Menu

كتاب موجز الفلسفة والفلاسفة عبر العصور للمفكر غازي الصوراني (ح 64)

غازي الصوراني

خاص بوابة الهدف

(تنفرد بوابة الهدف، بنشر كتاب المفكر غازي الصوراني، المعنون: موجز الفلسفة والفلاسفة عبر العصور، الصادر عن دار الكلمة للنشر والتوزيع، في يونيو/ حزيران 2020، على حلقات متتابعة.. قراءة مثمرة ومفيدة نتمناها لكم).

الباب الرابع

الفلسفة الأوروبية في العصور الوسطى

الفصل العاشر

أبرز فلاسفة القرن التاسع عشر

نيتشه والموقف من الأخلاق:

فلسفة نيتشه الأخلاقية هي: بشكل رئيسي، محاولة لشرح الظواهر الأخلاقية بطريقة بسيكولوجية، فهو لم يقل شيئاً عما يجب أن يحل محل الأخلاق المُدَمِّرة، وكيف تُؤَسَّس الأخلاق الجديدة، لكنه أكد القول بأن لا وجود لظواهر أخلاقية أو غير أخلاقية في ذاتها، وفي هذه النقطة يذكرنا موقفه بالفيلسوف هيوم: لا وجود إلا لتأويلين أخلاقيين للظواهر، وقد تباهي نيتشه لكونه أول من أدرك عدم وجود "حقائق أخلاقية" قائلاً: " لا تنفع صيغنا الأخلاقية في وصف العالم، فالأخلاق مثل سترة السجين أو المجنون: عبارة عن وسيلة مفيدة لحفظ المجتمع وتجنب القوى الهدامة، والأخلاق تَستَعْمِل فكرة الخوف وفكرة الأمل – ومن بين أقوى الاختراعات النعيم والجحيم، وفي نهاية المطاف استبطن الإنسان آليات القمع فصارت له ضميراً"([1]).

في كتابه ما وراء الخير والشر (Beyond Good and Evil) أعلن نيتشه عن اكتشافه نمطين أساسيين من الأخلاق هما: "أخلاق السيد" و"أخلاق العبد"، ويمكن وضع التمييز بشكل أساسي كما يأتي: في اخلاق السيد "الصالح" يعادل "النبيل" و"البارز" و"الشهم"، و"السيء" يعادل معنى "المحتقر"، أما في أخلاق العبد، فإن مسألة الصالح والطالح ذات صلة بما يخدم الضعفاء "وفقراء الروح"، إذ تُرْفَع صفات مثل العطف والتواضع والرحمة إلى فضائل، ويعد الفرد القوي والمستقل خطرأ و"شرا".

يقول نيشته: "لكنه على الرغم من أن الأسياد أقوياء، فإن العبيد أذكى منهم بكثير، ومع أن العبيد لا يتجاسرون على مواجهة الأسياد في الميدان المفتوح، فإنهم يحاولون ترويضهم بإبراز قيمهم الأخلاقية واعتبارها مطلقة: "فتكون بداية ثورة العبيد في الأخلاق عندما يتحول الاستياء ذاته إلى استياء خلاق ويُوَلِّدْ قيماً"([2]).

وهكذا، فإن العدوانية عند الفقراء المحرومين لا يُعَبَّر عنها بشكل مباشر، ولكن بشكل غير مباشر، وقد رأى نيتشه في المسيحية أَفْعَلْ مُدَمِّر لأخلاق السيد، فالمسيحيون –حسب نيتشه- يمتدحون صفات الضعف والتواضع والحلم، ليس لأن المسيحيين يحبونها، وإنما يعود ذلك إلى حقد دفين للقوة وللكبرياء في الحياة وللتأكيد للذات، وبسبب "الرعب الروحي" صارت أخلاق العبد، التي كانت أصلاً منظوراً واحداً، مقبولة من كل واحد كمقياس عالمي: الأسياد يتخذون مقياس العبيد لأنفسهم.

ذلك كله –كما يقول سكيربك ونلز- لا يعني أن نيتشه كان مدافعاً عن عدم العاطفة وعن الوحشية، فما أراد هو أن يبين مدى التعقيد الذي يمكن أن يكون عليه الكثير من رغباتنا، ومقدار الفرح الدفين الموجود في وعدنا خصومنا بعذاب أبدي!

لكن هل عنى نيتشه أن علينا أن نسمح لعواطفنا ودوافعنا أن تنطلق من عقالها وتتعدى الخير والشر؟ فهل علينا في المجال الأخلاقي أن نتبنى موقفاً يشبه موقف دعه يعمل؟

كان "نيتشه يرى أن الأخلاق كلها، بما فيها ما يتعدى الخير والشر، تتضمن بعض الطغيان على "الطبيعة"، وذلك ضروري، فمن دون الأخلاق لا وجود لما يستحق الحياة. فلا الفن ولا الشعر (ناهيك بالفلسفة الكبرى!) ممكن أن يكونا من دون مقدار معين من الإكراه، ومن دون موقف زهدي من الحياة، فالنقطة الأساسية هي في انضباط العواطف والرغبات، وليس في تجفيفها وإنما في تهذيبها، والتسامي هو المفتاح، وبالتالي لم يُرِدْ نيتشه "الرجوع إلى الطبيعة"، وإلى التعبير البدائي عن العواطف. ذلك كله يمهد الطريق لمثال نيتشه الأعلى وهو: الإنسان الأعلى"([3]).

يقول نيتشه: "إن فصاحة الأنبياء هي التي جعلت من أخلاق الطبقات المحكومة الضعيفة مقياساً للاخلاق العامة، واصبحت الدنيا والجسد عنوانا للشر، وأضحى الفقر برهاناً على الفضيلة، فقد بلغ هذا التقدير أو المقياس الاخلاقي ذروته في تعاليم المسيح، الذي نادى بالمساواة بين الناس في الاقدار والحقوق، وتفرعت عن تعاليمه ومبادئه المبادئ الديمقراطية والاشتراكية، وأصبحت هذه الفلسفات العامية الشعبية مقياساً وتعريفاً لكل تقدم، ورمزاً لكل مساواة، والواقع ان الحياة التي تقوم على مثل هذه المبادئ الشعبية هي حياة في طريق الانحلال والانحدار، وإن آخر مرحلة لهذا الانحلال والانحدار هي تمجيد الشفقة، وتعظيم التضحية بالنفس، والشعور بالعطف على المجرمين"([4]).

ويضيف نيتشه قائلاً: "ان العطف أمر مشروع إذا كان فعالاً، أما الشفقة فهي ضَرب من الشلل العقلي، ومضيعة للشعور في اصلاح من لا يرجى إصلاحهم من العَجَزَة والمشوهين والأشرار والمرضى والمجرمين، هذا بالاضافة إلى ما تنطوي عليه الشفقة من السماجة وقلة الادب، ان زيارتنا للمرضي هي نزعة إستعلاء منا نحو هؤلاء المرضى العاجزين، كما أن الاخلاق هي ارادة القوة، والحب ذاته رغبة في التملك، ومطارحة الغرام معركة، والزواج سيادة.ان العقل والاخلاق عاجزان امام ارادة القوة هذه، وهما سلاحان في يدها"([5]).

"تك النظم الفلسفية عنده –كما يقول ديورانت- ليست "إلا سرابا خادعاً، وما نراه ليس الحقيقة المنشودة التي طال بحثنا ولكنه إنعكاس لرغباتنا ليس إلا، هذه الرغبات الداخلية، هذه النبضات لإرادة القوة، هي التي تقرر افكارنا حيث "يستمر الشطر الأعظم من نشاطنا العقلي بطريقة لا شعورية لا نشعر بها، كما ان التفكير الشعوري هو اضعف التفكير، وذلك لان الغريزة وهي العملية المباشرة لإرادة القوة، لا يزعجها الإدراك الشعوري، والغريزة هي أعظم انواع الذكاء الذي عرفه الإنسان حتى الآن، لقد بالغ الإنسان في تقدير الإدراك العقلي، وليس الإدراك سوى عملية ثانوية لا أهمية لها ولا لزوم، كما أن الرغبة –يستطرد ديورانت- تبرر نفسها في النفوس القوية السليمة ذات السيادة والسيطرة التي لا نجد فيها الضمير والشفقة والندم منفذا ليدخلها، ولكن بعد ان سادت الاخلاق اليهودية المسيحية الديمقراطية في الأزمنة الحديثة، اصبح الاقوياء يخجلون من قوتهم وصحتهم، وراحوا يتلمسون الاسباب لما يبتغون، وبالتالي فإن الفضائل والقيم الارستقراطية آخذة في الانطفاء والاختفاء، وأوروبا يهددها غزو بوذي جديد، كما ان فضائل الطبقات السفلى من الشعب (عامة الشعب) لو انتقلت عدواها إلى الزعماء والقادة الاقوياء، وحولتهم إلى طينة عامة الشعب لكان ذلك بدء الانحلال والفساد"([6]).

لذلك "ينبغي قبل كل شيء –كما يضيف ديورانت- "ان نلزم مبادئ الاخلاق على الانحناء امام تدرج المراتب واختلاف الطبقات، ويجب على عامة الشعب ان تفهم تماماً انه مما ينافي الاخلاق ان نقول، ان ما يحق للفرد يحق للفرد الآخر، لان اختلاف الاعمال يقتضي اختلافاً في الصفات، والفضائل الشريرة التي يتميز بها الاقوياء ضرورية للمجتمع كالفضائل الخيرة التي يتصف بها الضعفاء، فالقسوة والعنف والخطر والحرب لها قيمتها كاللطف والشفقة والسلام، وأَعظم الرجال لا يظهرون إلا في أوقات الخطر والعنف والشدة والقسوة التي تستدعيها ضرورة الموقف، وأعظم ما في الإنسان هو قوة الإرادة وثبات العاطفة، اذ بدون العاطفة يكون الإنسان مائعاً وحليبا لا يصلح للعمل، كما ان الشره والحسد وحتى الكراهية أمور لابد منها في الكفاح واختيار الافضل وبقاء الاصلح، وعندما اخترع الإنسان فكرة عذاب جهنم، أراد أن يعزي نفسه بفكرة تعذيب اعدائه ومضطهدية وظالميه في الحياة الاخرى، فالأوروبي العامي في ايامنا هذه يمجد ويعظم صفاته الضعيفة، كالرقة والمساواة والاعتدال والشفقة، وانه لطيف وصبور ونافع للمجتمع، ويعتقد ان هذه الصفات من مميزات الانسانية"([7]).

نلاحظ هنا –كما يستطرد ديورانت- "أن نقد الاخلاق يهيمن على جل كتابات نيتشه وبصفة خاصة كتابيه "ما بعد الخيرو الشر" و"جينالوجيا الاخلاق"، ذلك إن ما يريد أن يوضحه نيتشه هو "أن الخضوع للاخلاق ليس في ذاته أخلاقياً"، بمعنى أن ما ينزع اليه نيتشه هو هدم القاعدة المعيارية المتعالية للقيم والمبادئ الأخلاقية، والقطيعة مع التراث الفلسفي الذي اتجه دوماً إلى بناء الاخلاق على الانسجام مع نظام الوجود ونظام العقل، ومن ثم تبيان النوازع الحيوية و"الغريزية" التي تختفي خلف سمو وقدسية تلك الأوامر والالتزامات السلوكية.

"إن كل الاخلاقيات السابقة تنطلق من الحكم المسبق الذي بفضله نعتقد أننا نعرف لماذا يوجد الانسان: وبالتالي نعرف مثاله: أن ذلك يؤول إلى فردية المثال ونفي الأخلاق الشمولية، "فالقوة عند نيتشه هي أساس الاخلاق، وبما ان القوة وحدها وليست الشفقة هي الاساس للأخلاق، لذلك ينبغي على الانسانية أَلا تتجه بجهودها إلى رفع طبقة العوام والأكثرية من الشعب، ولكن إلى النهوض بأقوى وأفضل الافراد في الشعب، "وان يكون هدف الانسانية هو الإنسان الأعلى وليس الجنس البشري بأسره"، وآخر ما ينبغي للعقلاء المفكرين ان يتصدوا له هو تحسين الانسانية واصلاحها، اذ لا صلاح للإنسانية، بل ليس للإنسانية وجود على الاطلاق، والافضل على المجتمع ان يَفْنَى إذا لم يعمل على بعث إنسان أسمى، المجتمع أداة لرفع قوة الفرد وشخصيته، والجماعة ليست غاية في حد ذاتها"([8]).

يبدو من حديث نيتشه أولاً بأنه "كان يرجو بعث نوع جديد من الانسان، ولكنه اخذ يفكر بعد ذلك في ان الإنسان الاعلى فرد متفوق يرتفع بشجاعته من وسط الشعب بفضل تربيته القوية لا بفضل الانتخاب الطبيعي، فالطبيعة اقسى ما تكون على افضل افرادها، انها تميل إلى الفرد المتوسط العادي وتعمل على حمايته، وفي الطبيعة ميل دائم إلى الهبوط بأفذاذ الرجال إلى مستوى عامة الشعب واخضاعهم لهم، فهي تنتصر دائماً للكثرة على الصفوة الممتازة، اذن لا أمل في ان تختار لنا هذه الطبيعة الإنسان الاعلى، وعلينا اختيار الإنسان الاعلى عن طريق وسائل تحسين النسل والتعليم الذي يرفع من قيم الرجال وأقدارهم"([9]).

يقول نيتشه: "إن النبل مستحيل بغير حُسْنْ المولد، والعقل وحده لا يؤدي إلى النبل، بل العكس هو الأصح، فالعقل يحتاج إلى ما يُشَرٍّفه ويرفع قدره، ماذا نريد اذن؟ نريد الدم .. (سلامة العنصر) وبعد توفير حسن المولد تحسين النسل، تكون الخطوة الثانية لصياغة الإنسان الاعلى، مدرسة عنيفة قاسية تستهدف الأخذ بيد التلاميذ نحو الكمال، حيث يتدربون على تحمل المسؤوليات الجسيمة، دون ان ينعموا بكثير من أسباب الراحة، وذلك بتدريب الاجسام على تحمل الالآم في صمت، وتدريب الإرادة على اطاعة الأوامر ومهام القيادة، وان تبتعد هذه المدرسة في نظامها عن التساهل والحرية التي تضعف القوة الجسدية والخلقية، وبمثل هذا المولد وهذه التربية يرتفع الإنسان فوق الخير والشر، ولا يتردد في اللجوء إلى العنف والقسوة في سبيل الوصول إلى غايته، بحيث يكون شجاعاً لا صالحا أو خيراً، "ما هو الخير؟ ... الخير هو الشجاعة". "ما هو الخير هو كل ما يزيد الشعور بالقوة، هو ارادة القوة، هو القوة نفسها في الانسان، وما هو الشر، الشر هو كل ما ينشأ عن الشعف، قد يكون اميز ما يميز الإنسان الأعلى هو حبه للمخاطرة والكفاح، شريطة ان يكون لهما هدف، ولا يجوز له ان يسعى إلى السلام أولاً، وسيترك السعادة إلى عامة الناس، فالثوره خير،  ولكنها ليست خيراً في حد ذاتها، لانها تؤدي إلى سيادة الجماهير وعامة الشعب وهو أسوأ أنواع الحكم، ولكن الثورة كفاح، والكفاح يبرز العَظَمَة الكامنة في الرجال، التي لم تُصَادِفْ من قبل فرصة أو حافزاً للظهور"([10]).

فمن بين الفوضى يبزغ أعاظم الرجال كالنجوم اللامعة الراقصة، كما بزغ نابليون من بين انقاض وفوضى الثورة الفرنسية، كما خرج من فوضى عهد النهضة والعنف الذي رافقها شخصيات عظيمة قوية لم تشاهدها أوروبا أبداً، إذن، "الحيوية والعقل وعزة النفس هي التي تصنع الإنسان الأعلى، ولكن ينبغي ايجاد الإنسجام بينها، ولن تصبح العواطف قوة دافعة إلا إذا وَحَّدَ بينها هدف عظيم يصوغ شتات الرغبات في شخصية قوية. ويلٌ للمفكر الذي يكون أرضاً لأفكاره لا بستانيا منظماً ومشذباً لها.

ان من ينساق لعواطفه وغرائزه هو الضعيف الذي تنقصه قوة الكبت والكبح، والذي ليس لديه من القوة ليقول (لا) اذا استدعى الأمر إلى قولها"([11]).

نيتشة.. ضد الديمقراطية.. ومع  إرادة القوة الارستقراطية:

يقول نيتشه "لم يتخلف المفكرون الاحرار الفرنسيون من فولتير إلى أوجست كونت عن المَثل الاعلى للديانة المسيحية بل اضافوا عليها. فقد ذهب كومت إلى الدعوة إلى محبة الآخرين، وتكريس الحياة من أجل مساعدتهم، كما ذهب شوبنهور في المانيا، وجون ستيوارت مل في انجلترا، إلى الدعوة إلى نظرية الشفقة ومساعدة الآخرين، واعتبروها المبدأ الاساسي في العمل، كما وضع الاشتراكيون جميعهم افكارهم على أساس هذه المبادئ التي تحض على الشفقة والرحمة ومساعدة الغير"، لكن ما نحتاج إليه في هذه المعركة التي نسميها الحياة –كما يضيف نيتشه- هو القوة لا الطيبة، والكبرياء لا الخضوع، والذكاء الحازم لا حب الغير ومساعدة الناس، ذلك إن المساواة والديمقراطية مناقِضَةً لنظرية الانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح التي تحدث عنها داروين، كما ان هدف التطور هو العباقرة لا جماهير الشعب، والحكم الفصل في جميع الخلافات ومصائر الأمور هو القوة لا العدالة، هذا هو ما اعتقده فردريك نيتشه، والآن، ان كان هذا حقاً، فليس اعظم من بسمارك ولا أكثر منه أهمية، اذ ينطبق عليه هذا الوصف الذي ذهب اليه نيتشه"([12]).

ويضيف نيتشه قائلاً: "لقد عرف بسمارك حقائق الحياة فأَعلن في خشونة "ان لا محبة للغير بين الأمم وان القضايا الحديثة في الدول، لا ينبغي ان تقررها أصوات الناخبين، ولا بلاغة الخُطَبْ، ولكن الذي يقررها هو الدم والحديد"... أي ريح عاتية كان بسمارك بالنسبة إلى أوروبا التي افسدتها الأوهام والديمقراطية والمثل العليا السائدة، فقد تمكن في شهور قليلة من فرض سيادته وزعامته على النمسا المتدهورة، وفي شهور قليلة أَخضع فرنسا التي كانت لا تزال تترنح نشوى باسطورة نابليون، كما أَجبر في هذه الشهور القليلة الدويلات الالمانية الصغيرة على دمج نفسها في امبراطورية قوية، لقد كان بسمارك رمزاً لهذه الاخلاق الجديدة التي دعا لها نيشته، الا وهي اخلاق القوة"([13]).

وفي هذا السياق، "فإن نيتشه يرفض الديمقراطية ويكرهها، فالديمقراطية عنده "معناها ان يسمح لكل جزء في الإنسان بالانطلاق في المسرات والرغبات، معناها انحلال التماسك وتبادل التعاون، وتتويج الفوضى والحرية، ومعناها عبادة أوساط الناس ومقت التفوق والنبوغ، ومعناها استحالة ظهور الرجال العظماء، اذ كيف يمكن لاعاظم الرجال الاذعان إلى غش واكاذيب الانتخابات؟ وكيف يمكن أن يترعرع الإنسان الاعلى في مثل هذه التربة؟ وكيف يمكن لامة بلوغ العظمة اذا لم تنتفع وتستخدم أعظم رجالها باثباط همتهم وتركهم لا يسمع بهم احد؟ ان مثل هذه الامة سرعان ما تفقد اخلاقها بتمجيدها صاحب أكثرية الاصوات في الانتخابات بدلاً من الموهوب المتفوق النابغ، في مثل هذا المجتمع، تتشابه الاشياء، وتتحول النساء إلى رجال، والرجال إلى نساء"([14]).

بناء على ما تقدم تكون "الطريق إلى الإنسان الأعلى هي الأرستقراطية، أما الديمقراطية وهي سخافة حكم الأكثرية والعدد فيجب استئصالها والقضاء عليها قبل فوات الفرصة وتأخر الوقت، وأول خطوة لتحقيق ذلك هي "تحطيم المسيحية، فقد كان انتصار المسيح بدء الديمقراطية "لقد كان المسيحي الأول في اعماق نفسه ثائراً على كل ضروب الامتياز، فقد عاش وكافح في سبيل المساواة يين الناس في الحقوق"، اليس هو القائل "سيد القوم خادمهم"، ان هذا قلب للحكمة السياسية والعقل السليم، والواقع ان من يقرأ هذا الانجيل يشعر بأنه يقرأ كتاباً روسيَّاً، وأن ما جاء فيه من آراء لا يمكن ان تتأصل وترسل جذورها إلا في الطبقات السفلى، وفي عصر إنحط فيه الحكام وعجزوا عن الحكم، وعندما يتربع العبد على عرش الحكم ينشأ التناقض ويصبح احقر الناس افضلهم، ولا صحة لما يقال من ان الدول نشأت بتعاقد الافراد فيما بينهم، ولكن الذي أنشأ الدول جبابرة من الغزاة العتاة والسادة الاقوياء، من ذوي المقدرة الحربية والتنظيم العسكري، الذي أَنشبوا مخالبهم المخيفة في سكان بلاد تفوقهم عدداً، اذ ما قيمة العقود مع من خلق بطبعه ليكون قائداً وسيداً وعنيفاً قوياً؟"([15]).

ولكن هذه الفئة الحاكمة –كما يقول نيتشه- "افسدتها الفضائل الكاثوليكية المخنثة الضعيفة أولاً، والمبادئ الشعبية العامية الناجمة عن الاصلاح الديني ثانياً، والتزاوج مع الطبقات السفلى ثالثاً، فقد افسدت البروتستانتية وشرب الجعة الذكاء الالماني، هذا بالاضافة إلى الأوبرا الفرنسية التي ساهمت أيضاً في افساد ذكاء الالمان، ونتيجة لذلك أصبحت بروسيا الالمانية اليوم أَلد أعداء الثقافة، ولاشك أن هذه الحالة الحاضرة في المانيا تقف عقبة امام تفهم الشعب لفلسفتي، فاذا كان الزمن الطويل وحده هو القادر على فناء العالم، فإن الزمن الطويل وحده سيقضي على الفكرة الباطلة التي تسود المانيا، ومع ذلك فإن الشعب الألماني يمتاز بطبيعة رزينة وعمق يبعث الامل في ان تنهض المانيا يوماً لتخليص العالم وانقاذه، اذ ان في الشعب الألماني من فضائل الرجولة أكثر مما في الشعب الفرنسي أو الانجليزي، هذا بالاضافة إلى اتصاف الالمان بالمثابرة والصبر والجد- مما أدى إلى تَبَحُّرِهم في العلم وإلى نظامهم العسكري، ومن الممتع ان نشاهد أوروبا كلها قلقة من قوة الجيش الالماني، ولو أمكن ايجاد تعاون بين قوة المانيا التنظيمية ومصادر الثروة والرجال في روسيا لبزغ فجر عصر سياسي عظيم" ([16]).

نيتشه ضد المساواة وضد الاشتراكية:

اتخذ نيتشه موقفاً صارماً ضد المساواة لأنها تشجع ولادة أو انبثاق الاشتراكية والفوضوية، وكلها متفرعة من الديمقراطية، فإذا كانت المساواة السياسية عدلاً، فلماذا لا تساوي بين الناس في القوة الاقتصادية؟

وهنا يصرخ نيتشه ضد المساواة قائلاً: "اريد ان اكون واضحاً، وان لا أُحدث بلبلة حول موقفي من هؤلاء الذين ينادون بالمساواة، فأقول أن لا مساواة بين الناس "ان العدالة لتصرخ في دخيلتي ان لا مساواة بين الناس، ان طبيعة الإنسان تأبى عليه المساواة، وأولئك الذين يدعو إلى المساواة يَدْعونَ لها لعجزهم عن ان يكونوا جبابرة طغاة، ان الطبيعة تحب اختلاف الافراد والطبقات والانواع.

كما أن الاشتراكية تتنافى مع الأسس البيولوجية: ان عملية التطور تقتضي انتفاع الاقوياء بالضعفاء، إن الحياة استغلال، وتقوم كل حياة على افتراس حياة أخرى، فالسمك الكبير يبتلع الصغير وهذه هي الحياة بتمامها، وبالتالي فإن الاشتراكية –عند نيتشه- تعني الحسد، "والاشتراكيون يريدون انتزاع بعض ما في ايدينا، تثور الطبقات السفلى مطالبة بالاشتراكية ظناً منها أن هذه الثورة ستحررها من تبعيتها التي هي نتيجة طبيعية لضعفها وعدم كفايتها، ومع ذلك فإن العبد لا يكون نبيلاً الا إذا ثار".

ومهما يكن من أمر هؤلاء العبيد، فانهم خير من البورجوازيين سادة العصر الحديث، انه لمن علامة انحطاط ثقافة القرن التاسع عشر ان يكون رجل المال موضع هذا التقديس والتعظيم والحسد، كما ان افراد هذه الطبقة من رجال الاعمال عبيد ايضاً، فهم عبيد العمل الآلي الرتيب، وضحايا لعمل، وليس لديهم الوقت للاطلاع على الاراء الجديدة، والتفكير عندهم حرام"([17]).

"إن الحرب –لدى نيتشه- "أفضل علاج للشعوب التي دب فيها الشعف والترف والراحة والهوان والخسة، لانها تثير الغرائز التي افسدها السلام، وعندما تتحول الامة عن الحرب والغزو، فإن هذا من علامات انحطاط الأمة، وانها أصبحت ثمرة ناضجة للوقوع في يد الديمقراطية وحكم التجار، ومع هذا فإن اسباب الحروب الحديثة ابعد ما تكون عن النبل، والحروب التي اثارتها الخلافات الدينية والعائلات المالكة افضل قليلاً من لجوء التجار إلى المدافع والبنادق لحل الخلاف بينهم، لذا ينبغي على السياسة أن تعمل على إبعاد رجال الاعمال عن الحكم، لأن رجل الاعمال ينقصه بُعْد النظر واتساع المدى المتوفر في الارستقراطي، لان أرفع الرجال لهم حق مقدس في الحكم، وهو حق المقدرة السامية، وللرجل العامي مكانه، وليس مكانه العرش طبعاً، والرجل العامي سعيد في مكانه وفضائله ضرورية للمجتمع كفضائل الزعيم"([18]).

أما المدينة السامية عنده، فهي كالهرم، لا تستقر إلا على قاعدة فسيحة ضرورية من الطبقة الوسطى القوية السليمة المتماسكة، والناس أينما وجدوا، بعضهم خلقوا قادة وبعضهم اتباعاً، وسترضخ الأكثرية وتشعر بالسعادة في العمل تحت اشراف هؤلاء الزعماء الاقوياء وتوجيههم العقلي.

والمجتمع المثالي هو الذي ينقسم إلى ثلاث طبقات:

  1. طبقة المنتجين وتشمل المزارعين والعمال ورجال الاعمال.
  2. طبقة الموظفين وتشمل الجنود.
  3. وطبقة الحكام، وللحكام ان يديروا سياسة الدولة بان يكونوا ساسة وفلاسفة لا موظفين، لان عمل الموظفين عمل حقير لا يتناسب مع الحكام.

هل ينبغي أن تكون هذه الفئة الحاكمة طائفية وسلطتها وراثية؟ والجواب على هذا السؤال نعم إلى مدى كبير، والا تمزج دماً جديداً إلى دمها الا نادراً، اذ لا شيء يُضعِف الارستقراطية ويفسدها ويلوث دمها أكثر من الزواج من الاغنياء العوام السوقة، كما أننا –يقول نيتشه- لن نجد الشجاعة والبصيرة الا في هذه الطبقة الأرستقراطية التي ستوحد أوروبا، وتقضي على النزعات القومية السائدة، ولنكن أوروبيين صالحين كما كان نابليون، وجوته، وبيتهوفن، وشوبنهور، متى سيظهر هذا الجنس الجديد، والزعماء الجدد، متى ستولد أوروبا([19]).

إن نيتشه يرفض مفهوم المساواة من حيث المبدأ، إلى جانب رفضه للمساواة مع المرأة، فيقول: "إن مساواة المرأة بالرجل في الحقوق هي النتيجة الطبيعية للمبادئ الديمقراطية والديانة المسيحية. ومن الخطر مساواة الرجل بالمرأة لانها لن تسعد بذلك وتؤثر الخضوع إلى الرجل، هذا اذا كان الرجل رجلاً، لان سعادتها وكمالها تكمنان في الامومة، ان الرجل بالنسبة إلى المرأة وسيلة، والغاية هي الطفل دائماً، لكن ما هي المرأة بالنسبة إلى الرجل؟ .. انها لعبة خطيرة، يجب اعداد الرجل للحرب، والنساء للترفيه عن المحاربين وكل ما عدا ذلك فسخافة، مع ذلك فإن المرأة الكاملة اسمى انسانية من الرجل الكامل، ولكن هذه المرأة السامية في الانسانية امر نادر الوقوع.. ولا يستطيع الرجل أن يكون لطيفاً تماماً مع النساء"([20]).

 

([1])غنارسكيربك و نلز غيلجي–  مرجع سبق ذكره - تاريخ الفكر الغربي - ص 737

([2]) المرجع نفسه - ص 739

([3]) المرجع نفسه - ص 741

([4])ول ديورانت–  مرجع سبق ذكره -  قصة الفلسفة - ص526

([5])المرجع نفسه - ص526

([6])المرجع نفسه - ص527 / 528

([7])المرجع نفسه - ص529

([8]) السيد ولد أباه – التاريخ والحقيقة لدى ميشال فوكو – دار المنتخب العربي – الطبعة الأولى – 1994 – ص 59

([9])ول ديورانت– مرجع سبق ذكره - قصة الفلسفة - ص532

([10])المرجع نفسه - ص533

([11])المرجع نفسه - ص534

([12])المرجع نفسه - ص505

([13])المرجع نفسه - ص506

([14])المرجع نفسه - ص541

([15])المرجع نفسه - ص536

([16])المرجع نفسه - ص537/538

([17])المرجع نفسه - ص544

([18])المرجع نفسه - ص545

([19])المرجع نفسه - ص546-547

([20])المرجع نفسه - ص542