Menu

بين فيروسيْ الضم والكورونا.. هل يستطيع مشروع أمنى حماية الأرض والإنسان؟

رلى أبو دحو

نُشر في العدد (16) من مجلة الهدف الرقميّة

كأن الاقدار تضع مقاديرها مرة واحدة في حِجْر الشعب الفلسطيني، فقد تصاعدت بشكل غير مسبوق في الأعوام الأخيرة ومنذ الإعلان عن صفقة القرن، سياسات الاستعمار الاحتلالي القمعية من هدم للبيوت، واعتقالات، وقتل بدم بارد على الحواجز العسكرية، والتضييق على الحركة والخنق الاقتصادي، والتي يود الاحتلال تتويجها في هذه المرحلة بقرار الضم لمناطق واسعة من الأغوار و أريحا وما يصطلح عليه مناطق "ج"، هذا من جانب، أما على المقلب الآخر تأتي موجة فيروس كوفيد-19 “الكورونا" ليجد الفلسطيني نفسه بين فكي كماشة؛ فيروس الاحتلال والضم الذي يتجاوز فكرة السيطرة على الأرض إلى نفي الوجود الفلسطيني، وبين فيروس كورونا الذي يفتك بصحته ويهدد حياته، ويلقي به في واقع اقتصادي معيشي قاسٍ، يضاف إلى قسوة الواقع أساسًا بفعل سياسات الاحتلال. ولكن أن تنتهي هنا المصائب والأقدار فهذه يمكن التعامل معها؛ فالشعب الفلسطيني اختبر الكثير في مسيرة نضاله الطويلة في مواجهة قمع الاحتلال وإجراءاته، بل واستطاع أن يخلق نموذج ايجابي في المقاومة كان محط أنظار العالم وقبلة ثواره، في الخارج، أما في الداخل الفلسطيني أصبحت الانتفاضة الكبرى نموذج عالمي في شعب يتحدى ويصمد.

إذن، أين تكمن الإشكالية في التعامل مع الحدثين وإن بدوا منفصلين؟ فالأول سياسي والثاني صحي، إلا إن معالجة ما يبدو عادي وعالمي في نفس اللحظة (جائحة الكورونا) مرتبط أساسًا في الجهة الرسمية التي تعالجه، وهي الحكومة وعنوانها الأساس وزارة الصحة، وما يتبع من وزارات تعالج الآثار الاقتصادية والاجتماعية للجائحة، ولكن هذه البنية الحكومية عنوانها السلطة الفلسطينية هي نفسها التي عليها معالجة قرار الضم الإسرائيلي، وهنا تكمن الإشكالية الحقيقية، فهي بنية عاجزة عن القيام بالمسألة الحياتية، وكذلك السياسية الوطنية.

في السابق، خاض شعبنا نضاله عبر أدوات موحده نضاليًا وشعارات واضحة هدفها تحرير فلسطين، وتحت عنوان منظمة التحرير الفلسطينية التي وإن اختلفت التوجهات بين فصائلها، إلا أن انطلقت من اعتبار الاحتلال الصهيوني هو العدو الأساس والمركزي، وبالتالي شكلت هذه الأداة رافعة، ليس للنضال وحسب، بل أيضًا للمواجهة ولصمود شعبنا في فلسطين المحتلة، وفي مخيمات اللجوء في لبنان و الأردن وسوريا على وجه التحديد، خاصة وأن مركز الثورة كان في قلب هذه المخيمات.

ما الذي تغير اليوم كي يصبح عبء مواجهة جائحة صحية وهي على كل الأحوال عالمية، مصدر قمع واضطهاد وظروف قاسية جديده تنذر بانهيار الكثير من مقومات الصمود لشعبنا الفلسطيني؟ ما الذي تغير كي تصبح عملية مواجهة المستوطنين الصهياينة وسياسات الضم معضلة تهدد عملية الوجود؟ الصراع لم يكن يومًا حدود، وإنما هو الحق الفلسطيني التاريخي في أرض فلسطين، أمام المقولة الصهيونية المؤسسة لدولة الاحتلال "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض".

أوسلو: مشروع أمني ووهم دولة

الكثير قيل عن اتفاقية أوسلو واشكالاتها المتعددة، والاخفاقات الهائلة للفريق المفاوض، والناتجة عن فقدان الإرادة السياسية والوطنية الحقيقية في تحقيق إنجاز وطني، كما في حالة الثورات العديدة التي فاوضت المستعمِر من الجزائر إلى فيتنام وغيرها، فيما لم تقدم معالجات حقيقية وحاسمة في القضايا المركزية؛ كحق العودة واللاجئين و القدس ، وتم ترحيلها لما يسمى بالحل النهائي، وقدم الاعتراف بكيان العدو على طبق من ذهب، واعتبر الميثاق الوطني الفلسطيني متقادم.

في كل الأحوال هذه المقالة لا تسعى لاستعراض هذه الإخفاقات، وإنما وعلى ضوء ستة وعشرين عامًا من إقامة السلطة الفلسطينية، يمكن الخلوص لاستنتاج مركزي حول جوهر هذه الاتفاقية عبر الممارسة على الأرض، وليس عبر قراءة الاتفاقية وبنودها المختلفة.، وعليه فإن أوسلو بالمحصلة، لم يكن ولم يتعدَ مشروع أمنى وارتزاق مادي ومصالح متشابكه للرأسمال الوسيط لمنتجات الاحتلال وكبار السلطة ومسؤوليها، والتنسيق الأمني هو حجر الأساس لهذه الاتفاقية، فيما إدارة الحياة اليومية الفلسطينية، تحديدًا في الشق الخدماتي؛ الصحة والتعليم وغيرها، تشكل أيضًا تخفيف أعباء عن الاحتلال؛ مادية ولوجستية تحملها منذ احتلاله للضفة الغربية وقطاع غزة في العام 1967، وقد فتحت الأبواب واسعًا على نمو نخبة سياسية واقتصادية ترتبط مصالحها وبقاءها في بقاء هذه السلطة. فمؤسسات "الدولة الموهومة" التي شرعت ببنائها لا تتجاوز شركات خدماتية، وإن صح القول رأسمالية فهي بعلاقة زبائنية مع السلطة، وكمبرودوريًا مع الاحتلال، فيما السلطة نفسها وسيط اقتصادي يعتاش من أموال المقاصة، والتي سعت جاهدة لزيادة قيمتها كتحصيل مريح، ما يعني ارتباط أكثر في اقتصاد الاحتلال، وليس انفكاكًا عنه كما تزعم.

وبجردية سريعة لهذه الستة وعشرين عامًا من أوسلو، يمكن تمييز التالي كأهم مظاهر هذا المشروع الأمني الفاقد للقدرات والإرادة لبناء واقع اجتماعي واقتصادي وسياسي؛ قادر على الصمود على أقل تقدير، ولن نتحدث عن المقاومة التي أعلن رئيس سلطتها محمود عباس مرارًا وتكرارًا إدانتها ورفضه المطلق لخيارها.

ماذا تخبرنا هذه الجردية عن سلوك هذه السلطة ومشروعها الأمني (أوسلو)؟

تنسيق أمني تعتبره مقدس، لاحق المقاومة بكل ما أوتي من وفاء لمخابرات الاحتلال والحرص على أمنهK لإحباط أي محاولات لفعل مقاوم، حيث يقبع المناضلون زنازين أجهزة الأمن الفلسطينية تارة، وزنازين الاحتلال تارة أخرى وبالتتابع. ما لا يكتمل في ملفات أجهزة المخابرات الإسرائيلية تحاول أجهزة الأمن الفلسطيني استكماله، وتضج ملفات مؤسسات حقوق الإنسان بالعديد من الشهادات لأسرى تعرضوا لهذه التجارب، فيما تبجح الكولونيل الأمريكي دايتون، بأن الفلسطيني أصبح يقدم الخدمات والمعلومات الأمنية إلى الإسرائيليين مباشرة، وإنهم يتقنون عملية تتبع المقاومين، بل ويساهمون في إيقاف أي نشاط ضد الاحتلال وبتنسيق مباشر مع الإسرائيليين، وبلا خجل، ولماذا الخجل عندما تعتبر السلطة التنسيق الأمني مقدس؟

إن هذه الأجهزة الأمنية التي تقود عملية ملاحقة للمقاومة هي نفسها التي تقوم بالاعتداء والضرب على أي صوت فلسطيني ضد الانقسام، وضد الواقع السياسي الصعب، كما حصل في حراك: ارفعوا العقوبات، والتضامن مع إضرابات الأسرى عن الطعام وفي أكثر من مناسبة.

مشروع أمنى يلاحق المقاومة، فيما الاستيطان ومصادرة الأراضي يتسارع في الضفة الغربية، فقد بلغت مساحة المستوطنات 11% من أراضي الضفة، فيما تصادر سلطات الاحتلال 18.5% لأغراض عسكرية، و12% لبناء جدار الفصل العنصري، وتعتبر مناطق (ج)، والتي تشكل 60% من أراضي الضفة تحت سيطرتها ومباحة لها، واليوم في خطة الضم هي الأراضي ذاتها المهددة بالضم. لم تقم السلطة بأي فعل لوقف الاستيطان، واستكفت ببيانات الإدانة والشكوى للمجتمع الدولي المنحاز أساسًا للاحتلال.

الاعتقالات والمتورط في قسم كبير منها التنسيق الأمني، وهدم البيوت هي يومية، خاصة في مدينة القدس، حيث خطوات الاحتلال حثيثة نحو تهجير ما تبقى من الفلسطينيين المقدسيين واحلال المستوطنين حتى في الأحياء والبلدات التي تاريخيًا بقيت عربية السكان؛ كسلوان، العيساوية، رأس العامود وغيرها.

هذا في الجانب الأمني والارتباط المباشر بسياسات لاحتلال، أما على الجانب الآخر سياسات السلطة الداخلية، فلم يكن حصاد الستة وعشرين عامًا بأفضل، كونه مشروع أمنى أولت السلطة الاهتمام الأكبر للأمن في موازناتها، والتي احتلت أكثر من 35% من الموازنة، إضافة للهبات والمنح المباشرة للأجهزة الأمنية، والتدريبات الخارجية، فيما قامت بإهمال وتدمير ممنهج لكل القطاعات الحيوية التي تساهم في صمود الشعب الفلسطيني وتعزيز بقائه؛ لا برامج تنمية زراعية، أو اجتماعية، ولا تنمية مشاريع اقتصادية تساهم في إنتاج محلي وتشغيل أيدي عامله، بل إن أكبر مشروع اقتصادي لديها هو الإبقاء على المنح والمساعدات الخارجية، والتي يستهلك أغلبها مصاريف إدارية، ناهيك عن ملفات الفساد وإهدار المال العام وامتيازات النخبة السياسية، وأموال تنهب وتسرب إلى الخارج، والفجوة الطبقية آخذه بالاتساع والفقراء يزدادون فقرًا، فيما القطط السمان لأوسلو من الشركات والبنوك تزداد سمنة وتخمه.

مارست تغييب وتشويه للوعي الفلسطيني، عبر مناهج التعليم التي صيغت لتخدم خلق وعي مزيف ومشوه، يستبعد فلسطين التاريخية من ذاكرة الأجيال المتعاقبة. أما الإعلام الرسمي والخاص، يبث يوميًا الخطاب السياسي المهزوم والبائس الفاقد لإرادة أو رغبة في النضال والمقاومة، ويستبدل مفهوم الكفاح المسلح والثورة الشعبية بالمقاومة السلمية، وكأن الأوطان تحرر بخطاب وبشعار، وبالأغنية الرقيعة "ازرع ليمون ازرع تفاح". وهذا كله أنتج ثقافة وقيم الاستهلاك والأنانية والفردية والاترزق والمحسوبية والفساد، وإغراق المواطنين بالقروض والديون ومظاهر حداثة مزيفه، وتغييب للتضامن الجمعي وقيم العطاء والتطوع لغرض الصمود والتحرر.

هل هناك خطة لمواجهة الضم؟! وهل هناك خطة لمواجهة الفيروس صحيًا ومعيشيًا؟! هل هذه البنية قادرة أن تحارب فيروسين يفتكان اليوم بالمجتمع الفلسطيني أحدهما يهدد وجوده، والآخر حياته اليومية والمعيشية والصحية؟

إن مشروع أوسلو قائم على الأمن؛ لا يمكن أن يمارس مقاومة، فهي بنية سلطة أساسًا لم تخلق لتناضل، لتقاوم، لتؤمن حياة كريمة، لتحافظ على كرامة شعب، وأقصى ما تفعله هو ما تتقنه ووجدت لأجله "الأمن وأدوات القمع"، تغلق، تضع ساتر ترابي، تعاقب، تعلن طوارئ، وتحرص أن تقول لا اضرابات!! وإذا بانت عورتها، تلقي اللوم على وعي الشعب!

أداء هزيل، وكأن فيروس الكورونا حربًا، وقد خلقت تجارًا جددًا لها؛ فالمتتبع لأداء الحكومة، لا يحتاج الكثير ليكتشف أن حتى في مسألة صحية لا خطة للمواجهة، لا بنية لعلاج المصابين، ولا خطة دعم في ظل إغلاق وحجر، وتخبط في الأداء، وفيما العمال وصغار الحرفيين والتجار يفقدون مصادر الدخل والمعيشة، ويتم تسريحهم من الشركات الكبرى، في حين يظهر أن البنوك وشركات الاتصالات وغيرها هي الرابح الأساس من هذه الجائحة، ولسان حال الرأسمال الزبائني يقول: اللهم مزيدًا من الأزمه، كيف لا وسلطة النقد وبنوكها تحصل عملتين على نفس الشيك المرجع بمجموع 110 شاقل؟!

الإجراءات تفرض على الشعب فيما تطلق يد رأس المال كي يجمع المزيد من الأموال، طبعًا ليس لاستثمارها في الوطن، وإنما لتسريبها خارجه، حيث فرض على صغار الحرفيين والعمال الحجر، فيما بقيت البنوك والشركات الكبرى تعمل. حكومة تضع نفسها في خدمة رأس المال بدلًا من أن تفرض ضريبة أزمة؛ من هؤلاء لصالح المساعدات الاجتماعية، كي نصمد أمام الأزمة. كيف لا وهي بالأساس قامت لحماية هذه النخبة الاقتصادية؟!

في الضم تكتفي هذه السلطة، بمهرجانات وخطاب واضح المعالم لرأس هرم السلطة "لا نية للتصعيد"، وترفع الشعارات عن الانفكاك الاقتصادي ومواجهة الضم، فيما تخوض معارك خاسرة تجعلها أكثر هشاشة، مثل: معركة مقاطعة عجول الاحتلال، أو رفض المقاصة، أو حتى على المستوى الداخلي؛ التراجع عن الترقيات لأبناء المسؤولين وعظام الرقبة، وحتى في عدم "الانصياع" لقرارات حكومتها في الحجر؛ لأنها لا تعالج المسائل الحياتية.

هذه بنية غير قادرة على خوض معارك، الضم والاستيطان وهدم البيوت والاعتقالات، وغير قادرة على بناء اقتصاد مقاوم، وضمان حياة فيها من الكرامة لشعب محتل كي يصمد ويقاتل، هذه بنية تتقن فقط التنسيق الأمني والفساد المالي والإداري، عبر نهب جيوب المواطن، وتسمين جيوب نخبتها السياسية والاقتصادية. هذه بنية لا تتقن غير الانصياع لقرارات واملاءات واشتراطات العدو، وإن ملأت الدنيا جعجعة، فهي بلا طحن. وشتان ما بين بنية ومشروع يرى "الحياة مفاوضات" كما جاء في كتاب كبير مفاوضي السلطة صائب عريقات، وبين "الحياة مقاومة" كما يخوضها قيادات الأسرى ومنهم الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

أما الجماهير، فلا بد أن تتعلم درسها جيدًا، وأن تراكم اللحظة التي لا عودة عنها في التغيير؛ فحكمة الأجداد تقول: "دوام الحال من المحال"، كما أن تجارب الشعوب تعلمنا دومًا: أن كل معتدي، وكل مستعمِر لا بد أن يندحر، وأن من فرط في حقوق شعبه مصيره؛ أن تلفظه الجماهير.