تمكن زعيم الليكود الصهيوني نتنياهو من تفكيك تحالف كحول لافان "أزرق أبيض" والتوصل مع زعيمه بني غانتس إلى تفاهمات أفضت إلى تشكيل "حكومة وحدة وطنية" برأسين، يتناوب كل من نتنياهيو وغانتس على رئاستها، وتتبنى الحكومة الجديدة ذات البرنامج القديم – الجديد لليمين القومي الديني, والسياسة العنصرية المتطرفة ضد الشعب الفلسطيني, والعودة لنظرية "أراضي أكثر وسكان أقل" .. علاوة على التمسك بـ" صفقة العصر" الترامبية, والشروع بتطبيق بنودها, حيث لا تغيير على سياسة كراهية السلام, والمواقف العنصرية والفاشية المتشددة تجاه الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية والقومية!
في مقدمة أولويات "حكومة الرأسين" اليمينية؛ فرض "السيادة الإسرائيلية" على جميع المستعمرات والكتل الاستيطانية في القدس وحولها, وضم الضفة الغربية وغور الأردن، إضافة لإصدار قوانين عنصرية جديدة تدعم "قانون القومية اليهودي"، وتطبيق إجراءات أكثر فاشية وعدوانية ضد فلسطينيي أراضي عام 1948, وبناء المزيد من المستوطنات في أراضي عام 1967, وتهويد مدينة القدس وترسيمها "عاصمة إسرائيل الأبدية"، والسيطرة على جميع الأماكن المقدسة, والتقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى بين الديانتين الإسلامية واليهودية, وتطوير "خطة القدس 2050" التي لا تقف عند مدينة القدس ومحيطها, بل تمتد لتشمل منطقة الأغوار وهضبة الجولان السورية؛ مستغلة قرار الرئيس الأمريكي المتضمن الاعتراف بضمها إلى "إسرائيل".
وجاء في توجهات حكومة الرأسين اليمينية: "تعمل الحكومة على تقوية وتوسيع الكتل الاستيطانية, وضم أجزاء من الضفة الغربية في أوائل تموز 2020, واعتبار غور الأردن هو الحد الأمني الشرقي لإسرائيل, والقدس الموحدة عاصمة إسرائيل الأبدية, وإبقاء الباب مفتوحاً لتسوية سياسية مع الفلسطينيين وفق الرؤية الإسرائيلية – الأمريكية، والتعامل مع صفقة القرن المستندة إلى هذه التوجهات "، إضافة إلى "تكريس هضبة الجولان كجزء من إسرائيل".. وتكثيف العمل ضد حركة حماس, وتشجيع المبادرات الاقتصادية لمصلحة سكان القطاع؛ بهدف دق أسافين بينهم وبين "المنظمات الإرهابية"!
لقد أعلن نتنياهو أن "حكومته متمسكة باستراتيجية تتوخى التركيز على الأولوية الأمنية, وليس التسويات السياسية "، ويأتي ذلك في ظل واقع ومعطيات ترتكز إلى عدد من العناصر؛ وأبرزها:
1/ عدم تقديم أية تنازلات سياسية أو استراتيجية للجانب الفلسطيني, وإنما العمل على تبني سياسات تستهدف تضييق الخيارات على السلطة الفلسطينية، مع الترويج بأن الرئيس عباس منقوص الشرعية, وأنه لم يعد شريكاً حقيقياً وفاعلاً يمكن الاعتماد عليه والوثوق بقدراته.
2/ التعجيل بترضية الكتل والمكونات الحزبية داخل الائتلاف القومي الديني الجديد، والتأكيد على أن الجانب الإسرائيلي غير ملزم بأن يقدم أي تنازلات ومن أي نوع, في ظل الوضع المتردي فلسطينياً.. بل سيتم العمل إسرائيلياً على تسويق "صفقة العصر" إقليمياً ودولياً, وجمع شمل اليمين الإسرائيلي, بعد أن تم تأمين الانحياز والدعم الأمريكي المطلق للمشهد الإسرائيلي المنظور والبعيد.
3/ تحرر الجانب الإسرائيلي من أية ضغوط سياسية إقليمية أو دولية.. وسيكون ذلك مدخلاً لبدء مرحلة جديدة من السياسات الإسرائيلية الأحادية الجانب, هدفها اختبار ردة الفعل الفلسطينية، ومن الطبيعي أن يعمل اليمين الصهيوني بتنسيق أمريكي لافت، وهو الأمر الذي ينبغي التنبه لمخاطره, في ظل رهانات صهيوأمريكية على ضرورة العمل وفقاً لبنود "صفقة العصر"؛ المتضمنة ترويج المصالح الإسرائيلية في الإقليم بأكمله, وليس فقط على المستوى الفلسطيني والعربي.
4/ وفرت الإدارة الأمريكية عبر "صفقة العصر" دعماً استراتيجياً متماسكاً ومستقراً "لإسرائيل ", بما في ذلك التوافق الأمريكي – الإسرائيلي، بشأن الترتيبات الأمنية والاستراتيجية المتفق بشأنها في الضفة الغربية والقدس و غزة وهضبة الجولان السورية.
ستبقى "إسرائيل" تراقب ما يجري داخل قطاع غزة والضفة الغربية, مع التركيز على الأولويات المطروحة التي تتعلق بأمنها أولاً, مع تقديم بعض التسهيلات التي يمكن أن تغير نسبياً من الوضع المأساوي الراهن في القطاع, من دون التخلي عن سياسة تكريس الفصل التام بين القطاع والضفة؛ بهدف الضغط على السلطة الفلسطينية وتطويق مسار تحركها في أضيق نطاق.
- واقع الحال فلسطينياً:
الرؤية الصهيوأمريكية الممتدة نحو مصالح "إسرائيل" العليا وبقاء المشهد الراهن في الضفة والقطاع على ما هو عليه لن تدوم, في ظل التوجه الإسرائيلي لخيارات "صفرية" في التعامل اليومي, مع تحديات قطاع غزة القابل للانفجار في أي لحظة، ما دام الحصار مستمراً, إضافة لاحتمال تغيير معطيات المشهد الفلسطين،ي وتغير القيادة الفلسطينية الحالية، واحتمال حدوث حالة من عدم الاستقرار الأمني والسياسي في الضفة الغربية وامتدادها لقطاع غزة؛ الأمر الذي سيرتب بالضرورة لخيارات سلبية على الأمن القومي العربي، خاصة مع مخاوف فصائل العمل الوطني الفلسطيني من أن يؤثر ذلك على العلاقات "المصرية – الأردنية –الإسرائيلية"، وقناعة الفصائل بأن ل مصر والأردن مصلحة في إبقاء الوضع الراهن على ما هو عليه. بمعنى عدم التحمّس لإنهاء الانقسام وإنجاز المصالحة, والدمج مجدداً بين الضفة الغربية وقطاع غزة, واستمرارهما في إدارة المشهد الراهن دون حسمه, وهو الأمر المرشح للتنامي في الفترة المقبلة, في حال البدء بتطبيق بنود "صفقة العصر"، وتغيير القيادة الفلسطينية الحالية، وصعود قيادة جديدة تعيد النظر بجوهر العلاقات الفلسطينية العربية، وتضع خطة عمل واقعية ممتدة لإنقاذ القطاع والضفة, وإعادة وصل ما انقطع بينهما, خاصة أن "إسرائيل" ستلجأ إلى تبني " خيارات صفرية " وتشديد الحصار, وربما الدخول في مواجهات عسكرية, ليس هدفها القصف المتقطع على غزة فقط, وإنما تحييد القدرات العسكرية والصاروخية لفصائل المقاومة, دون إسقاط حركة حماس, إنما لتعطيل وإعاقة مسار تحركها وشل قدرتها على إدارة القطاع وشؤون سكانه الحياتية.
إن بقاء الوضع الراهن فلسطينياً على ما هو عليه يمثل تحدياً حقيقياً للأمن القومي العربي, ويتطلب من جميع فصائل العمل الوطني التعامل معه برؤية أكثر استشرافاً, وليس مجرد اتباع أساليب استعراضية مؤقتة, لا سيما أن حركة حماس في القطاع تتعامل بحسابات وتكتيكات استراتيجية, وتطمح في نهاية المطاف لبناء منظومة فلسطينية جديدة, ربما تتجاوز فكر وتوجهات "م. ت. ف" التي حاولت في مرحلة معينة اللحاق بها؛ فحركة حماس تريد أن تؤكد أنها تجاوزت فكر وسياسة "الفصيل" الضيقة, منذ أن طرحت تعديلاً في ميثاقها لكي تكون البديل العملي للسلطة الفلسطينية, في ظل رهانات تتطلب الاستجابة لمصالحها الاستراتيجية وفق سياق إقليمي عام، بغض النظر عن نجاح أو إخفاق المشروع الصهيوأمريكي المتمثل ب "صفقة العصر"!
خلاصة القول: في كل الأحوال ومع مراجعة توجهات وخيارات حكومة اليمين القومي الديني الصهيوني, وردود الفعل الفلسطينية الرسمية، يبقى قيام أي "كيان فلسطيني" مسخ – سواء باستمرار الأوضاع في الضفة على حالها أم عبر تغييرها –الخاصرة الهشة والرخوة للأمن الوطني والقومي الفلسطيني والعربي-, وهو ما يستدعي ضرورة الانتقال من التكتيكي المؤقت إلى الاستراتيجي الممتد, وعلى رأس الأولويات إعادة بناء "م .ت. ف" ومشروعها الوطني.. وتحقيق المصالحة وإنها الانقسام المدمر، رغم كل المعوقات والإشكاليات الحالية، وبما يربط الواقع الراهن بالمستقبل المنظور؛ الأمر الذي سيثير مجدداً إشكالية وحدة ومركزية القرار الوطني واستراتيجية العمل المشتركة بالنسبة لكل من حركة حماس في غزة والسلطة في رام الله من جانب, وعموم فصائل الحركة الوطنية الفلسطينية من جانب آخر.
إن مأزق الحركة الوطنية الفلسطينية في ظل الصعود القومي الديني المتسارع في المجتمع الإسرائيلي, لا يحتاج إلى التفكير والتفحص فحسب, بل إلى وحدة العمل أيضاً, وأولى مؤشرات هذا العمل يجب أن تكون تأكيد البديهيات المتمحورة حول إعادة بناء المشروع الوطني وأدواته الفعلية؛ لخوض النضال ضد نظام الأبارتهايد الزاحف في أراضي الـ 48، كما في الضفة وغزة والقدس والشتات, ولعل تحالف أحزاب اليمين الفاشي وحكومة الرأسين في "إسرائيل"، علاوة على مشهد مصادرة الأراضي وسياسة القضم والضم وتوسيع المستوطنات, تدعو الجميع إلى "دق جدران الخزان"؛ كي نستفيق ونعيد الاعتبار إلى المقاومة بجميع أشكالها المتاحة.