشرعية وجوده على أرض فلسطين.

والسؤال اليوم، هل شكّلت تلك الاتفاقيات تحولاً، أو تغييراً في مضمون المشروع الصهيوني الذي يستهدف كل فلسطين والوطن العربي؟! أم كانت مدخلاً ومظلّة لتكريسه؟! وأداة لتمدده في علاقات واتفاقات سياسية وأمنية وعسكرية واقتصادية مع العديد من البلدان العربية؟!

أعتقد أن الإجابة تكمن في وقائع الاستيطان الذي لا يتوقف، وفي تهويد القدس ، ومصادرة الأراضي لأسبابٍ أمنية أو غير ذلك، وفي عمليات القتل والتهجير التي طالت أيضاً شعبنا في الـ48، وفي رفض الاعتراف بأيٍ من حقوق شعبنا أو البحث فيها على الأقل باعتبارها من قضايا الحل النهائي، كما نصّت على ذلك الاتفاقيات الظالمة الموقعة معه.

وعربياً، في دعمه للإرهاب وقوى التطرّف، وفي العدوان العسكري المباشر على بلدان عربية كما هو الحال مع سوريا ولبنان، وسعيه ودعمه لتفتيت الكيانات الوطنية، وتحويلها إلى كيانات مذهبية وطائفية تبُرّر وجوده، وتُنهي إلى الأبد صفة المنطقة باعتبارها منطقة عربية تتوحّد فيها مصالح شعوبها.

إن وضوح النتائج التدميرية للاتفاقيات الموقعة مع الكيان الصهيوني، تُجيب على سؤال الحكيم، بأنه لا مجال للتعايش مع هذا الكيان، ولا إمكانية للوصول معه إلى حلٍ سياسي يُلبّي حقوق شعبنا.

وعليه، فإنه بات من الضرورة ودون إبطاء، إعلان الانسحاب من الاتفاقيات الموقعة معه، ومن الالتزامات التي ترتبت عليها، والكف عن الرهان على وهم المفاوضات، وأن يُعاد بناء الاستراتيجية الوطنية الموحدة انطلاقا من كون الكيان الصهيوني عدواً، ومن أنّ الصراع معه شاملاً، ومن أنّ فلسطين كما هي بالنسبة للحكيم كل فلسطين، وأن ينضبط التحرّك والنشاط الدبلوماسي والسياسي لهذه الاستراتيجية، خاصة في المحافل الدولية، وذلك من خلال التمسّك بجميع قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بحقوق الشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها حق اللاجئين في العودة إلى ديارهم وفقاً للقرار 194، والقطع مع أية جهود أو مبادرات تعمل على تقويض هذا الحق، من خلال ما يسمى "بحلٍ عادل ومتفق عليه لقضية اللاجئين"، فقضية اللاجئين هي جوهر الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي كما كان يؤكد على ذلك الحكيم، ويعتبرها الجسر الرابط بين الأهداف التكتيكية المرحلية، والأهداف الاستراتيجية بتحرير فلسطين.

سؤال آخر كان يطرحه الحكيم، هل يمكن إدارة صراع ناجح مع العدو بدون وحدة وطنية؟!

كان جواب الحكيم حاسماً أيضاً في هذه القضية، فالوحدة كما يراها، واستناداً إلى تجارب الشعوب هي شرطٌ لازم للصمود والانتصار، وفي سياق هذه الرؤية كان يُشدّد على التمييز بين التناقضات الثانوية المحكومة بسقف الوحدة، وبين التناقض الرئيس مع الاحتلال، وبالاستناد إلى هذا الفهم أدان بشدة أي إدارة دموية للتناقضات الثانوية كما جرى في كل حالات الاقتتال الداخلي، وآخرها ما جرى إبان الانقسام عام 2007، وقد قال كلمته الشهيرة في ذلك (مجرمٌ من يحمل السلاح، مجرمٌ من يُحرّض عليه)، وأوصانا وصيته الأخيرة (أن استعيدوا الوحدة الوطنية وأنهوا الانقسام وتمسكوا بالمقاومة).

إننا نرى بأنه قد آن الأوان للعمل بوصيته، بعد أن باتت الخيارات مأزومة ومغلقة أمام من راهن على التفاوض وعقد الاتفاقيات مع العدو التي أوصلتنا إلى نتائج كارثية، وأمام مشروع الانقسام البغيض بنتائجه التدميرية، وبعد أن باتت القضية الوطنية مهددة بخطر التصفية، خاصة بعد التطورات التي يشهدها الإقليم، وتسارع خطوات تطبيع بعض الأنظمة الرسمية العربية مع الكيان الصهيوني، ومع إدارة أمريكية تُعلن صراحة دعمها المطلق "لإسرائيل" كقوة احتلال، ودعمها الاستيطان، وإصرارها على إعادة النظر بقرار مجلس الأمن الذي يدينه، ونقل سفارتها إلى القدس، وغيرها من القرارات المعادية لشعبنا وقضيتنا، وصولاً للحديث عن "صفقة القرن" التصفوية.

ولذلك، فإن تحقيق الوحدة الوطنية التي دعانا إليها الحكيم، لم يعد بالإمكان التعامل معها كقضية مؤجلة، فهناك اتفاقيات وطنية موقعة تُحدّد مسار تحقيق هذه الوحدة، بما تتطلبه من عقد مجلس وطني توحيدي يتشكّل بالانتخاب حيث أمكن، وبالتوافق حيث لا يمكن ذلك، وإعادة بناء كل المؤسسات الوطنية على أساسٍ ديمقراطي وفي مقدمتها منظمة التحرير الفلسطينية، وبالاستناد إلى استراتيجية وطنية، وشراكة جادة تقرر في كل ما يتعلق بالشأن الوطني.

سؤال ثالث، كان يسأله الحكيم، في مدى قدرة أي ثورة بالوصول إلى أهدافها دون الاستناد إلى جماهيرها، وكان يتجدد هذا السؤال عندما كان يجرى إدارة الظهر لإرادتها عند التقرير في القضايا الوطنية الكبرى، أو عندما كان يجري تغليب الثقة في العامل الخارجي وإن كان معادي، على الثقة في قدرة هذه الجماهير على تحقيق الأهداف الوطنية.

الحكيم، كان شديد الثقة بالجماهير الفلسطينية، وشديد الايمان بقدرتها في الدفاع عن حقوق شعبنا، وفي القدرة على مواصلة النضال وتقديم التضحيات بلا حدود لتحقيقها، وجاءت الانتفاضة الكبرى عام 1987، وبعد خروج الثورة من لبنان وتشتّت قواتها لتعطي رسالتها القوية حول دور الجماهير في حماية القضية الوطنية وفي إعادة الاعتبار للنضال الوطني، ووضعه في سياقه الذي يُحقق من خلاله شعبنا هدفه في الحرية والاستقلال.

وانطلاقاً من هذه الحقيقة، فإننا ندعو إلى الثقة بجماهيرنا والاعتماد عليها في الصمود والمقاومة ومواجهة التحديات القائمة، والعمل على تنظيمها والإصغاء إليها، واحترام مطالبها واحتياجاتها، والدفاع عن مصالحها، ووقف التعدي عليها كما جرى في أكثر من مناسبة.

إننا ندعو السلطتين في الضفة وغزة، بعدم التعامل الأمني مع تحركات الناس المطالبة بحقوقها، وعدم التشكيك والتخوين، وتوجيه الاتهامات للقائمين عليها والمشاركين فيها، بالارتباط مع جهات خارجية، كما كانت تفعل ولا تزال أنظمة عربية لم تحميها مثل هذه الاتهامات.

فشعبكم يستحق كل الاحترام، ويستحق رفع القبعة له تقديراً لصموده، يستحق صون كرامته وتوفير احتياجاته ... ومصلحتكم أن تستعيدوا ثقته بعد كل خيبات الأمل والمعانيات التي عاناها ولا يزال بسبب سياساتكم، صارحوه بالحقائق كما هي لا كما تريدونها، وبمسؤوليتكم فيما وصلت إليه الأمور، وثقوا بأنه سيكون في هذه الحالة، الأم الحنون التي تغفر خطايا أبنائها، والجدار الذي ستتكسر عليه مؤامرات اجتثاث قوى المقاومة، والتصفية للقضية والحقوق.

سؤال رابع شغل بال الحكيم وطرحه في أكثر من مكان ومناسبة، خاصة بعد الانهيارات الكبرى التي شهدتها المنظومة الاشتراكية، والنظام الرسمي العربي، أواخر ثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن المنصرم، وما خلفتها من ارتدادات قوية على الصعد الفكرية والثقافية والسياسية، ومن عمق وعيه لخطورة وتعقيد المرحلة السياسية التي يمر بها النضال الوطني والقومي والأممي، وما ولدته في نفوس البعض من شكوك ويأس وإرباك، حول مصير قضيتنا وحقوقنا العادلة، طرح سؤال أولوية النضال على الجبهة الثقافية، وأجاب: "في مثل هذه اللحظات الصعبة تبرز أهمية النضال على الجبهة الثقافية، فقد نخسر الجبهة العسكرية والسياسية، ولكن لا يجوز أن نخسر الجبهة الثقافية التي تتناول حقنا في الوجود والحرية والحياة، والتي تتناول حضارتنا وتاريخنا وتراثنا ومستقبل أجيالنا"، لذلك كان دائم الحث على أن نقتصد في كل شيء إلا الثقافة. 

سؤال خامس كان يشغل بال الحكيم، وهو سؤال الديمقراطية بعد أن غابت أو باتت شكلية على الصعيد الوطني في غالب الأحيان، فالديمقراطية عنده أساسٌ في العمل الجبهوي، وعلى قاعدتها يجب أن تتشكّل وتدار المؤسسة الوطنية، وتتقرّر سياساتها، كضرورة لا غنى عنها في مرحلة التحرر الوطني.

واعتبر أن حفظ حقوق المواطنين في التفكير، والتنظيم والاختيار، هو حقٌ مطلق، ومن شأنه تعزيز مَنعة المجتمع وإطلاق طاقات أبنائه، ومن تنظيم إدارة التناقضات داخله بعيداً عن أي نَزعات عُنفية.

أمّا على الصعيد الحزبي، فسأكتفي بما جاء في كلمته إلى أعضاء المؤتمر الوطني السادس عام 2000 حيث دعا إلى "توفير البيئة الديمقراطية والفاعلية الفكرية لأنها الحل المناسب في إدارة التناقضات الداخلية في الحزب بهدف انضاجها وتوظيفها إيجاباً، فالتنوع وصراع الأفكار هو مصدر إثراء واغناء طبيعي لمن يُقدّرها ويعرف كيف يستفيد منها، لأن التكامل والتماثل لا يعني سوى الموت والركود الذي يقود إلى ديكتاتورية الرأي الواحد، فيتحوّل الحزب إلى قوة طاردة بدل أن يكون مركزاً جاذباً للطاقات الاجتماعية".

السؤال السادس والأخير الذي سأختم به، يتناول الأخلاق، التي كان يوليها الحكيم اهتماماً خاصاً، انطلاقاً من قناعاته بأن الثورة والمناضلين فيها، يجب أن يتحلوا بالأخلاق الثورية، وأن يشكّلوا في ذلك قدوة تُحتذى، ولا يتخيّل ثورة ومناضلين بدون ذلك.

وبهذا الوعي، تميّز الحكيم بسلوكٍ ومصداقية ثورية شهد له فيها الجميع، فهو الذي كان ينبذ ويّحذر من صفات الكذب، المراوغة، الدجل السياسي، الخداع، والعقلية التآمرية .. وفي جانب آخر، كان يكره المظاهر، وتستفزه الشكليات الفارغة من المضمون، والادعاء، والمديح الزائف تملّقاً للمسؤول.

كثيرة هي الأسئلة التي يمكن تناولها في الذكرى الحادية عشر لرحيل الحكيم، منها سؤال الأزمة، وسؤال الشرعية، وأزمة المشروع الوطني وحوامله، وسؤال الهوية، وغيرها من الأسئلة التي بحاجة لبحث مستفيض.

وختاماً، إليك يا حكيمنا وقائدنا كل العهد والوفاء وللأهداف التي ناضلت من أجلها، وللقيم الثورية التي تركتها تراثاً لنا، وستبقى خالداً على الدوام في قلوب شعبك، وقلوب كل من أحبّوك، وآمنوا بأفكارك خارج حدود فلسطين، فأنت لم تكن بالنسبة لهم مجرّد قائد فلسطيني ثوري، وإنما وبنفس الدرجة كنت قائداً عربياً ثورياً تحمل هموم هذه الأمة، وتدافع عن وحدتها وكرامتها، وعن مصالحها العليا.