بعناوين كبيرة، جال الرئيس الفرنسي الصغير ايمانويل ماكرون في المنطقة العربية، خلال الأسبوع الماضي.
وصل ماكرون الى العراق بعد زيارة استمرت لعدة أيام للبنان، كانت هي الثالثة خلال شهر، تقمص فيها ماكرون دول حاكم الدولة العظمى الذي جاء ليعيد ترتيب أوضاع المستعمرة -السابقة- في تجاوز وقح لكل أشكال الاحترام -ولو الشكلي- لسيادة الدول وحقيقة استقلالها ومكانتها.
الرئيس الفرنسي الذي واجه واحدة من أوسع موجات الاحتجاج في تاريخ فرنسا، والتي استثارتها سياساته المنحازة لرأس المال ضد حقوق شرائح واسع من الفرنسيين، كان موضع للترحيب في المنطقة العربية، من النخب التي ارتمت في أحضانه، كمخلص لمشاكل وأزمات هذه البلاد، التي اصطنعها السلف الكبير للمستعمر الصغير الزائر اليوم.
وأعلن ماكرون عن زيارته للعراق في وقت متأخر، خلال ليلته الأخيرة في بيروت، لدواع أمنية، ليكون بهذه الزيارة أول رئيس أجنبي يزور بغداد منذ تولي مصطفى الكاظمي مهمة رئاسة الحكومة العراقية مايو أيار.
وصرح ماكرون، الثلاثاء، أنه متوجه إلى بغداد "لتدشين مبادرة مع الأمم المتحدة لدعم سيادة العراق"، واستمر في تنظيره لمفهوم السيادة الذي أمعن في انتهاكه في بيروت، قائلا في حديثه للصحفيين أن "القتال من أجل السيادة أمر ضروري" معتبرًا أن العراقيين الذين "عانوا طويلا يستحقون أن تكون أمامهم خيارات وسط هيمنة قوى إقليمية والتشدد الإسلامي". مضيفًا: "هناك قادة وشعوب مدركون لهذا، وهناك من يريدون أن يكون مصيرهم بأيديهم. ودور فرنسا هو أن تساعدهم في تحقيق ذلك".
التساؤل يبقى مشروعًا حول قدرة فرنسا بوزنها الحالي، ناهيك عن نيتها وأهدافها، مساعدة بلدان في المنطقة العربية على تجاوز أزماتها، خصوصا في ضوء الهيمنة الأمريكية على معظم ملفات المنطقة، وكذلك على الارتباك الفرنسي في طرح سياسات واضحة متمايزة عن نظيرتها الأمريكية، خصوصا في ضوء ما أثبتته تطورات المشهد الليبي وضئالة وهشاشة القدرة الفرنسية في التأثير في هذا المشهد الذي استثمرت فيه طويلا سياسيا وأمنيا.
في لبنان: المستعمرة انتهت .. بلد تحرر بالمقاومة:
طرح ماكرون في زيارته الأولى للبنان شعارات عالية السقف حول تغيير النظام السياسي، ومواجهة الفساد، كما لو كان الآمر الناهي بشأن هذه البلاد، ولكن حقيقة مبادرة ماكرون ولقاءاته السياسية عكست جانبا واحدا واضحا، مقايضة هذا الدور الشكلي والخطابي لماكرون مقابل لعبه دور في إعادة المساعدات للبنان، وانجاز تسوية سياسية بين الفريق الحليف للولايات المتحدة والمعادي للمقاومة، وذلك الفريق الذي يبدو أقرب للمقاومة والذي يحوز أغلبية برلمانية واضحة.
ورغم أن الوزن الفرنسي لا يسمح بمواجهة والغاء العقوبات المفروضة أمريكيا على لبنان، والتي فاقمت أزمة البلاد اقتصاديا ودفعت بها لحدود الافلاس، تبدو المساعي الفرنسية قادرة على ايجاد نوع من الحلول الوسط التي تسمح بتخفيف حالة الخنق الاقتصادي للبنان، ومنع الانهيار الشامل، وهو أمر يفضله الدائنين الأوروبيين والدوليين، فذهاب البلاد نحو إعلان الإفلاس يعني فعليا تبخر او تأجيل لمدى غير منظور لسداد ديون البلاد، وإنهاء لحقبة حلفاء الغرب في الهيمنة على اقتصاد لبنان وسياساتها، وصياغة جديدة للنظام اللبناني تقلص التأثير الغربي فيه الى حد كبير.
المساعدات مقابل التأثير صفقة يبدو أن المقاومة وتحديدًا حزب الله قد اعطت اشارات للسماح بتمريرها، تمثلت في غياب الاعتراض على السلوك الاستعراضي المشين للرئيس الفرنسي، والذهاب نحو تأمين التوافق على حكومة لبنانية جديدة برئاسة مصطفى أديب الذي يحمل الجنسية الفرنسية ويحظى بدعم من ماكرون.
حكومة لبنانية بدعم فرنسي وموافقة من الأطراف السياسية، لن تمس بشيء من ثوابت نظام المحاصصة الطائفية القائم، وربما تسمح بانقاذ اقتصاد لبنان من الانهيار النهائي، لكنها بالتأكيد لا تلبي مطالب الاحتجاج الاجتماعي السياسي الذي استمر لشهور عدة، وقدم مطالب واضحة خصوصا في الجانب الاقتصادي دعت لإنهاء هيمنة المصارف ورأس المال على اقتصاد البلاد ومقدراتها، ومنع تحميل عموم المواطنين النتائج الكارثية لسياسات وفساد النخب الاقتصادية السياسية المهيمنة.
فرنسا التي لا زالت متمسكة بالاتفاق النووي مع إيران، والذي انسحبت منه ادارة ترامب، تواجه معضلة في ممارسة سياساتها الخاصة في منطقة الشرق الأوسط، في ضوء صعود أدوار لقوى متعددة في المنطقة، منها إيران و تركيا ، ففي الملفين اللبناني والعراقي تبدو ايران حاضر فاعل، والتنسيق معها ضرورة اساسية لممارسة أي سياسة تجاه هذين البلدين، وفي الملف الليبي فشلت فرنسا في الحد من التدخل التركي المتزايد مع غياب حماسة شريكتها الكبرى في الاتحاد الاوروبي المانيا التي لم تبدي تشجيع للسياسة التدخلية الفرنسية في الشرق الأوسط، والتلاعب الأمريكي بمختلف اللاعبين في هذه الملفات بما فيهم فرنسا.