أكتب هذه الرسالة المفتوحة انطلاقاً من المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتق كل فرد فلسطيني، إن كان في المناطق التي تم احتلالها عام 1967، أو مناطق ال48، أو مخيمات اللاجئين والشتات، و استشعاراً بالخطر الوجودي الذي يتهدد كل هذه المكونات التي تشكل الهوية الجامعة للشعب الفلسطيني، تلك الهوية التي أصبحت الهدف المحوري للتحالف الجديد الذي يتشكل في منطقتنا بقيادة الولايات المتحدة وإسرائيل؛ أكتبها بعد قراءتي لكلٍ من البيان الذي صدر بعد لقاء الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية بين كل من رام الله و بيروت، و البيان رقم (1) الصادر عن القيادة الوطنية الموحدة للمقاومة الشعبية، وفي تصوري أن كل الفصائل التي شاركت في اللقاء المذكور ممثلة في القيادة الموحدة، مع عدم علمي إن كانت قطاعات المجتمع المدني العريضة مشمولة أيضاً، وبالتالي فإن هذه الرسالة موجهة لكل فصيل كونه يتحمل مسؤولية ما تم ذكره في البيان، مع اعترافي أن الخطاب المستخدم يعبر بالضرورة عن توجهات بعض المنظمات أكثر من غيرها.
الآن و بعد 72 عاماً من النكبة الفلسطينية التي جاءت نتيجة لإقامة دولة إسرائيل كمشروع استعمار استيطاني في الشرق الأوسط؛ مشروع يعوض عن عقدة الذنب الغربية؛ بسبب جريمة الهولوكوست المرعبة، وكمشروع يخدم الإمبريالية العالمية، و بعد 13 عاماً من حصار إبادي لقطاع غزة وصفته كل منظمات حقوق الإنسان بأنه يشكل جريمة ضد الإنسانية بامتياز، و 3 حروب قتلت ما يتخطى ال4 آلاف طفل ورجل وامرأة، وبعد الإعلان عن صفقة القرن التصفوية، واعتراف الإدارة الأمريكية ب القدس عاصمة لإسرائيل، ثم نقل سفارتها إليها، والبدء بتصفية حق اللاجئين في العودة، ثم اتخاذ بعض الدول الخليجية قرارات بالمساهمة في الهجمة الأمريكية-الإسرائيلية، اتخذت فصائل العمل الوطني والإسلامي قراراً بالاجتماع، مما أسفر عن تشكيل القيادة الوطنية الموحدة للمقاومة الشعبية، دون البدء الفوري بتنفيذ وحدة وطنية شاملة، على الأقل في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، كأول خطوة ضرورية للبدء بمواجهة مصيرية؛ خطوة تعيد بعض من المصداقية المفقودة منذ عام 2007 لأسباب معروفة وعلى اعتبار أن ما حصل من أحداث دراماتيكية عبارة عن «تسونامي» سياسي لم يضع فقط حدّاً لتصور الحل القائم على أساس حل الدولتين، بل يعيد الاعتبار لمفهوم التحرير بدلاً من الاستقلال في الأجندات المطروحة، ويتطلب رسم خارطة سياسية فلسطينية جديدة.
الحقيقة أن قراءة البيان الأول - مع ضرورة عقد مقارنات في هذا السياق بين رد فعل واستجابة الشعب الفلسطيني لبيان القيادة الموحدة للانتفاضة (1987) وبيان القيادة الموحدة (2020)- لا تعطي أي انطباع عن تغير واع بمدى خطورة الظروف الموضوعية الجديدة. إن أقل الناس تفاؤلاً كان يتوقع بياناً يعبر عن خطاب لقيادة وطنية موحدة؛ تعيد النضال الفلسطيني ضد احتلال عسكري مباشر, وتطهير عرقي ممنهج, وتفرقة عنصرية بغيضة الى أبجدياته التي كانت قد أصابها العطب نتيجة مغامرات سياسية ضارة مرتبطة عضوياً باتفاقيات تم توقيعها في ظروف دولية وعربية غاية في الصعوبة، أي إعادة الروح لخطابٍ مبنيٍ على وحدة شعبنا في كل أماكن تواجده ووحدة نضاله من أجل الحرية والعودة وتقرير المصير؛ إلا أن البيان، وللأسف، كتب من وإلى سكان الضفة الغربية و قطاع غزة بلغة قيادة شعب يناضل ضد استعمار كلاسيكي، وليس في مواجهة دولة استعمار استيطاني. الحقيقة أن سبل المواجهة التي اعتمدتها المقاومة الفلسطينية منذ انطلاقتها تحتاج لمراجعات نقدية مبنية على أساس هذا الفهم.
من المعلوم أن معركة المؤسسة الحاكمة الصهيونية في الأساس هي ضد فتح أي إمكانية للحديث عن الحرية والعدالة والمساواة، كونها مجتمعة تشكل النقيض الأساسي لمشروعها، ويكمن الغرض الأساسي لتلك المؤسسة، ليس في بناء نظام ديمقراطي مدني لكل المواطنين على أرض فلسطين التاريخية، وإنما في احتكار أدوات العنف، وإرساء مبدأ رد الفعل غير المتناسب مع أبسط أشكال الاحتجاج والتعبير، ليصبح معلوماً أن أي اعتراضٍ سيتم الرد عليه بمنتهى القسوة؛ فهل ارتقى البيان رقم (1) لمستوى هذا الفهم من العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر؟
إن مفهوم المقاومة الشعبية التي يسيرها إما فصائل تمارس العمل العسكري وتحتكر تعريف المقاومة أو من يرى أن "المفاوضات" هي أرقى أشكال المقاومة يحتاج لمراجعة نقدية جدية، وفي هذا السياق يتحتم علينا التعلم من تجاربنا الغنية في الكفاح الشعبي، وتجارب الشعوب الأخرى التي عانت ويلات الاستعمار الاستيطاني والأبارثهيد الممأسس، وهنا لا بد من التطرق لنضال المقاومة الجنوب-أفريقية ضد نظام استعمار استيطاني، والتي هي من أكثر التجارب قرباً من القضية الفلسطينية؛ اعتمدت المقاومة الجنوب-أفريقية في مقاومتها لنظام الابارثهيد على ما أطلقت عليه أعمدة النضال بالذات في مرحلة الثمانينيات وبداية التسعينيات، وصولاً لسقوط نظام الأبارثهيد عام 1994، أثرت المقاومة الشعبية والتضامن الأممي في جعل الوضع داخلياً "غير طبيعي"؛ من خلال جعل إمكانية حكم البلاد صعبة، وخارجياً من خلال عزل كل من ينتمي للطغمة البيضاء الحاكمة، أي مجتمع الاستعمار الاستيطاني العنصري، وهذا هو المطلوب في الحالة الفلسطينية الغنية بأشكال المقاومة المتنوعة. فقد نجحت حركة المقاطعة الفلسطينية بالبناء على التراث الكفاحي الفلسطيني من ثورة 1936 إلى انتفاضة 1987 المجيدة والهبات الجماهيرية المتلاحقة، بالإضافة للاستفادة من الدرس الجنوب-أفريقي، وحققت إنجازات هائلة منذ انطلاقتها عام 2005 بإصدار نداء المقاطعة الذي تبنته الغالبية الساحقة من منظمات المجتمع المدني والقوى السياسية، بل إن التركيز يتم على دور المجتمع المدني البارز في حشد الرأي العام العالمي وعزل إسرائيل على نمط ما حصل لنظام الأبارثهيد البائد. والحقيقة أن دور المجتمع المدني في بنية القيادة الوطنية الموحدة للمقاومة الشعبية شبه مفقود، بل يوجد هيمنة فصائلية شبه مطلقة، وقد يكون من المفيد الاستفادة من دروس مسيرة العودة الكبرى، قبل تحولها إلى مسيرات كسر الحصار؛ مع الاعتراف أن هذا التحول في الاسم لم يكن إلا تجسيداً لما تم طرحه من قصور نظر لدى بعض الفصائل ذات التوجه الاحتكاري لمفهوم المقاومة، وعدم قدرتها الفكرية على التأقلم والتكيف مع متطلبات النضال ضد أشكال الاضطهاد المركب التي تمارسها إسرائيل كدولة استعمار استيطاني ذات طابع عسكري بحت؛ غير مهيأ لمواجهة مقاومة مدنية.
وهنا يبرز السؤال الأهم عن دور قطاعات المجتمع المدني في قيادة المقاومة الشعبية بتنوعاتها؛ هل تم على الأقل استشارة أوسع تحالف لهذه القطاعات، أي اللجنة الوطنية للمقاطعة؟
مع إقرارنا أن الوصول لبيان سياسي يأخذ بعين الاعتبار مبادئ الإجماع الفلسطيني يتطلب جهداً كبيراً، ولكن يجب أن تكون نتيجته التبني الكامل من غالبية مؤسسات العمل المدني الفلسطيني والنقابات والجامعات وحركة المقاطعة والهيئات الخيرية ولجان المخيمات وغيرها من مكونات المجتمع المدني الفلسطيني في كافة أماكن تواجد شعبنا، وعدم حصره بمؤسسات وفصائل سياسية فقط. بمعنى أننا نريد، في ظل تراجع منظمة التحرير الفلسطينية لأسباب عديدة، أن تكون القيادة الوطنية الموحدة هي الرديف لما أسماه الجنوب أفارقة "الجبهة الديمقراطية الموحدة" التي قادت النضال الجماهيري ضد نظام التفرقة العنصرية حتى سقوطه.
كم كنا نتمنى أن تستفيد القيادة الوطنية الموحدة في بيانها الأول من زخم نداء المقاطعة الفلسطيني الصادر عام 2005 عن أكثر من 170 حزب ونقابة ومؤسسة وحركة في المجتمع الفلسطيني، ويتمحور حوله الآن إجماع فلسطيني غير مسبوق، في هضمه تجربة النضال الفلسطيني الطويلة واستيعابه لدروس التجربة الجنوب أفريقية، وبالأخص مواجهة المجتمع الدولي بواجباتهِ والشرعية التي يدعي أنه يقوم على أساسها، وأن يكون النداء واضحاً في مطالبته بحقوق شعبنا الأساسية وأهمها: إنهاء الاحتلال الاستيطاني وتطبيق قرار الأمم المتحدة 194 الذي ينص على عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى قراهم ومدنهم التي اقتلعوا وهُجّروا منها عام 48, وإنهاء القوانين والسياسات العنصرية الممأسسة ضد فلسطيني/ات ال48.
فلسطين الآن تختلف عن فلسطين التسعينيات، فخلال هذه الفترة تم ترسيخ ثقافة مقاومة جديدة -قديمة تأخذ بعين الاعتبار حقيقة واضحة وضوح الشمس, ألا وهي أننا في حالة اشتباك مستمر مع احتلال استيطاني ذو طبيعة عنصرية وإبادية في نفس الوقت، وقد تبلور ذلك في تصعيد ملحوظ لكافة أشكال المقاومة الشعبية وغيرها، بما فيها إطلاق نداء المقاطعة وتأسيس اللجنة الوطنية للمقاطعة، والفارق بين التسعينيات والآن من حيث الانجازات على صعيد المقاطعة غني عن التعريف حيث جسدت في جوهرها إرادة الشعب الفلسطيني التي عبرت عنها الغالبية الساحقة من أحزابه وأجسامه النقابية والاجتماعية والنضالية في نداء 2005 لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها حتى تنصاع بالكامل للقانون الدولي ومبادئ حقوق الإنسان وتعترف بحقوق شعبنا غير القابلة للتصرف، وعلى رأسها العودة والتحرر وتقرير المصير؛ فمن المعروف، مثلاً، وجود توجهات في القيادة الوطنية الموحدة لا تدين اللقاءات مع ممثلي دولة الاحتلال، فهل ستقوم القيادة الموحدة باتخاذ موقف واضح على أساس اعتبار أن أي لقاء فلسطيني-إسرائيلي بعد اليوم, وفي ظل الأجواء الوحدوية السائدة، خروج عن الإجماع الوطني الفلسطيني؟ ومن المعروف كذلك أن تشكيل القيادة الوطنية قد تم دون رفع الإجراءات العقابية المفروضة على قطاع غزة؛ مهد الوطنية الفلسطينية، منذ شهر مارس 2017، مما ساهم بتقويض مقومات الصمود التي ترتكز عليها كل بيانات القيادة الموحدة؛ فكم سيكون للدعوة التي وجهتها القيادة الوطنية الموحدة الجديدة للاحتجاجات ضد “الصفقات المخزية” مصداقية عالية لو تم الإعلان أيضاً عن إجراءات عملية جديدة بحق غزة؟!
ريما يجدر بنا ضمن سياق ثقافة المقاومة السائدة، التركيز على دور القيادة خلال مرحلة النضال والكفاح على أنها التي تصهر نفسها في الناس ومع الناس، وتتحول إلى ميقظ للشعب، كما يقول فيلسوف حركات التحرر الوطني فرانز فانون، وهنا يبرز السؤال عن مدى مشاركة الصف الأول من قيادات الفصائل في الفعاليات التي طالب بها البيان الأول بالنزول إلى الشوارع والتعبير عن الغضب ورفض اتفاقيات التطبيع الأخيرة؟
لقد آن الأوان لنضال جدي حاسم من أجل الحرية والمساواة و العدالة، فكم عدد المنظمات الممثلة في القيادة الموحدة التي وصلت لقناعة عملية، وليست نظرية فقط، أن التحرير وتقرير المصير لم يعودا شعارين من الماضي، بل أصبحا الشعارين اللذين يجب أن يتمحور حولهما النضال الفلسطيني والأممي من أجل الوصول لسلامٍ عادلٍ وشامل، وأن هذا هو البديل لما يتم طرحه من صفقات تصفوية؟
نعم، ما تبقى لنا هو الإرادة الشعبية البعيدة كل البعد عن الشعارات ذات المضامين الفارغة، والتي عن طريق حملة مكثفة ومتنامية من المقاطعة يجب في المحصلة النهائية أن تؤدي كما حصل مع النضال الجنوب أفريقي إلى التحرير. وعليه، وبناءً على الصمود الهائل الذي قد يصبح خرافة في ظل الانقسام العمودي والأفقي المهيمن، والداعم لمقاومة شعبية خلاقة, نستطيع رفع سقف مطالبنا من خلال ربطها الآن بحق العودة وبحلول جذرية مرتبطة بشعارات واقعية ومبدئية في نفس الوقت: نهاية الاحتلال والأبارثهيد والاستعمار الاستيطاني.