ناقِش الأفكار بغض النظر عن مطلقيها أو حامليها، وانظر إليها على أنها من الممكن أن تكون مكمّلة لأفكارك أو متعارضة معها، وفي الحالتين تكون عملية نقد الأفكار وصراعها هي التي تحكم تطورها، وفي العملية الفكرية والثقافية لا يوجد انتصار مطلق أو هزيمة مطلقة؛ إنها عملية صراع متداخلة يحكمها مدى وعي الفكرة وعوامل تطورها الداخلية، وتفاعلها مع محيطها، فلا يوجد أفكار خارج الوعي الإنساني التي هي انعكاس لنشاطه الاجتماعي.
إن تطور وسائل الاتصال المعرفي التي وفرت سرعة الاتصال وانتشار الأفكار والمعلومات لها دور في ارتقاء وانتشار مصادر الثقافة، ولكن شرط وعيها مرتبط بمدى امتلاك الدماغ للمنهج العلمي في رؤية الظواهر، ومعرفة القوى الداخلية المحركة لها. هنالك كم هائل من الكلمات والجمل يتم ترتيبها، ولكن المهم هل هي انعكاس للواقع أم تجميل أو مبالغة أو انقاص له؟ وهنا تكون الرغبة هي المحرك للموقف.
عملية الوعي يجب أن تحكمها مقولة (ملموس -مجرد - ملموس)، هذا الاتجاه المعرفي الذي يُنتج أفكار صحيحة (نسبيًا)، أما مقولة (مجرد- ملموس - مجرد)، فهي مقولة مثالية تعتقد أن الوعي موجود أصلًا في الدماغ أو من خارج الوعي الإنساني، وهذا يتناقض مع مقولة أن المعرفة هي انعكاس للواقع الملموس. لذلك، قف وفكر انت مع أي مقولة ملموس مجرد ملموس ام مجرد ملموس مجرد؟ نتيجة لذلك تحكم على صحة كلماتك وواقعيتها أم مثاليتها؛ المثاليون والواقعيون بهم تكتمل لوحة التناقض والتراكم الكمي للمعرفة، وتكون مدخلًا لتعميق الوعي الفردي والجمعي، وتُحدث التغيّر الكيفي.
تطور وسائل وطرق المعرفة كانت عاملًا مهمًا في الوعي، فمثلًا عندما تطورت الفيزياء للمرحلة (الميكانيكية) انعكس هذا في طريقة عمل الأدمغة، وسمي التحليل (بالميكانيكي)، هذا على سبيل المثال وليس للحصر.
إن التفاعل مع العلوم وفهمها ومعرفة العوامل المتداخلة بينها وانعكاسها في وعينا، تحدد بشكل كبير طرق عمل الدماغ وخلاصاته المعرفية، وعملية إسقاط المقولات النظرية بغض النظر عن ظروف ظهورها وارتباطها بتطور العلوم الأخرى، يجعل تأثيرها على الواقع غريبًا، ولا تجد لها مكانًا في أدمغة العامة؛ كونها لا تعكس ظروف حياتهم الملموسة، وغن فرضت فإن انعكاساتها على المجتمعات تكون تدميرية، أو إنها جاءت من خارج السياق التاريخي لتراكم ثقافتهم التي تتحكم في سلوكهم.
يطرح البعض أن الصراع الفكري ليس أمرًا ملحًا، أو إنه ليس أولوية، هذا طرح بعيد عن الواقع لأن الأفكار هي في عملية صراع يومي، تأخذ أشكال وطرق وتعابير مختلفة، ولا يمكنك أن تلغي أولوياتها لكون تناقضها هو انعكاس للواقع المادي القائم، والمعرفة هي نتاج للانخراط الواعي في نشاطه.
على سبيل المثال "إسرائيل" فكرتها قائمة على أساس الفكرة الدينية من خارج الوعي الإنساني التي لا تعير أي اهتمام للبشر الذين لا ينتمون لفكرتهم، والذين يساندون فكرتهم بالنسبة لهم رعاع، للاستخدام فقط. هذا هو جوهر فكرتهم العنصرية، وهي تتلاقى مع الأفكار الأخرى في الديانات التي تعتبر إنها هي الطريق الوحيد للخلاص، وهنا فإن عمليات القتل في القدس والمدن الفلسطينية للشباب والشابات، وسياسة مصادرة الأملاك، وتشريد الشعب الفلسطيني، وسياسات الاعتقال والسجن للمناضلين من أجل الحرية. هذه الصورة لا تختلف عن أساليب داعش وأخواتها في العراق وسوريا، ولا تختلف عن قصف الشعب اليمني، أو عن النظام العنصري البائد في جنوب أفريقيا، أو عن قتل وتصفية السكان الأصليين في كندا واستراليا ونيوزلندا أو "الهنود الحمر" في أمريكا، كلها أساليب وطرق مصادرها نتيجة مقولات من خارج الوعي الإنساني.
إن مجابهتها والصراع معها تأخذ أشكال وطرق مختلفة، ولكن في الجوهر هو صراع ما بين الأفكار التي تعبر عن الوعي الإنساني كانعكاس للواقع الملموس، والأفكار التي تعبر عن الوعي من خارج الوعي الإنساني. من الممكن استخدام المقولات التي تتلاءم مع الواقع والتي هي نتاج للممارسة العملية، ولكن لا يجب على المفكرين الواقعيين طرح فكرة تجميد الصراع الفكري أو اعتباره أنه ليس أولوية لأن أولويته تتكتسب من واقعيته المادية وانعكاساته السياسية والاقتصادية والاجتماعية. من الممكن استخدام السياسي منها، لكن دائمًا علينا أن نؤكد إنه انعكاس للواقع (الفكري) المادي الملموس.