Menu

في ذكرى رحيل جورج حبش نستحضر تاريخًا فلسطينيًا مشرفًا

إبراهيم أبراش

الحكيم

في كل الشعوب توجد (قيادات) عابرة لا يترك رحيلها أثرا لا على واقع الشعب ولا في الذاكرة الوطنية ، إنهم الذين صيرتهم الصدفة أو أطراف خارجية قادة . في المقابل هناك قيادات تصنع تاريخا لنفسها ولشعبها ، لذا تبقى في الذاكرة الوطنية ومن حق الشعب أن يخلد ذكراها ويجعل منها قدوة للأجيال ، ليس من خلال استنساخ الشخصية بل استلهام التجربة ، والراحل جورج حبش الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من هذه القيادات التاريخية التي ستبقى فخر الشعب الفلسطيني والأمة العربية . 

نعم ، إن الشعوب تصنع تاريخها بما فيه من إيجابيات وسلبيات ، وفي تاريخنا الفلسطيني سواء الحضاري الممتد طوال أكثر من أربعة آلاف عام ، أو السياسي الحديث الممتد لأكثر من مائة عام محطات مشرفة كثيرة ، علينا أن نفتخر بها ونبني عليها ، ليس أقلها الحفاظ على الثقافة والهوية الوطنية واستمرار قضيتنا الوطنية حاضرة في الضمير والوجدان العربي والعالمي . صحيح ، الفلسطينيون لم يحرروا وطنهم بعد ، ولم يهزموا إسرائيل عسكريا ، ولكن في المقابل لم يستسلموا أو يتخلوا عن حقوقهم التاريخية ، وصمودهم يعني فشل إسرائيل في تحقيق مشروعها الصهيوني حتى الآن  .

لو بحثنا عن سر صمود الشعب الفلسطيني لوجدنا وراء ذلك – بالإضافة لعظمة الشعب وشرعية حقوقه الوطنية - تكمن حركات وقيادات سياسية كانت قريبة من نبض الشعب ومتفاعلة مع معاناته ومستعدة لقيادته في معركة التحرير ، وعلى رأس هؤلاء  الرئيس القائد أبو عمار والزعيم القائد الرفيق جورج حبش . كل منهم كان يمثل مدرسة في الوطنية والنضال ، وإن كان للراحل أبو عمار من خلال قيادته  لحركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية السبق في إعلاء راية الوطنية الفلسطينية وقيادة الكفاح المسلح الوطني ضد إسرائيل  ، فإن للراحل جورج حبش السبق في تسليط الضوء على الخطر الصهيوني بل وفي الاشتباك المسلح معه منذ السنوات الأولى للنكبة وقبل أن تظهر حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية للوجود ، وله الفضل في الربط بين قيام دولة إسرائيل والتآمر العربي الرسمي على الشعب الفلسطيني . إن كانت الوطنية ذات الخلفية الإسلامية مدخل ياسر عرفات للعمل السياسي فإن الوطنية ذات الخلفية والمنطلق القومي والاشتراكي كانت مدخل جورج حبش للعمل السياسي  .

التاريخ النضالي للراحل جورج حبش سابق على تاريخ الجبهة الشعبية وعلى منظمة التحرير الفلسطينية ، بل يمكن القول إنه أول قائد فلسطيني وضع نظرية شمولية للصراع مع إسرائيل من خلال النظر للصراع ليس كصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين بل بين المشروع الصهيوني المتحالف مع الإمبريالية العالمية والرجعية العربية من جهة ، والشعب الفلسطيني والأمة العربية وقوى التحرر العالمية من جهة أخرى ، ومن هنا توجهه لتأسيس  جبهة قومية عربية ، كانت بدايتها منظمة ( كتائب الفداء العربي) و( هيئة مقاومة الصلح مع إسرائيل) ثم حركة القوميين العرب ، وبعد حرب 1967 الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين .

كانت فلسطين وجهة الراحل جورج حبش ، إليها كانت ترنو عينيه حيث لم ينس ما جرى في حرب 1948 وفي ذلك يقول : ( لقد  شعرت بالإهانة في أحداث 1948 فقد أتى الإسرائيليون إلى اللد واجبرونا على الفرار ، إنها صورة لا تغيب عن ذهني ولا يمكن أن أنساها ، ثلاثون ألف شخص يسيرون يبكون يصرخون من الرعب ، نساء يحملن الرضع على أذرعهن والأطفال يمسكوذن بأذيالهن والجنود الإسرائيليون يشهرون السلاح في ظهورهن ، بعض الناس سقط على قارعة الطريق وبعضهم لم ينهض ثانية .  لقد كان أمرا فضيع ما أن ترى ذلك حتى يتغير عقلك وقلبك ، فما الفائدة في معالجة الجسم المريض عندما تحدث مثل هذه الأمور ، يجب على الإنسان أن يغير العالم ، أن يقتل إذا اقتضى الأمر ) ومن هنا آمن منذ اللحظة الأولى للنكبة بأهمية الكفاح المسلح ضد إسرائيل وأعوانها .

إن كان الهدف والتوجه عند جورج حبش هو فلسطين فإنه بحث في كل الأيديولوجيات و الساحات الفكرية عما  يوصله لهدفه الرئيس ، ولذا لم يكن جورج حبش منغلقا فكريا أو هوياتيا بل كان إنسانيا شموليا ، وفي ذلك يقول عن نفسه : ( أنا إسلاميّ التربية, مسيحيّ الديانة, اشتراكيّ الانتماء ) وقد استمر الحكيم متمسكا بهذه الرؤية حتى وفاته ، فبعد قيام الثورة الإيرانية قال في عام 1980 : (إن أي نظام عربي يحيك الدسائس والمؤامرات ضد الثورة الإسلامية في إيران هو خائن خارج على إرادة الشعب العربي) ، وكان منطلقه في ذلك ، ما دامت الثورة الإيرانية ضد الإمبريالية وإسرائيل فيجب الوقوف معها حتى يثبت العكس .

ومن نفس المنطلق وفي سياق إبقاء البوصلة في اتجاه فلسطين ، وعدم السماح أن يكون الانتماء للمحاور والمشاريع والأيديولوجيات على حساب الانتماء والهوية الوطنية الفلسطينية ، ولأن جورج حبش لم يكن دوغمائيا مغلقا ، فقد تعامل بمرونة مع كل الأيديولوجيات ، فتم الانتقال من القومية الطوباوية والمثالية إلى القومية الاشتراكية ثم الماركسية ال لينين ية وأخيرا الفكر الوطني بما لا يقطع مع المبادئ والقيم القومية والاشتراكية الإنسانية ، فكانت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين حزبا وطنيا قوميا اشتراكيا . لكم نتمنى أن تستفيد قوى الإسلام السياسي في فلسطين وخصوصا حركة حماس من تجربة الحكيم والجبهة الشعبية ، بأن تعيد ترتيب أولوياتها وتحالفاتها ، بالعمل على توطين أيديولوجيتها الدينية بما يخدم فلسطين والمشروع الوطني التحرري .   

اليوم وفي الذكرى السابعة لرحيل القائد الفذ جورج حبش نستحضر زمنا للعمل الوطني الفلسطيني نفتقده اليوم ، زمن كان يحكم فيه قادة كبار لم يسمحوا للخلافات الأيديولوجية ولا لأصحاب الأجندة الخارجية ولا للمال السياسي ، أن يكونوا سببا في الاقتتال الداخلي وفي الانقسام وتدمير المشروع الوطني ، زمن كان القادة الكبار يختلفون ويتنافسون ولكن على قاعدة المصلحة الوطنية ، ولم تكن خلافاتهم تصل إلى درجة تكفير أو تخوين بعضهم البعض . في كثير من المحطات والمنعطفات التاريخية التي كانت تتطلب من منظمة التحرير اتخاذ مواقف وسياسات غير شعبية ، كانت الجبهة الشعبية بقيادة جورج حبش تتفهم الموقف فتتخذ موقفا معارضا وأحيانا تكون معارضتها حادة وتصل لدرجة التهديد بالانسحاب من المنظمة أو توقيف مشاركتها في اجتماعات اللجنة التنفيذية ، ولكنها تبقى في الإطار الوطني وتتفهم ما تتعرض له المنظمة من ضغوط ، فلا توافقها الرأي ولكن لا تُخَوِنها أو تقطع معها شعرة معاوية .

وأخيرا نتمنى على الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين اليوم أن تكون أول من يستلهم الروح الوحدوية عند الرفيق جورج حبش ، بأن تأخذ المبادرة لتوحيد قوى اليسار في جبهة واحدة لتشكل (كتلة تاريخية) - كما تحدث الرفيق غازي الصوراني في بحث بهذا الشأن – تساعد على استنهاض كل الحالة الوطنية ، وهو استنهاض نحن في أمس الحاجة له.