شكلت الاحتجاجات الشعبية العربية منذ أن انطلقت من تونس والتي سميت حين ذاك بثورات "الربيع العربي" أسلوبًا نضاليًا جديدًا لانتزاع مكاسب سياسية واجتماعية من ضمنها إسقاط النظام السياسى القائم، وهو الشعار الناظم الذي رفعته هذه الاحتجاجات، وذلك بعد أن فشلت القوى السياسية في إقامة نظم وطنية وديمقراطية تقوم على التعددية. أما الانقلابات العسكرية التي شهدتها بعض دول المنطقة قبل ذلك كأداة للتغيير، فقد أقامت نظم قطرية إقليمية وتحولت بذلك إلى أنظمة استبدادية قمعية؛ صادرت فيها الحريات باتخاذها موقفًا سلبيًا معاديًا لقضية الديمقراطية باسم سلطة الحزب الواحد الذي يهيمن عليه الجيش. الثابت من خلال قراءة موضوعية متوفرة الآن ويجري الاستفادة منها، أن الاحتجاجات الشعبية تلك والتي تشهدها بعض أقطار الوطن العربي حاليًا لم تحقق أهدافها الحقيقية، والكثير من هذه الاحتجاجات التي توقفت أعادت إنتاج النظام السياسي السابق الذي كانت تهدف إلى تغييره؛ والسبب في هذا الإخفاق هو كونها تنطلق عادة بشكل عفوي دون تخطيط حقيقي لافتقارها إلى قيادات وطنية وديمقراطية، وهو ما يُسهل عملية اختطافها وحرف بوصلتها من قبل إما من قوى محلية تريد تحقيق مصالحها التنظيمية الخاصة، كما درجت عليها قوى تيار الإسلام السياسي، أو من قوى خارجية إقليمية ودولية، خاصة قوى أنظمة الرجعية العربية التي تعمل على اجهاض أي ثورة حقيقية بآفاق تقدمية، وذلك حفاظًا على استمرار بقائها كسلطة سياسية استبدادية، وهذا حال أنظمة الخليج العربية الوراثية. في حين أن قوى إقليمية أخري كإيران وتركيا تسعى كل منها لتمديد نفوذها في المنطقة العربية؛ الأولى اعتمادًا على الأقليات الشيعية، والثانية اعتمادًا على التنظيمات الإسلامية السنية، ومنها المتطرفة، كما ثبت في الحالة السورية الراهنة. إن الاحتجاجات الشعبية حتى تحقق أهدافها وتتحول إلى ثورة وطنية حقيقية تُخلص البلاد من الاستبداد والفساد تحتاج إلى وسط ثقافي مستنير وفاعل، وليس فقط إلى هبة عفوية سرعان ما تتوقف بتحقيق بعض الإجراءات الاقتصادية الإصلاحية التي لا تستفيد منها سوى شرائح البرجوازية التي يهمها تحقيق مصالحها الطبقية، في حين تبقى الفئات الاجتماعية الأكثر بؤسًا في المجتمع كما هي دون تغيير ملموس في أحوالها المعيشية، ذلك أن قدرة أي احتجاجات شعبية منفردة بدون قيادة وبدون صياغة برنامج متجدد يستجيب بدقة لاحتياجات الواقع والمجتمع، ستكون عملية صعبة ومعقدة، وقد تؤتي ثمارها فقط على شكل إجراءات بعيدة عن حلول جذرية ناجحة تتغلب فيها البلاد على الأزمات. قبل أشهر شهد السودان احتجاجات شعبية أطاحت بالرئيس حسن البشير الذي تولى السلطة عبر انقلاب عسكري قام به الضباط الإسلاميين استمر فيها ثلاثون عامًا، وكانت هذه أطول مدة يقضيها رئيس سوداني في الحكم، وقد مارس فيها سياسة القمع والاضطهاد حتى على أقرب حلفائه من القوى والشخصيات الإسلامية، وذلك بفرض الإقامة الجبرية على الشيخ حسن الترابي زعيم الجبهة القومية الإسلامية والمرجعية الدينية البارزة الذي أشرف على نظام الحكم ما يقارب عشر سنوات، لكن المؤسسة العسكرية ممثلة بالمجلس الانتقالي العسكري هي التي تولت زمام السلطة السياسية فعليًا مرة أخرى، في حين لم يستطع (تجمع المهنيين) الذي قاد الاحتجاجات الوصول بالسودان إلى تشكيل حكومة مدنية خالصة، في إطار نظام سياسي وطني ديمقراطي يفتح آفاق التحرر والتقدم للشعب السوداني وظلت مشاركته جانبية في السلطة السياسية. وكذلك ما حدث في الجزائر التي شهدت هي الأخرى حراكًا شعبيًا فرض على الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي استمر سنوات طويلة في السلطة رغم حالته الصحية، سحب ترشيحه لدورة رئاسية جديدة، غير أن النظام السياسي الجزائري ظل كما هو دون أي تغيير يذكر في بنيته التنظيمية وتركيبه الطبقي؛ محكومًا بهيمنة رجال الأعمال على الاقتصاد الوطني، وهيمنة حزب جبهة التحرير على القرار السياسي. وما يحدث الآن في العراق ولبنان لن يخرج عن هذا السياق في مجرى الصراع القائم بين النظام السياسي والشعب، حيث لا تستطيع الاحتجاجات الشعبية في كل منهما إسقاط النظام الطائفي؛ لأن ذلك الهدف يحتاج إلى تعبئة وتفعيل التيار الجماهيري الديمقراطي العلماني الواسع، وكل ما تستطيع تحقيقه هذه الاحتجاجات هو الحصول على اجراءات إصلاحية تبقي على القوى السياسية الطائفية تحتكر السلطة، وذلك كما أُعلن مؤخرًا في لبنان بتقديم رئيس الوزراء الحريري استقالة حكومته، وهو مطلب جزئي يعفي الكثير من القوى السياسية الطائفية بما لها من تاريخ سياسي فاسد في أدائها الحكومي من المسائلة. والسؤال الآن، كيف يمكن أن تتواصل الاحتجاجات الشعبية؟ وماذا تتطلب حتى تحقق أهدافها؟ أما الإجابة الصحيحة فهي بالتوصل إلى الصيغة الواقعية للتغيير، وهي التي تتضمن في بنودها أولًا: في إيجاد علاقة بين القوى السياسية الوطنية والديمقراطية وبين الجماهير حتى تتعزز الثقة بينهما. وثانيًا: في الربط ما بين السياسي التحرري والاجتماعي الديمقراطي. وثالثا: في تنوع أشكال النضال، ولكن بعيدًا عن العنف، وعند ذلك سوف يكون بالإمكان توفر الظروف الموضوعية؛ لأن تتكلل مسيرة هذه الاحتجاجات الشعبية بتحقيق الأهداف السياسية التي انطلقت من أجلها.
