كوشنر صهر الرئيس الأمريكي ترامب ومستشاره لشؤون المفاوضات يشرع الآن في جولة عربية لتسويق صفقة القرن التصفوية، بدأها ب مصر لكونها إحدى الدول العربية المهمة في التعاطي مع ترتيبات ما يسمى بالسلام في الشرق الأوسط حسب مخططات السياسة الأمريكية. هذا التحرك السياسي الأمريكي النشط يحدث بعد فشل ورشة البحرين الاقتصادية في المنامة التي كان من أهداف انعقادها تحويل القضية الفلسطينية من طابعها السياسي الوطني التحرري إلى قضية مشاريع اقتصادية، عن طريق تسخير أموال النفط الخليجية العربية في خدمة المشروع الصهيوني الذي أصبح في عهد ترامب مشروعًا أمريكيًا بتحالف تيار الأصولية المسيحية مع دعاة الفكر الصهيوني العنصري.
بعد فشل ورشة البحرين الاقتصادية التي كان يأمل صانعي السياسات في الإدارة الأمريكية أن يتمخض عنها خطط وصيغ واقعية لما يسمى بالازدهار الاقتصادي، حيث بعد هذا الفشل الذي اعترف به بعض الأعضاء البارزين في الكونجرس الأمريكي عن الحزب الجمهوري الحاكم، كان على الدبلوماسية الأمريكية أن تنشط من جديد من خلال تفعيل دورها عبر كوشنر نفسه، لتحقيق هدفين، أولهما: معرفة احتياجات الأنظمة السياسية العربية التي حضرت ورشة البحرين بجانب إسرائيل حتى يمكن تلبية هذه الاحتياجات، وقد تكون هذه الاحتياجات مجرد إجراء تعديلات لازمة مقترحة على الصفقة، حتى تشكل مدخلًا لتمرير عملية تسوية سياسية شاقة ومعقدة. وثانيهما: التمهيد لاجتماع عربي بدعوة من الإدارة الأمريكية في منتجع كامب ديفيد حسب ما تناقلته وسائل إعلامية، يتم فيه إعلان البنود الكاملة لما تسمى صفقة القرن حتى تنتهي مسألة التسريبات التي تعلنها بعض المصادر الإعلامية بين الفترة والأخرى.
ثمة إدراك لحقيقة أن الاكتفاء بالدول العربية الخليجية وحدها ليست كافية لتمرير التسوية الأمريكية المرتقبة، وأنه لا بد من ضم دول عربية أخرى، لهذا كان الاهتمام بمصر والأردن ثم التوسع باتجاه المغرب العربي، لتشمل جولة كوشنر الحالية المملكة المغربية، وقد يمتد الاهتمام في مرحلة قادمة إلى بلدان كتونس وليبيا وموريتانيا، في محاولة لكسب أكبر تفاعل عربي خاصة من الأنظمة ذات الطابع الوراثي المرتبط بالعامل الديني، فكل من السعودية والأردن والمغرب تمارس الحكم باسم الشرعية الإسلامية وهو الشيء الذي تحتاجه صفقة القرن لتمرير التنازل المطلوب في الحقوق الوطنية المشروعة المتعلقة ب القدس والأماكن المقدسة على وجه الخصوص، وذلك بما ينسجم مع الرواية اليهودية.
فشل ورشة البحرين الاقتصادية لم يبطئ إجراءات التطبيع الرسمية مع الكيان الصهيوني، وقد كثر الحديث قبل أيام عن زيارة قام بها وفد إعلامي عربي بدعوة من وزير الخارجية الصهيوني، وما رافق ذلك من قيام عضو الوفد السعودي بالإعلان الصارخ عن ما وصل إلية التطبيع من انحطاط سياسي وأخلاقي، وهو عمل ليس منفصل عن التوجه السعودي الذي يقوده ولي العهد في موضوع التحالف ضد إيران والحوثيين، حيث الكيان الصهيوني يشكل في حال تمرير الصفقة الحليف القوي المحتمل الذي يحمي العرش السعودي من الانهيار.
جولة كوشنر وورشة البحرين وزيارة الوفد الإعلامي العربي وما وصل إليه التطبيع من تسارع لم يدفع النظام السياسي الفلسطيني حتى الآن إلى التوجه السريع إلى عملية إصلاح بنيوي في تركيبة وضعه السياسي الحالي، بل إن هذه التطورات المتلاحقة تجري على طريق تصفية القضية الفلسطينية، وحالة الانقسام السياسي تتعمق أكثر وأكثر بإجراءات جديدة كالتي حدثت في القطاع مؤخرًا؛ بتشكيل لجنة إدارية جديدة وبتعيين رئيس لبلدية غزة بعيدًا عن العملية الديموقراطية، وهو الأسلوب الذي واجه معارضة سياسية فصائلية وشعبية
لقد اقتصر العمل السياسي الفلسطيني في هذا الوقت بإعلان السلطة الفلسطينية عن وقف العمل بالاتفاقيات مع الكيان الصهيوني، وهو موقف وطني صحيح لا بد منه في ظل الانتهاكات المتواصلة الذي تقوم بها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، والتي يجب أن يعقبها خطوات عملية وأكثر جدية. أما في القطاع فما زالت الجهود ال قطر ية متواصلة وقد أثمرت أخيرًا عن "وقف التصعيد" في محيط القطاع، وصولًا إلى التوصل إلى تفاهمات دائمة تحول دون الانزلاق إلى حرب رابعة مدمرة، في حين أن ما يخص المصالحة الوطنية كحالة سياسية ضرورية فقد ظلت بعيدة عن التحقيق، وما أصابها من تعثر أصاب الشعب الفلسطيني بخيبة أمل، حيث كان من الطبيعي في ظل الأخطار المحدقة بمصير المستقبل السياسي للشعب الفلسطيني أن تعطى الأولوية للمسألة الداخلية؛ لإنهاء الانقسام السياسي لمواجهة تصفية القضية الفلسطينية.
إن ما يجري من قبل طرفي السلطة في الضفة وغزة هو ممارسة للعمل السياسي لبرنامجين سياسيين مختلفين أحدهما بأفق "وطني" والآخر بأفق "إسلامي"، وهي الأزمة الكبرى التي يعاني منها المشروع الوطني في حالته التنظيمية والسياسية الراهنة، وفي حال استمرار هذا الوضع غير الطبيعي الذي يحتم النضال السلمي الفصائلي والجماهيري لتجاوز العقبات للوصول إلى صيغة واقعية للوحدة الوطنية؛ فإن الأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية ستكون أكثر صعوبة وتعقيدًا من أي وضع مضى، وقد تؤدي إلى حالة تجزئة للكيانية الوطنية الفلسطينية، وحالة تفكك وانفراط عقد أيضًا للحركة الوطنية عمومًا.