تشهد شوارع المدن الرئيسية في تشيلي مظاهرات حاشدة تطالب بالعدالة الاجتماعية وتعديل الدستور وتأمين فرص عمل وخفض الأسعار ورفع الأجور، كل ذلك حصل بعد أن اتخذت الحكومة قرارًا برفع أسعار تذاكر المترو، هذا القرار الذي صرخت ضده حناجر جماهير سنتياغو وأفاقت على وقعه تشيلي.
بعد مرور 46 عامًا على الانقلاب العسكري الذي قاده قائد الجيش بينوشيت، وأدى إلى قتل الرئيس الليندي، الذي جاء إلى الحكم عبر خيار ديمقراطي حر عام 1970 ، واتخذت حكومته مجموعة من الإجراءات الاقتصادية؛ أهمها تأميم مناجم النحاس، وإجراء إصلاحات اقتصادية وتعليمية وصحية، ورفع الأجور للقطاع العام بنسبة 40% ، وفتحت الآفاق لحكم اشتراكي، رأته الإدارة الأميركية خيارًا يشكل تهديدًا موجهًا لنفوذها في أمريكا اللاتينية، فقامت بإجراءات مضادة؛ بدأت بحصار اقتصادي وعدم تشجيع الاستثمار في الاقتصاد التشيلي وسهلت هروب رأس المال المحلي، مما أدي إلى حالة من الركود والتضخم، ولّدَت خلافات جدية داخل فصائل الجبهة الشعبية في كيفية التعامل مع التحديات الداخلية والخارجية، هذا التعارض فتح فجوات دخل منها اليمين لإعادة الانقضاض على حكم تحالف اليسار الديمقراطي.
هذه المواجهة مع اليمين المدعوم من واشنطن ضد سياسات التحالف من فصائل الجبهة الشعبية التي كانت تتشكل من قوى يسارية من الحزب الاشتراكي، الذي كان يمثله الليندي إلى الشيوعيين وممثلي النقابات العمالية التي دعمت الخطوات التأميمية التي قامت بها حكومة الليندي، وفتحت دور للسلطة الشعبية التي شكلت نموذجًا يضاف إلى النموذج الكوبي، رأت فيه الإمبريالية الأمريكية تحديًا في قارة تعتبرها حديقة خلفية لنفوذها. ولوقف اندفاع التغييرات التي بدأت بسقوط النظم العسكرية الموالية لها في البرازيل والأرجنتين، دفعتها برمي ثقلها الاقتصادي والسياسي والأمني لخلق ظروف مؤاتية لإسقاط حكم اليسار في تشيلي .
تشيلي وشخصية الليندي الواضحة خياراتها الاشتراكية التي أعلنت خيار وقوفها مع الفقراء والعمال والفلاحين والمثقفين وموظفي القطاع العام ونقاباتهم، كانت تشكل تحديًا للولايات المتحدة التي عمل جهازها CIA على ترتيب انقلاب قاده الجنرال بينوشيت، وزير الدفاع الذي حاصر القصر الرئاسي في 11 سبتمبر 1973 وقتل الرئيس الليندي.
حُكم بنوشيت علق العمل بالدستور وحل البرلمان، وألغى دور النقابات العمالية، وخفض الضرائب على الشركات الخاصة، ولاحق اليساريين ومنعهم من النشاط السياسي، وقتل الآلاف منهم، وهجر نصف مليون تشيلي، وارتكب مجازر جماعية حتى الآن لا تعلم عائلات الضحايا مصير أبنائها وأبائها ونسائها، وألغى التأميم وأعاد مصانع الدولة للقطاع الخاص، وأقام حكمًا ديكتاتوريًا استمر حتى 1990 ، انتهى تحت الضغط الشعبي من خلال استفتاء عام لم يحصل فيه على أكثرية، ولكنه احتفظ بنفوذه ومنصبه كوزير للدفاع حتى 1998.
خرج بينوشيت من قصر الرئاسة وسقطت وعوده التي أطلقها بعد سقوط حكومة الليندي في تحويل تشيلي إلى دولة عصرية، ومركز أعمال نشطK لا مكان ودور فيه للفقراء وتنظيماتهم اليسارية السياسية ونقاباتهم.
منذ ثلاث أسابيع والجماهير التشيلية في الشوارع تطالب باستقالة الرئيس اليميني وحكومته، وإجراء انتخابات مبكرة وترفع مطالباتها بتعديل الدستور، بالإضافة إلى توفير فرص عمل وتخفيض أسعار السلع ورفع الرواتب ومطالب تطال الصحة والتعليم.
نهاية حكم بينوشت فرضت واقعًا جديدًا يتمثل بظهور قطبين هما؛ تحالف اليمين بقيادة الحزب الديمقراطي المسيحي والحركة الديمقراطية والشيوعية والنقابات العمالية والفلاحية، حيث التظاهرات المدعومة من تحالف النقابات العمالية والقوى اليسارية والشيوعية تطرح سؤالًا: ما هو موقف واشنطن من نزول الشعب التشيلي وشرعيته ودعمه؟
واشنطن تدعم الرئيس اليميني وتحالفه ولا تعير أية قيمة لموقف الجماهير التشيلية التي خرجت للشوارع ما دامت تحركها قوى التحالف الديمقراطي اليساري !في حين تدعم القوى اليمينية في فنزويلا وتنصب رئيسًا للشعب الفنزويلي، ضاربةً بعرض الحائط القوانين الدولية والمحلية لفنزويلا وخياراتها وتدعمها في ذلك منظومتها الرأسمالية الغربية، في الوقت ذاته تقف صامتة أمام خروج الجماهير في شوارع تشيلي.
هذا يؤكد أن الإمبريالية الأمريكية وحلفائها وأدواتها البنكية والسياسية، تحدد مواقفها على أساس الهوية الفكرية للقوى المحركة للتحركات الجماهيرية ،هذه المواقف التي إذا ما جمعتها بدءً من فلسطين مرورًا بسوريا و اليمن والعراق ولبنان والجزائر وتونس وفنزويلا وغواتيمالا وكوبا ودول إفريقيا... تجد أنها تنطلق من موقف أيديولوجي أعلنه ترامب بكل وضوح في خطابه بالدورة ال74 للجمعية العامة للأمم المتحدة، بعنوان الصراع مع الفكر الإنساني الاشتراكي، وما يعنيه من اعتماده على سياسة تحقق العدالة الاجتماعية للشعوب، من خلال توزيع الثروات وعدم تمركزها في يد قلة من البشر؛ سياسة قائمة على احترام خيارات الشعوب في تقرير مصيرها، وقائمة على رفض الحروب العبثية، وعدم الاستثمار في الاختلاف الديني والمذهبي، وتقف دائمًا إلى جانب الفقراء والمحرومين، بغض النطر عن هويتهم القومية أو الدينية أو العرقية أو لونهم. هذا العنوان الأيديولوجي الناظم للإمبريالية الأمريكية وحلفائها وأدواتها المحلية. عنوان الصراع بين مصالح التغوّل الرأسمالي، وبين مصالح الشعوب خياراتها الحرة في استغلال ثرواتها .
جماهير تشيلي مرة أخرى تخرج وبمئات الآلاف لترفض حكم اليمين المدعوم من الإدارة الأمريكية .فلقد أفاقت سنتياغو لتعيد الروح لشعب تشيلي ضد سياسة اليمين وخياراته الاقتصادية والسياسية .إن تجربة تشيلي وتجرية يسارها وتعارضاته في إطار الجبهة الشعبية تتطلب دراسة معمقة لاستخراج الدروس والعبر.
المظهر العام للصراع القائم الممتد من سنتياغو مرورًا بكراكاس إلى فلسطين ومحيطها، يحمل عنوان أيديولوجي بين قوى اليسار واليمين، فرضته السياسات الأمريكية الواضحة العدائية ضد الخيارات الإنسانية في الحرية؛ من أجل تعميم العدالة من خلال المشاركة الأوسع لفئات الشعوب في تحديد مستقبلها وخياراتها، بعيدًا عن وصفات المؤسسات المالية الرأسمالية التي تنهب من جهة، وتقدم القروض لتغرق بالديون من جهة أخرى، كوسيلة لاستمرار هيمنتها .
بين سنتياغو وكاراكاس وفلسطين وبغداد وبيروت ودمشق والجزائر... تتوضح وحدة الصراع ضد الإمبريالية وأدواتها المحلية والدولية؛ فرأس المال الاستغلالي وإن تعددت وجوهه الدينية أو القومية أو العرقية، فإنه يحمل ذات الجوهر الاستغلالي البشع للشعوب في كافة قاراتها.