تحولات عدة شهدتها الحركة الوطنية الفلسطينية ومقاومتها منذ استعمار فلسطين وانطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، ومع استمرار وبقاء الاستعمار الصهيوني ظل الثابت بين مكونات الحركة الوطنية والمحتفظ بقوة وجوده وحضوره الحركة الوطنية الأسيرة، واليوم ما زال في الأسر أكثر من 4500 أسير/ة؛ العنوان الشاهد على مقاومة شعب يرفض التسليم بواقع الاستعمار من جانب، ويتجاوز مشروع أوسلو الأمني السيء السمعة والصيت بالمقاومة والصمود في الأسر، فيما يشكل إحراجًا مستمرًا لها كشاهد على عجز هذه القيادة عن تحرير الأسرى وتبييض السجون.
هذا الوجود المكثف لقضية الأسرى يعيدنا للدور الأساس الذي لعبته الحركة الأسيرة في تعزيز الهوية الوطنية كهوية مقاومة من أجل وطن حر.
تحاول هذه المقالة على عجالة الوقوف على تمثلات الهوية الوطنية لدى الأسرى؛ عبر ميكانيزمات البنية التنظيمية الأسيرة والحياة الثقافية في المعتقل والمواجهة مع إدارة المعتقل، وعلاقة هذه الميكانيزمات الثلاث مع موضوعة تعزيز الهوية الوطنية داخل المعتقل ولدى جموع الأسرى.
بداية نشير إلى أن الهوية الوطنية لأي جماعة وطنية تتم عبر التناقض مع الآخر أي المستعمِر، ويقودنا مباشرة لأهمية ربط تشكل أو تبلور الهويات بالصراع، وحيث أن الهوية الوطنية لم تتبلور بمعزل عن الصراع الذي هو مولد ومحرك تشكل الهوية الوطنية، وبداية سلسلة طويلة من تراكم الرموز والدلالات المعززة للهوية الوطنية، هذا وقد شكل انطلاق المقاومة المسلحة المعاصرة إحدى أبرز رموز الهوية. ولاحقًا، مع احتلال ما تبقى من فلسطين في العام 1967. أصبح الأسرى والحركة الأسيرة الفلسطينية، من هذه الرموز أيضًا، والتي بلورت هويتها كحركة أسيرة ليس بمعزل عنها، ولكن بالتحايث، مع النضال وحركة المقاومة الفلسطينية والاعتراف بالمنظمة لاحقًا في 1974 كممثل وحيد وشرعي للشعب الفلسطيني، باعتبارها غدت الكيان السياسي المجسد، مع ميثاقها الوطني؛ أبرز مقومات الهوية.
وبالتالي فهمنا للصراع هو مدخلنا لفهم دور الحركة الأسيرة في تعزيز الهوية الوطنية في الأسر؛ فسواء قبل الأسر، أو أثنائه، فإن الصراع كان الثابت الأكبر في حياة الأسرى والأسيرات، قبل الأسر وبعده، ويشكل فهمنا لدور الأسرى في تعزيز الهوية الوطنية.
إن هذه الهوية يعبر عنها عبر الرموز المختلفة والجامعة؛ شأن كل شعب يبلور هويته، وهي رموز استنبطها الشعب من الحياة اليومية ومن التجربة المشتركة، ومن أبسط الأشياء إلى أعقدها؛ فتغدو الكوفية رمزًا، والثوب الفلسطيني رمزًا، كذا بعض أنواع الطعام والأكلات الشعبية رمزًا، فيما اللغة تتصدر المشهد كله لتصبح التعبير الثقافي للهوية الوطنية، فيما التعبير السياسي يطال النضال الفلسطيني وأبطال المقاومة ورموز الاستشهاد والاعتقال والتاريخ الفلسطيني؛ الحقيقي والمؤسطر معاً، والنكبة، هي من أهم الرموز التي تشكل الهوية، بل وتشحذها بالروح والعمق والتواصل والاستمرارية، ليكون العنوان الجامع لكل هذه الرموز: أن الفلسطينيين ينظرون لأنفسهم كشعب واحد ذي تاريخ مشترك في تناقض مع المشروع الصهيوني ولصيق بالتاريخ والقومية العربية، وبالتالي لنا طموحات وآمال قومية ووطنية لا بد من تحقيقها، ويغدو الفرد أيضًا جزءًا من هذه الهوية ويعتز بها ويفتخر بانتمائه إليها، ويعمل على الحفاظ عليها؛ فيصبح النضال والمقاومة هي أداة لتعزيز الهوية وبنفس الوقت جزء لا يتجزأ منها. وعليه، وعلى مدار تاريخ نضالات الحركة الأسيرة؛ عمل الأسرى على تركيم هذه الرموز المعززة للهوية الوطنية من خلال ثلاثة مسارات رئيسية؛ تفاعلت فيما بينها بعلاقة جدلية؛ ساهمت بأن أصبحت الحركة الأسيرة عنوانًا مركزيًا في فهمنا لهويتنا ووجودنا وصراعنا مع المستعمِر.
في المسار الأول وهو العمل على بناء تنظيمي قوي يعمل على بناء كادر وطني وحزبي مؤدلج قادر على أن يخوض معركة المواجهة والصراع مع الآخر: إدارة السجون، ولذا فإن البرنامج التنظيمي كان موجهًا بالأساس بالدرجة الأساسية باتجاهين: داخلي عبر خلق كادر منضبط يساهم في رص الصفوف والمحافظة على الذات الاعتقالية في مواجهة إدارات السجون وأجهزتها الأمنية الفاعلة بقوة في السجون، وخارجي خلق كادر قادر أن يخوض الحياة النضالية والحزبية التنظيمية المنتظمة في لحظة الانعتاق من الأسر.
وقد بني البرنامج التنظيمي على كل ما يمكن أن يغذي العضو من نواحٍ تنظيمية ناظمة للعمل، ومبادئ الحزب/ الحركة ورؤيتها للصراع مع الاحتلال وكيفة إدارة المعركة، هذا البرنامج التنظيمي والذي يسير ويحايث البرنامج الثقافي، وليس مفصولًا عنه، كان يتوج بكل أشكال العمل التنظيمي الرسمي خارج الأسر، حيث تساهم المنظمة الحزبية/ الحركية بكل ما يقوم به التنظيم بالخارج من برنامج تنظيمي/ حركي في داخل السجن؛ جلسات؛ نقاشات؛ إجراءات انضباطية، وأخيرًا وأهمها عقد المؤتمرات الحزبية/ التنظيمية الداخلية والخاصة بمنظمات الأسر، وأخرى الموازية لمؤتمرات التنظيم الخارجية، ويتم التعامل معها بنفس الجدية والسرية القائمة أثناء الاعتقال ويساهم في تعزيز بنى المقاومة خارج الأسر.
وبالتالي الروح الجماعية في خضم الصراع دفع الأسرى لخلق مجتمع خاص يساهم في الحفاظ على الذات وعلى الهوية، وفيه الحياة التنظيمية هي إحدى الأسس والرموز التي عليها بنيت هذه الهوية الجمعية الوطنية، وفي مركز الحياة التنظيمية كجماعة كانت المؤسسات الاعتقالية؛ رمزًا للهوية الوطنية، بغض النظر على التوجهات الفكرية والسياسية للأسرى؛ طالما أن الارتباط والانتماء الأوسع والأشمل هي قضية النضال من أجل تحرير الوطن.
أما في المسار الثاني، فإن بناء كادر مؤدلج من الأسرى ما كان له أن يستقيم دون برنامج تثقيفي قائم على فهمنا أن الهوية هي صياغة رؤية الذات تجاه الآخر، فإن الصراع مع إدارة السجون، والمستند للبنية التنظيمية وآليات التثقيف، يخلق حالة من النضال نحو تأكيد الذات، وبالتالي تأكيد للهوية.
والذات هي الذات الجمعية للحركة الأسيرة. وعليه، فإن البرنامج التثقيفي كان قائمًا على موضوعات التثقيف، من زاوية علاقتها بالهوية، وما يعنيه بالضرورة الوقوف على مفردات/ رموز التعبئة السياسية/ العقائدية، سواء المؤسطرة أو الحقيقية، والتي تلعب دورًا بارزًا في بناء رؤية اعتقاليه وطنية هي بلا شك جزء من الرؤية الوطنية ككل، وبالتالي الهوية الوطنية.
وفي تماسٍ مباشر مع الجهد الثقافي والوطني الذي بُذل وما زال في الأسر ويصب كما سنرى في تعزيز الهوية الوطنية للمعتقلين، عندما يتفكر الأسرى في أهداف العدو لنفي الآخر الفلسطيني، ينتصب أمامهم أهمية البرنامج التثقيفي والدور الذي يلعبه، في عملية مقاومة هذا النفي نحو إثبات الوجود، وإحدى عمليات النفي لإدارة السجون، هي ايصال المعتقل حالة من الندم لما قام به من أعمال مقاومة كما ذكرنا سابقًا، وتلبسه لحالة من الخنوع والخضوع لواقع الحال للعدو كحالة أقوى وغير ممكن مقاومتها، إلا أن الأسرى عبر تثقيف ذاتهم يزدادون معرفة وقناعة بقضيتهم ولماذا يقاتلون، وكيف يواجهون محاولات نفيهم، وهنا يرى الأسرى أن النضال على الجبهة الثقافية هو ليس واجب، بل ضرورة ومستحق لأجل خلق واقع أفضل وآليات مقاومة وصمود في الأسر؛ لذا ناضل الأسرى طويلًا من أجل الحصول على الكتب والمواد الدراسية والقرطاسية، كونهم يوقنون بأن جبهة الثقافة كانت بالنسبة لهم بنفس أهمية النضال، لذلك سموها "جبهة الثقافة"، وخاضوا من أجلها الإضرابات والتحديات المختلفة. وضمن صياغة رؤية ثقافية للذات مقابل الآخر؛ يمكننا تتبع رموز أساسية: تاريخ فلسطين، علاقتنا بالنكبة، 67 /والمقاومة، والاعتراف بمنظمة التحرير - أعطى دفعة للحركة الأسيرة لبلورة وتنظيمها ذاتها - والارتباط بالعمق العربي، الشهداء ومعاني الاستشهاد؛ كلها تشكل مضامين وتعريفات للهوية الوطنية.
وأما المسار الثالث؛ فكان الصراع باعتبار لا هوية بلا صراع، وأن بروز الهوية مرتبط تاريخيًا بتصاعد الصراع ذات طابع الإلغاء، بمعنى الوجود الإنساني والجمعي.
وفي هذا الصدد شكلت الإضرابات تحديًا واضحًا لسياسة الاحتلال، فيما تراكمت نتائجها والانتصارات التي حققها الأسرى، ليس فقط على صعيد تحسين الظروف الاعتقالية المعيشية، ولكن على مستوى فرض الشخصية الوطنية للحركة الأسيرة في مواجهة إدارات السجون، هذه الشخصية التي تمثلت في حق فرض الحياة الداخلية للأسرى وفق ترتيبهم التنظيمي والوطني، ورضوخ إدارة السجون للتعامل مع الأسرى؛ عبر ممثليهم، والتي سميت لجنة الحوار ويرأسها ممثل معتقل، هي علاقة قوة وندية في معركة الصراع مع الاحتلال، رغم أن من يمتلك مفتاح السجن هو الاحتلال، وكل ذلك إنما يُعد؛ مكونًا هامًا من مكونات الهوية الوطنية للأسرى.
كانت الإضرابات وما زالت معركة سياسية وطنية بامتياز وهي صراع مباشر ومفتوح مع الاحتلال وهو الشكل الاكثر حدة ومواجهة في أقسى الظروف المعادية؛ حركة أسيرة – هوية وطنية موحده جمعية في مواجهة الاحتلال.
وإن كان الصراع هو المدخل الأبرز لبلورة الهوية الوطنية، فإن هذا الصراع لدى الحركة الأسيرة إنما تجسد في أكثر آلياته وضوحًا (الإضراب عن الطعام).
أخيرًا، إن الشعور بالهوية الوطنية/القومية الواحدة والجامعة، ليس فقط له من الدلالات والرموز واللغة والتاريخ المشترك، ولكن يتجلى أكثر ويظهر في ظل احتدام الصراع، حيث يشكل التهديد الخارجي والاستعماري خطرًا على بقاء وتماسك المجموعة وعلى مصالحها المشتركة، وبالتالي تصبح العناصر المشتركة السالفة الذكر من الأهمية بمكان لتعزيز صمود وبقاء الجماعة الوطنية في وجه التهديد المفروض عليها، ويصبح التأكيد المستمر عبر الممارسة اليومية مسألة أساسية وضرورية تمارسها الجماعة في مواجهة هذا الصراع المفروض؛ لذا، فإن الإرهاصات لخلق الجماعة الفلسطينية ومجتمعها المقاوم قائمة، ولكن الصراع مع المشروع الصهيوني الاحتلالي عزز هذه الهوية الجمعية لمواجهة القوة المقابلة.
وقد لعب الأسرى دورًا أساسيًا في تعزيز الهوية الوطنية الجامعة، وكانوا يشكلون هذا المجتمع المتخيل ذو الرؤية الوطنية الموحدة.
لقد شكل الصراع مع الاحتلال عبر إدارة السجون وما تحمله من سياسات قامعة للأسير كفلسطيني مقاوم ويشكل النقيض لها؛ محورًا مركزيًا في تطور رؤية الذات الجمعية للهوية الفلسطينية لدى الأسرى وشكلت المواجهة اليومية المستمرة في مقاومة سياسات القمع العمود الفقري لبناء المجتمع الأسير المقاوم كرديف للمجتمع الفلسطيني المقاوم خارج الأسر في فلسطين المحتلة.
وعليه، لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاوز تجربة الحركة الوطنية الأسيرة في سجون الاحتلال، كمكون مركزي وأساسي في بناء واستمرار بناء الهوية الوطنية الفلسطينية، وكمكون كثف عبر الممارسة اليومية معاني الهوية الوطنية بكل الرموز والدلالات الممكنة من تاريخ/ شهداء/مؤسسة اعتقاليه/ صراع/ مقاومة/ رؤية الاستعمار/ استحضار النضال.