Menu

الجذور الدينية للفاشية الصهيونية

طبيعة إسرائيل: النموذج الصهيوني للفاشية (4)

أحمد مصطفى جابر

خاص بوابة الهدف

ظهرت الصهيونية كأيدلوجية عرقية لا عقلانية قائمة على أسس العضوية ووحدة الدم والقومية الشوفينية وفكرة الفولك، مع صعود اللاعقلانية الأوربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولكن هذه الصهيونية لم تكن لتتمظهر بهذه البشاعة، ولم تكن لتحصل على قوة دفع في صفوف عامة اليهود لو لم تكن ثمة عناصر أصيلة في الديانة اليهودية تدعم هذا النموذج وتقدم له إمكانيات النجاح؛ عناصر تقوم على مكونات غيبية أسطورية تستند بعمق إلى فلسفة الإرهاب والعنف والعرقية وكره الآخر واحتقاره وتمجيد الذات وتعظيمها، ونصوص هذه الديانة تبدو كأنها صادرة عن مريض نفسي مغرق في السادية واللاعقلانية؛ منتقم أجرامي، ولا يمكن أن تصدر عن أي إله.

كانت العرقية منذ البدء موجودة في تعاليم أنبياء اليهودية؛ فعلى سبيل المثال كرس عزرا الكاتب حياته الفكرية لوضع أسس عنصرية للدين، مما أصبح يعرف باسم قوانين عزرا التي أكدت على توارث الدم اليهودي وعدم الزواج بالغير والانفصال عن الزوجة غير اليهودية وترحيلها مع أولادها المختلطي الدم(1)، «أما الآن فلا تعطوا بناتكم لبنيهم ولا تأخذوا بناتهم لبنيكم ولا تطلبوا سلامتهم وخيرهم» (عزرا-9)، وهناك من الأدلة ما يكفي للبرهان على أن أنبياء إسرائيل لم يتوانوا عن التشديد على الخاصية العرقية والكبرياء القومي الإسرائيلي، إذ «من صهيون تخرج الشريعة ومن أورشليم كلمة الرب»(أشعيا-2).

وركائز هذه الأيدلوجيا متعددة وأهمها:

  1. الاصطفاء: تتجسد هذه الركيزة في مقولة (شعب الله المختار)؛ فاليهود هم الشعب الذي اختاره الاله (يهوا) شعبًا خاصًا له، وهكذا يتوحد تاريخ يهوه مع تاريخ الشعب، فلا يوجد تاريخ ليهوه خارج تاريخ الشعب ويهوه إله القبيلة الدموي يتبدى في الميثولوجيا اليهودية كإله مختار هو أيضًا؛ إله الجنود المناسب تمامًا لنزوات المجموعة الشيطانية وجنونها، وهكذا تكتمل الأسطورة؛ شعب مختار وإله مختار وأرض مختارة؛ تعبيرًا تامًا عن الوحدة العضوية بين الشعب والأرض والدين، «لأنك شعب مقدس للرب إلهك، وقد اصطفاك الرب لتكون له شعبًا خاصًا، على جميع الشعوب التي على وجه الأرض»(تثنية/14/2)، والاختيار هو عهد الرب للمختارين، «بل أخرج من يعقوب نسلًا ومن يهوذا وارثًا لجبالي فيرثها مختاري وتسكن عبيدي هناك» (اشعيا/65/9). و«أنا يهوه إلهكم الذي بزكم من الشعوب» (لاويين/20/6).
  2. الاستعلاء: فالشعب المختار هو أفضل وأعلى من غيره إذا جاز اعتبار الغير في مقام البشر وعلى الأقل يرفع هذا الشعب إلى مرتبة الآلهة «أنا قلت إنكم آلهة وبنو العلي كلكم» (مزمور 82)، وهكذا لا بد أن «يقف الأجانب يرعون غنمكم ويكون بنو الغريب حراثيكم وكراميكم، أما أنتم فتعون كهنة الرب، تأكلون ثروة الأمم وعلى مجدهم تتآمرون» (اشعيا/61/5).
  3. الأرض الموعودة: وهي الأساس الديني للاستعمار الصهيوني لأرض فلسطين «في ذلك اليوم قطع الرب مع أبرام ميثاقًا قائلًا: لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات» (تكوين/18/15)، وتقديم الأرض الموعودة يصدر عن أمر إلهي لأن الرب يرى أن هذا هو الحق «الآن قم فاعبر نهر الأردن أنت وجميع هؤلاء الشعب، إلى الأرض التي أنا معطيها لبني إسرائيل. كل مكان تطأه أخامص أرجلكم لك أعطيه كما قلت لموسى» (تكوين/17/8). وقصة الأرض الموعودة هي فوق تفسير العقل، إنها لا تاريخية تتجاوز التاريخ، وتتبدى عن إله ظالم مبيد لا يعرف العدل، وتستخدم الحركة الصهيونية هذه النصوص كما لو إنها صك ملكية شرعي أو نوع من سند (طابو) صادر عن يهوه صاحب الوحي الإلهي عند اليهود(2).
  4. فلسفة القوة النيتشوية: تتبدى القوة مقدسة عند أنبياء التوراة، وهكذا هي في الصهيونية التي تتميز بالقسوة والعنف، حيث وضع موسى في نظرهم أسس التقاليد العسكرية الإسرائيلية التي سار عليها فيما بعد أحفاده، وبعده تولية يوشع بن نون المهمة وصار بعد ذلك بطلًا إسرائيليًا معاصرًا. وتقديس القوة والعنف وسفك الدماء تتكرر في أسفار عديدة مثل (التثنية) الذي يضع قوانين الحرب وسفر يشوع وسفر صمويل الثاني والأول، وتلك مجرد أمثلة، حيث كل أسفار التوراة تغص بالعبارات العنصرية العرقية. تصور الميثولوجيا اليهودية إن القوة مقدسة من الرب شخصيًا، حيث أن إسرائيل تمتلك قوة مقدسة باركها الرب كما يرد في سفر التثنية، حيث تروى تلك الأسطورة السحيقة عن يهوه متعاركًا مع يعقوب الذي ينجح في تثبيته حتى طلوع الفجر ولا يطلقه حتى يأخذ البركة منه، وهذا الرب وفق الرواية اليهودية قاس لا يعرف الرحمة ويصلح كإله للمرتزقة؛ إذا «الرب إلهك هو العابر أمامك نارًا آكلة هو يبيدهم ويذلهم فتطردهم وتهلكهم سريعًا كما كلمك الرب» (التثنية/9/3). إن إلهًا من هذا النوع سيعطي المبرر لعبيده أم يكونوا على صورته فكيف إذا كان هؤلاء العبيد هم شعبه المختار، والمفضل على الشعوب المقدر له أن يذلها ويبيدها «قومي ودوسي يا بنت صهيون، لإنني أجعل قرنك حديدًا وأظلافك اجعلها نحاسًا فتسحقين شعوبًا كثيرة غنيمتهم للرب وثروتهم لسيد كل الأرض» (ميخا /4/13). لا تقتصر النصوص ذات الطابع العرقي العنصري على التوراة، بل نجدها تمتد للنصوص المقدسة التالية عليها زمنيًا، فثاني أهم كتاب لدى اليهود والأول لدى بعضهم (التلمود.) (شرح 3)، نجد فيه نصوصًا أكثر بشاعة وقبحًا، وتعتبر تعليماته إلزامية وثابتة في جوهرها، وتصب في نفي أي قيمة للآخر غير اليهودي «الخارج عن دين اليهود حيوان على العموم، فسمه كلبًا أو حمارًا أو خنزيرًا والنطفة التي هو منها نطفة حيوان.. وخلق الله الأجنبي على هيئة الإنسان ليكون لائقًا لخدمة اليهود الذين خلقت الدنيا لأجلهم» (3).

[شرح 3: التلمود: Talmud يشكل التراث الشفهي لتعاليم موسى، وقد أنتجت الحاخامية اليهودية تلمودين الأول يعرف باسم (التلمود البابلي) وهو الأشهر بينهما في العالم الغربي، وقد اكتمل تأليفه في القرن الخامس تقريبًا، والثاني يعرف باسم (التلمود الفلسطيني) أو (تلمود القدس ) ويعتقد أنه حرر في أوائل القرن الرابع. وكلاهما يتضمنان شروحًا عن كتاب المشناة].

إن العرق المختار هو الوحيد الذي يستحق الحياة لأن «العلي القدير يهوه نفسه أقر ذلك وأمر به» و «كل من يسفك دم شخص غير نقي –غير يهودي-عمله مقبول عند الله»(4)، وبالتالي يجب إبادة هؤلاء «.. يجب إزالتهم من سجل الأحياء».

إضافة لنصوص التلمود والتوراة الحافلة بكراهية الآخر والحض على إبادته، فإن المؤلفات الدينية اليهودية الأخرى لا تقل عن ذلك في هذا المضمار، حيث القتل إبادة العرق الآخر غير اليهودي هي المحور الأساسي الذي تدور حوله تلك النصوص، فوفقًا لأحكام الديانة اليهودية، وكما جاء في حاتاني الكتاب الأصول الشهير لحركة حباد أحد أهم فروع الحركة الحسيدية، نجد أن «غير اليهود مخلوقات شيطانية ليس بداخلها أي شيء جيد على الإطلاق» والحركة الحسيدية عمومًا التي تمثل اليهود الأرثوذكس، تعتبر كل «غير اليهود مخلوقات شيطانية تماما» (5). وأقدم مجموعة من القانون التلمودي، والتي تسمى ميشنا (شرح 4) توراة المكتوبة من قبل موسى بن ميمون في القرن الثاني عشر، وكذلك مجموعة شولحان آروخ التي ألفها الحاخام يوسف كارو في القرن السادس عشر، فإنه في حالة الحرب يجب قتل جميع المنتسبين إلى شعب معاد، وهذا رأي جميع شراح اليهودية، وقد تم تعميم هذا في عام 1973 عقب الحرب في كتيب إرشادي صدر عن قيادة المنطقة الوسطى بعنوان (طهارة السلاح في ضوء الهالاخاة) (شرح5).. ورد فيه «عندما تلتقي قواتنا بمدنيين خلال الحرب أو خلال ملاحقة ساخنة أو غزو وليكن مؤكدًا أن أولئك المدنيين غير قادرين على إيذاء قواتنا فوفق أحكام إلهًا لأخاة يمكن لا بل يجب قتلهم والثقة بعربي غير جائزة في أي ظرف» و «أقتل الصالح من غير الإسرائيليين، محرم على اليهودي أن ينجي أحدًا من باقي الأمم من هلاك أو يخرجه من حفرة يقع فيها، لأنه بذلك يكون حفظ حياة أحد الوثنيين». وتشير شولاميت آلوني وهي عضو حركة ميرتس ووزيرة سابقة إلى أن دعاية حركة حباد أعلاه؛ زادت بصورة ملحوظة قبل اجتياح إسرائيل للبنان عام 1978 لحث الأطباء العسكريين والممرضين على عدم تقديم الإسعافات الطبية للجرحى الأغيار فـ «قواتنا مصرح لها بل هي مأمورة وفق أحكام الهالاخاة بأن تقتل حتى المدنيين الطيبين»(6).

[شرح 4: الميشناة: وقد تكتب أحيانا بحذف الياء، mishnah كتاب يجمع 63 رسالة أشهرها رسالة (الآباء) التي تضم المبادئ الأخلاقية التي صاغها اثنان وسبعون من حكماء التراث اليهودي، جمعه وحرره الحاخام يهودا هاناسي yehudah hanasi مع عدد من زملائه وتلاميذه في القرن الثالث الميلادي].

[شرح 5: الهالاخاة: تشير الكلمة إلى الصياغة المجددة للشريعة اليهودية والمصدر الأساسي للهالاخاة هو الشريعة المدونة والعرف الساري بين اليهود].

مؤشرات أخرى:

 الفاشية في مقولات زعماء الصهيونية:

جابوتنسكي ومعارضيه: الصهيونية الواحدية تظهر واحدة في الممارسة:

في خطابه في المؤتمر الصهيوني السادس عشر عام 1929قال جابوتنسكي: «ترى ما هو الوطن القومي؟ إن لهذه الكلمة كما أفهمها معنى واحدًا ليس إلا.. تتقبله روح الشعب اليهودي، وهو إقامة الدولة القومية التي يكون فيها اليهود أغلبية طاغية وتكون الإرادة اليهودية هي التي تقرر شكل الحياة في المجتمع الذي سيقوم وتوجهه»(7).

عادة ما يعتبر فلاديمير جابوتنسكي الممثل النموذجي لحقيقة الفاشية الصهيونية، وكان هو المعبر الأصدق عن حقيقة الصهيونية، بوصفها ليست سوى نموذج آخر معدل عن الفاشية، لقد اختلف معه الصهاينة الآخرون وعارضوه، ولكن الحقائق تؤكد إنهم اتبعوا دومًا برنامجه.

يرتكز مفهوم جابوتنسكي للعالم على العرق؛ فالوحدة العرقية عنده هي أصل قيام الأمم(8)، لذلك فان الوحدة العرقية والقوة هما نقطتا انطلاق برنامجه السياسي. وقد استمد جابوتنسكي الكثير من عناصر فاشيته الصريحة من تجربته الإيطالية التي عاش فيها زمن صعود الفاشية واستيلائها على السلطة، وكان سعيدًا بتجربتها وانتصارها منتشيًا بالقيم التي تنشرها.

وكانت دعواه بالصهيونية الواحدية أكبر رد على مزاعم الصهيونية بتقاربها مع الاشتراكية، تلك المزاعم المفضوحة بالممارسة العملية كما سيأتي، وقد قال عنه موسوليني في كلامه للحاخام براتو عام 1935 «لا بد لكم من دولة يهودية، بعلم يهودي ولغة يهودية، والشخص الذي يفهم ذلك هو فاشيكم جابوتنسكي»(9)، بل إن بن غوريون أطلق عليه تسمية (تروتسكي صهيوني) في إشارة لما يعدوه تحريفات للصهيونية، و (فلاديمير هتلر)، بل أنه هو شخصيًا قد كتب عن نفسه ربيع (1934) «لم أتفهم صهيونيتي من آحاد هاعام، وما تلقيتها من هرتزل ونوردو، بل تعلمتها من غير اليهود في ايطاليا»(10). وكان يُعلّم الفتيان اليهود في منظمة (بيتار) أغان من نوع «ألمانيا لهتلر وايطاليا لموسوليني و فلسطين لجابوتنسكي» ونبه العديد من الكتاب إلى سعيه الهادف لانشاء «جيوش عمالية» «فاشية»، وهذا ما حدث فعلاً، على غرار العاصفة النازية والكتائب الفاشية الإيطالية.

وكان جابوتنسكي قد انتهى في أفكاره إلى الإيمان بفعالية السيف قبل أي وسائل أخرى، ورأى أن الدولة بمجرد أن تقوم ستضطر للعيش بالسيف، صائغًا؟ نظرية يتبناها ليس فقط خلفاؤه الأيدلوجيون، في حيروت والليكود، وإنما أيضًا العماليون وهو الذي يسجل رأيه قائلاً «لن نستطيع أن نقدم لا للفلسطينيين ولا للعرب من البلدان الأخرى، تعويضًا عن فقدهم أرض إسرائيل.. إن الصهيونية ستبقى اعتمادًا على السيف خلف جدار حديدي لا يستطيع السكان المحليون اختراقه»(11).

من يستمع إلى عبارات جابوتنسكي يكاد يخال نفسه يستمع إلى نيتشه وشبنجلر وأيضًا هتلر وروزنبرغ: «لا تثق بأحد، خذ دائمًا حذرك، واحمل دائمًا عصاك فوق كتفك، فتلك هي الوسيلة الوحيدة للبقاء في حرب الكل هذه ضد الكل، الحرب التي لا رحمة فيها»(12).

وجابوتنسكي رغم اعترافه بعدم وجود عرق نقي، إلا أن الأهم عنده هو الفوارق والاختلافات القائمة بين مختلف الجماعات التي تميز بعضها عن بعض في مظاهرها العرقية، بهذا المعنى يكتسب لفظ العرق في رأيه معنى بالغ التحديد والعلمية(13). وهو يعوض عن المطابقة العرقية بالمطابقة السيكولوجية، فكل جماعة عرقية تمتلك سيكولوجية العرقية المحددة التي تظهر بشكل أو بآخر في كافة أعضاء هذه الجماعة رغم الفروق الفردية(14). وهكذا فهو يرفض الحتمية المادية الماركسية ويستبدلها بحتمية عرقية، موحدًا بين العرقي والقومي في نموذج «للأمة المطلقة» وكل عرق يمتلك وحدة محددة تبحث عن الصيرورة إلى أمة، لهذا فكل جنس يبحث عن تكوين دولته لأنه «لا يشعر بالراحة إلا في ظل دولته الخاصة».

ففي حوار متخيل بين روسي ويهودي حول التفوق والدونية بين الأجناس نشره  جابوتنسكي عام 1923 ينتهي إلى أن اليهود هم العرق المتفوق، معتبرًا (الوعي بالذات) أهم المتطلبات للتعرف على الجنس المتفوق «مثل هذا الكائن المتفوق يصبح عالمًا بين المتبربرين وأرستقراطيًا بين العامة، يظل دائمًا على وعي بقيمته وجدارته الخاصة»(15)، وبالتالي ففي سياق بحث الجنس عن دولته الخاصة «برنامجنًا ليس معقدًا؛ فهدف الصهيونية خلق دولة يهودية حدودها ضفتا نهر الأردن ونظامها استيطان مكثف ومشاكلها المالية تحل من خلال قرض قومي، هذه المبادئ الأربعة لا تتحقق دون قبول دولي، ولهذا فإن شعار الساعة هو حملة عالمية جديدة وعسكرة الشباب اليهودي في أرض إسرائيل وفي الدياسابورا»(16).

وعناصر فاشية جابوتنسكي هي نفسها العناصر الكلاسيكية لأية فاشية: الأمة المحكومة بمبدأ الوحدة وأسبقية الكل على الفرد ورفض الصراع الطبقي، والمناداة بمجتمع طائفي تعاوني على غرار التجربة الإيطالية، والبرتغالية، وهو يبدو كأنه يردد كلمات موسوليني الذي قال في خطاب ألقاه في 28 أكتوبر 1925(17) «الكل في الدولة ولا قيمة لشيء إنساني أو روحي خارج الدولة؛ فالفاشية شمولية والدولة الفاشية تشتمل جميع القيم وتوحدها وهي التي تؤول هذه القيم وتفسرها إنها تعيد صياغة حياة الشعب كلها». وكان جوبلز وزير الدعاية الهتلري قد قال أيضًا «الفرد ليس شيئًا ولا قيمة له ولا اعتبار وعليه أن يتقبل هذه التفاهة الشخصية، وأن يذيب نفسه في قوة أعلى وأن يشعر بالفخر لأنه يشارك في هذه القوة»(18).

الحركة الصهيونية التنقيحية تحولت فيما بعد إلى حزب حيروت، وتولى بيجن قيادة (الأرجون زفاي لئومي) المنظمة العسكرية للحزب عام 1944، هل كان جابوتنسكي الاستثناء أم القاعدة في الحركة الصهيونية السياسية؟ ألم تكن سياسات بن غوريون (الاشتراكي) حيّال الشعب العربي الفلسطيني من حيث الجوهر متطابقة كليًا مع النهج الذي نادى به جابوتنسكي؟

لعل الواقعة التاريخية بقيام أشكول (الاشتراكي هو الآخر) بنقل رفات جابوتنسكي من نيويورك إلى تل أبيب، حيث دفنت في جبل هرتسل جنبًا إلى جنب مع الآباء المؤسسين في إشارة بليغة إلى الواحدية الصهيونية وعدم وجود أي فروق في الجوهر(19).

لم تكن ادعاءات الحزب الشيوعي اليهودي نفسه (فيما بعد الحزب الشيوعي الإسرائيلي)، بعيدة عن أفكار جابوتنسكي، فقد زيف الحزب جوهر المسألة اليهودية؛ زاعمًا أن الحل الفعلي لهذه المسألة لم يكن إلا عن طريق هجرة العمال اليهود بالجملة إلى فلسطين، حيث لا بد أن تحدث (ثورة أكتوبر الصهيونية)(20). بكلمات أخرى تتردد أفكار جابوتنسكي العرقية في غلاف اشتراكي براق.

وفي الحقيقة تشير الوقائع كلها، التاريخ السياسي وتاريخ الأفكار وتاريخ الممارسات إلى أن جناحا الصهيونية بقيادة جابوتنسكي وبن غوريون كانا يعملان معًا رغم كل الخلافات الظاهرة، وفي عام 1934 وقع بن غوريون وجابوتنسكي في لندن اتفاقية «التعايش السلمي»، بهدف التعاون بين الجناحين لما فيه أفضل أداء صهيوني(21). وقد كتب العالم السياسي الإسرائيلي إسرائيل سفره «بن غوريون، رغم أنه خصم متحمس لجابوتنسكي وحركته التنقيحية، كان يطبق على أرض الواقع جميع أفكار جابوتنسكي الأساسية حول فكرة (الدولة اليهودية) وتفوقها على جميع الأفكار والمؤسسات الصهيونية وحول عبادة القوة وحول الجيش الذي يجب أن يصبح (مدرسة قومية للحياة المدنية)»(22).

ويعتبر بن غوريون في تكرار لكلمات جابوتنسكي «شعب إسرائيل هو صفوة الشعوب كلها، ويرجع ذلك إلى تمييز عنصره وتفوق تربته وجودة مناخ البلاد التي نما فيها وتطور»(23).

موشيه دايان، أحد تلامذة بن غوريون؛ كتب رسالة إلى جنود اللواء التاسع بعد حرب 67 (24) في استعادة لنشيد موسى نبي إسرائيل القديم «اسمعي يا شعوب المقهورين، فليتملك الخوف منا الفلسطينيين وليرتعب من هولنا صناديد البتراء، ولترتجف عمواس ومؤاب وليتطاير كل سكان كنعان ويخيم على سمائهم الذعر والرهبة، بجبروت بطشك وفجرهم كالحجارة، عندئذ ينتقل شعب الله المختار إلى حيث أراد لهم الله». قد يبدو العمل على كشف المطابقة بين أفكار جملة السياسيين الذين قادوا الحركة الصهيونية وأفكار جابوتنسكي الفاشية نوعًا من الإسراف في الحبر، لكنها ضرورة على ما يبدو في زمن تضيع فيه الرؤى النقدية الحقيقية في البحث العبثي عند الكثيرين عن الفوارق بين يسار ويمين في الحركة الصهيونية، في محاولة تصنيف هذه الفوارق وتضخيمها أحيانًا في محاولة لخدمة أهداف سياسية بعيدًا عن حقيقة النقد العلمي.

المراجع:

  1. خالد القشطيني. الجذور التاريخية للعنصرية الصهيونية. ط1(بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1981). ص12
  2. عبد الغني عماد. فلسفة الارهاب وأيدلوجيا العنف من اليهودية الى الصهيونية. في: الفكر العربي عدد 96(بيروت. ربيع 1999) ص 7
  3. المرجع السابق. ص53
  4. المرجع السابق. ص46
  5. أحمد مصطفى جابر. اليهود الشرقيون في اسرائيل: جدل الضحية والجلاد. دراسات استراتيجية 92ط1(أبو ظبي: مركز الامارات للدراسات والبحوق الاستراتيجية. 2004). ص41
  6. المرجع السابق. ص41-42
  7. وثائق فلسطين من عام 637 إلى عام 1949. الجزء الأول (دمشق. وزارة الإرشاد القومي) ص 411
  8. أديب ديمتري، نفي العقل، ط1(دمشق: كنعان للدراسات والنشر، 1993). مرجع سابق. ص 151
  9. العنصرية الإسرائيلية مصدر للحرب الدائمة بالشرق الأوسط. في: البيان عدد 5 سبتمبر 2003.
  10. المرجع السابق.
  11. مايكل جانسن. التنافر في صهيون: هل يمكن أن يقوم سلام في الشرق الأوسط. ترجمة كمال السيد. ط1(بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1988)ص14
  12. ديمتري. مصدر سابق. ص 149
  13. المصدر السابق. ص 150
  14. المصدر السابق. ص 150
  15. المصدر السابق. ص 152
  16. المصدر السابق. ص 154
  17. إمام عبد الفتاح إمام. الطاغية: دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي. عالم المعرفة 183(الكويت. المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب) ص 64
  18. المصدر السابق. ص 244
  19. دادياني. الصهيونية على حقيقتها. ترجمة الياس شاهين (موسكو: دار التقدم، 1989) ص154)
  20. المرجع السابق. ص 124
  21. المرجع السابق. ص 153
  22. segre v.d.israel.acociety in transition.n.y 1971 .p203
  23. الصهيونية فكرًا وهدفًا وممارسةً. مكتب الدراسات الفلسطينية1977. ص15
  24. المرجع السابق. نفس الصفحة.