Menu

النظام السياسي الفلسطيني.. وآفاق الانتقال من إدارة الأزمة إلى تجاوزها!

محمد صوان

نشر هذا المقال في العدد 21 من مجلة الهدف الرقمية

تتمثل الأزمة المستحكمة التي يمر بها النظام السياسي الفلسطيني الراهن في ثلاثة أبعاد: الانقسام، الانكشاف، التدمير الذاتي.. فالنظام السلطوي الرسمي في الضفة والقطاع، في ظل الشتات الثاني – نتائج أوسلو - يئن تحت وطأة ديناميات التفكك الناجمة عن الانقسام الوطني والجغرافي، وعن تراجع فكرة الولاء للوطن لصالح تجاذبات إقليمية وانتماءات فصائلية وفئوية وعشائرية، وعن بروز ظواهر اجتماعية مرضية تنخر في عضد المجتمع.. وعن التبعية الأمنية والاقتصادية للاحتلال على نحو غير مسبوق، وبالتالي فمنظمة التحرير الفلسطينية، بالرغم من المطالبات بتفعيل مؤسساتها وإعادة بنائها وتجديدها فهي لا زالت ضحية معلقة بين اختطاف صلاحياتها من جهة، وبين تهميشها بالكامل من جهة أخرى.

لقد أصبحت "م. ت. ف " موضوعاً آخر للانقسام الفلسطيني، وليست إطاراً وطنياً جامعاً يختلف الفلسطينيون تحت خيمته - وليس عليه - بدورها تعاني السلطة الفلسطينية أزمة نابعة من ضعف إمكانية تحولها إلى "دولة قابلة للحياة" وإثقالها بأحمال وأوزان لا تقوى موضوعياً عليها؛ إذ تعيش حركة "فتح" حالة ترنّح ناجمة عن فقدان هيبتها ومكانتها، وانشغالها بالصراع مع حركة "حماس" على أرضية الرغبة باستعادة النفوذ والسيطرة، دون أن تسعى إلى تجديد بنيتها التنظيمية وخطابها السياسي والكفاحي ضد الاحتلال، وتصويب تحالفاتها الوطنية مع الفصائل الأخرى، كذلك وقعت حركة "حماس" في فخ ناجم عن التناقض الكبير بين أيديولوجيتها ونهجها السياسي الذي أوصلها إلى السلطة في غزة، وبين إدارة  سلطة محاصرة ومقيدة موضوعياً.. ناهيك بفقر خطابها معرفياً وضعف الخبرة حول تحديد الأولويات والاتجاه المركزي للعمل الوطني.. وتداخل الأجندة الأيديولوجية لحركة "حماس" مع أجندة السلطة، وإخفاقها بالانتقال السلس من عقلية التنظيم الحركي إلى عقلية التنظيم الدولاني، وهو ما قادها في نهاية المطاف للانقسام، وتكريس الفصل بين الضفة و غزة والشتات وداخل الداخل، وبالتالي التكيّف مع المستجدات السياسية الجديدة المرتبطة به.

أما فصائل اليسار الفلسطيني التي لا تشكو فقر الخطاب السياسي والمعرفي، ولا تعيش فراغاً ناجماً عن فقدان الهيمنة والسلطة، لكنها لم تنجُ من الوقوع في أزمة من نوع مختلف، تكمن في انحسار دورها وتراجع مستوى تأثيرها وفعلها اليومي، وفي عدم نجاحها على صعيد تشكيل وبناء تحالف فيما بين فصائلها، أو في امتلاك منبراً خاصاً بها متمايزاً عن الممارسات والخطابات السائدة.. ويبدو أن مسيرة الكفاح وتعقيداتها الشائكة لم تعفيها من الوقوع في أزمة تتمثل في الإنهاك الشديد لقواها، وانسداد الأفق أمام بنيتها؛ الأمر الذي أوصلها إلى فك الارتباط بينها وبين برنامج العمل الوطني والديمقراطي الذي تطمح لتحقيقه.

من الواضح أن البحث عن الذات – هوية وطنية وكيانية سياسية – ومحاولات تأكيدها وإنجازها لا زالت تتعثر، وأن الأزمة التي تعصف بمجمل النظام السياسي الفلسطيني؛ توشك على إجهاض فرص تحقق الذات الوطنية الفلسطينية وتكريسها، حيث أن الأولوية القصوى تتمثل في الحفاظ على وحدة الشعب والقضية والمصير والأرض ومواصلة مسيرة التحرر الوطني والديمقراطي، وأن التناقض الأساس ما يزال مع الاحتلال الصهيوني، دون إغفال ضرورات البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي والحفاظ على التجربة الديمقراطية وتعميق مساراتها والتصدي للاحتلال بكافة الأشكال المتاحة.. وتذليل المشكلات الاجتماعية والمعيشية، بما يكفل حياة كريمة وآمنة للشعب الفلسطيني، وبما يؤمن مشاركة الشتات في العملية السياسية وضمان الحقوق المدنية ورعاية الشؤون الحياتية والمعيشية لمخيمات اللجوء.

إعادة بناء "م. ت. ف" كمدخل لحل الأزمة

من الواضح أن ثمة مقاربات عديدة للتعامل مع هذه الأزمات، ولا يمكن الزعم بأن مقاربة بعينها يمكن أن تنهي هذه الإشكاليات؛ الأمر الذي يقتضي ضرورة الاهتداء لنهج استيعاب الأزمة، والبحث عن حلول لها، والإمساك بالحلقة المركزية على قاعدة البدء الفوري بإحياء وتفعيل دوائر ومؤسسات "م. ت. ف"  التشريعية والسياسية والنقابية وإعادة بنائها، بوصفها الحلقة المركزية التي يمكن أن تساهم – إن تحققت – بإنجاز التطوير والإصلاح، ويتطلب ذلك توفير عنصرين أساسيين:

الأول: تجديد بناء "م. ت. ف" على أرضية وحدة وطنية حقيقية؛ تجسر الفجوة بين قوى وفصائل العمل الوطني من منطلق اعتبار المنظمة إطاراً سياسياً جامعاً للكل الفلسطيني.. وهذا يقتضي:

1. تمكين جميع القوى والفعاليات السياسية والثقافية والاجتماعية والنقابية والمهنية من حق التمثيل والمشاركة، بما يتناسب وحجم تمثيلها في المجتمع، أي ضمان تحقيق الشراكة الوطنية والمجتمعية للكل الفلسطيني في الوطن والشتات.

2. أن تكف حركة " فتح" عن محاولات إعادة إنتاج هيمنتها وتفرّدها في قيادة النظام السياسي – سلطة ومنظمة – بما في ذلك مغادرة سياسة التناغم مع حالة الانقسام الذي جلب تقسيم المجتمع والوطن والنظام.

3. أن تعيد حركة "حماس" النظر في مواقفها تجاه السلطة والمنظمة معاً، وأن تتراجع عن محاولات تكريس كيان مقلّص في قطاع غزة، وتقلع عن وهم مصادرة التمثيل الوطني.. عبر خطوات محسوبة النتائج تعيد للمشروع الوطني مكانته والتفاف الكل الفلسطيني حوله.

4. إجراء مراجعة نقدية شاملة؛ تتوخى تصحيح مظاهر الضعف والعلة في الخطاب السياسي لـ "م. ت. ف"، ومن جملة المسائل التي تستحق المراجعة: هشاشة مكانة القضايا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المشروع الوطني، وارتباك العلاقة بالمحيط العربي والإقليمي، والرؤية السياسية والمنهج المفضي إلى تحقيقها.

الثاني: إصلاح تنظيمي يستهدف؛ عدم احتكار القرار وتهميش المؤسسات وإدارة العمل بعقلية بيروقراطية أوامرية ونظام الكوتا، وتجديد البنية التنظيمية على أساس إعادة الاعتبار للقيم الديمقراطية المؤسسية في الحياة الداخلية لـلمنظمة، وتكريس قيم الرقابة والمحاسبة والشفافية في إدارة مؤسساتها، واعتماد مبدأ التمثيل النسبي عبر صناديق الاقتراع المباشر حيثما أمكن.. إضافة إلى الكف عن اختزال الوحدة الوطنية بين الثنائي "فتح وحماس" - على أهميتها المحورية -  فهذا الاختزال يتجاهل حقيقة أن خريطة المجتمع الفلسطيني أوسع من خريطة الفصائل، وأن إعادة بناء "م. ت .ف" يستوجب فتح أبوابها وتوسيع عضويتها لتشمل ممثلي مؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص والفاعليات الاجتماعية والنقابية والثقافية النشيطة، على قاعدة الشراكة وحق التمثيل المنفتح على مختلف ألوان الطيف الوطني والطبقي الفلسطيني.

المنظمة هي العنوان الوطني الجامع

إن إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية وحتى تفعيلها تظل عملية معقدة؛ تقف في طريقها مجموعة عوائق داخلية وخارجية، ومنها: أن النظام العربي الرسمي لن يرحب بعودة "م. ت. ف" إلى ساحة الفعل والنضال، وكذلك "إسرائيل" التي تحرص على بقائها مجرد بنديرة توظف للمراسم والبروتوكولات التفاوضية، بينما يركز المجتمع الدولي جل اهتمامه على السلطة الفلسطينية.. هذا بالإضافة إلى عوائق بنيوية داخلية تتصل بطبيعة النظام السياسي الفلسطيني الذي لا يعرف سوى "التعدد الشكلي" وهيمنة الفصيل الأكبر، مع تفاوت واضح في طروحات آلية التفعيل بين فصائل العمل الوطني وعدم القدرة على التوصل إلى صيغة توافقية، ما يعني حرص بعض الفصائل على بقاء حال المنظمة ومجمل النظام السياسي على ما هو من انقسام وضعف وهشاشة؛ غير أن العملية – في حال توفر الإرادة والوعي التاريخي المسؤول – ليست مستحيلة، خصوصاً وإن إعادة البناء والتفعيل بإقرار الكل الفلسطيني؛ أضحت ضرورة وطنية ورافعة استنهاض في ظل التيه الفلسطيني الثاني.. علاوة على أن المنظمة لا زالت رسمياً وباعتراف العالم هي العنوان السياسي والممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وبالتالي لن يجرؤ أحد على منع الشعب من ترميم بيته وإصلاحه وتصويب عمل الأطر القيادية، دون المساس بالثوابت، ودون استحداث إطار جديد لا يقر العالم بشرعيته. ويمكن أن تكون البداية عبر طاولة حوار وطني شامل، دون شروط مسبقة لمعالجة معضلة المنظمة، باعتبار أن عملية الإحياء والترميم الداخلية عنصر قوة للشعب الفلسطيني وتزيد هامش مناورة المفاوض باسمه، وتقطع الطريق على محاولات تقليص بدائله وخياراته، وهي دعوة للمجتمع الدولي كي يتصدى لمسؤولياته الأخلاقية والقانونية والسياسية تجاه ما يجري من إجحاف بفرص الحل العادل والشامل للقضية الفلسطينية، ومنع "إسرائيل" من فرض وقائع جديدة على الأرض تحت غطاء "صفقة العصر" الترامبية.

إن إعادة بناء المنظمة يستهدف في المقام الأول؛ جعلها المؤسسة الأولى في النظام السياسي الفلسطيني، تشرف على الفلسطينيين وتدير شؤونهم في الداخل عن طريق قيادة وطنية موحدة، وحكومة واحدة. أما في الشتات فيجري ذلك عبر دوائرها السياسية ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية، بعد أن تُعاد لها الحياة وتضخ في شرايينها دماءً شابة، تضطلع بمهمة التجديد التنظيمي والقيادي والإداري.. وقد توفر مشاركة حركتي "حماس والجهاد" في مؤسسات المنظمة، بعد أن تمارس حركتا "حماس وفتح" النقد الذاتي والتراجع عما صنعوه من كوارث في الضفة وغزة والشتات، باعتبار ذلك مدخلاً لإعادة بناء حركة التحرر الوطني والديمقراطي الفلسطيني وتكريس الشراكة والتعددية السياسية، وتمكين الشعب في مختلف أماكن تواجده من ممارسة دوره في الحياة السياسية والمهام الكفاحية.