في العدوان الأخير على غزة، تم تصدير مساهمة القبة الحديدية في الجهد العسكري الصهيوني على نطاق واسع أكثر حتى من فخر سلاح الجو الصهيوني الجديد، أي طائرات الأف 35 الجديدة، هذا المقال، يلاحق أسطورة القبة الحديدية، وما وراء الصور المتداولة حول كفاءتها السحرية المثقوبة تماما، كما تم ثقب سماء تل أبيب، بصواريخ المقاومة التي ربما تكلف الرشقة الكاملة منها أقل من صاروخ اعتراضي واحد من صواريخ القبة.
يصور المسؤولون الصهاينة نظام الدفاع ضد المقذوفات الصاروخية المعروف باسم "القبة الحديدية" على أنه درع شبه معصوم ضد صواريخ المقاومة الفلسطينية، ولكن يبدو هذا الدرع مثيرا للسخرية إذا كان سقفه هو صواريخ غزة المصنعة محليا بأضعف الإمكانيات والتي تفتقر غالبا إلى أي نظام توجيه، هل هذا يعني أن هذا الدرع ستختفي فاعليته السحرية المزعومة إذا ارتفع سقف الصواريخ التقني، أم أنه سيرفع من مستواه، وهذا يعني أنه ليس سحريا الآن أصلا، في الحقيقة لا يوجد أي شخص من الكيان الصهيوني، سواء العسكريين أو قسم التجارة في وزارة الحرب، أو في البنتتاغون وخصوصا في البيت الأبيض الذي صرح رئيسه (بايدن) بأنه ينوي تقديم دعم تجديدي كامل للنظام، ويواصل هؤلاء المسؤولون الهراء المعتاد حول النجاح الأسطوري للقبة، وهو أمر على كل حال لايوافق عليه المستوطنون في سديروت وعسقلان ولا حتى في شارع هرتزل في تل أبيب وكذا رامات غان على سبيل المثال لا الحصر.
في المعركة الأخيرة، التي أطلقتها المقاومة، كمبادرة تاريخية ضد المحتل الصهيوني، زعم المعلقون الصهاينة وأنصارهم، أن التفاوت في التدمير وعدد القتلى الصهاينة المنخفض مقارنة بالشهداء في غزة، مرده إلى فاعلية القبة الحديدية، وقد استشهد هؤلاء المعلقون بتصريحات مسؤول صهيوني بأن نسبة نجاح النظام تصل بين 90% و95%، وأمام الاختراقات العديدة خلال 11 يوم قال مسؤول آخر "مرت بضعة صواريخ، لكن لم يقل أحد قط أنها مقاومة للفشل بنسبة 100 في المائة"..
طالما عززت "إسرائيل" وداعميها من المزاعم حول كفاءة القبة الحديدية، طوال سنوات ولكن رغم ذلك لايمكنك العثور على أدلة حقيقية ماعدا التصريحات الجوفاء التي تكرر أسطورة النجاح، ليبدو هذا النظام مجرد مظهر آخر من الفخر الصهيوني الأجوف بجودة صناعة السلاح الابتكاري، وهو فخر يراد منه التأكيد بأن قدرتهم على صناعة أفضل أنواع الأسلحة يتركهم معزولين عن عواقب قمعهم للفلسطينيين، باعتبار أنهم ذلك النوع من الاحتلال الذي لايمكن لمسه، ولكن الفيلم الشهير عن رجل المافيا الذي يحمل نفس الاسم، (لايمكن لمسه) كما يعلم محبي السينما، بين أنه من الممكن لمسه وإخضاعه أيضا.
كان النشر الأول للقبة الحديدية قد تم عام 2011، وتم تطويرها بالشراكة بين الجيش وعملاقي السلاح الصهيونيين رافائيل وصناعة الطيران المتقدمة، وقامت الولايات المتحدة الأمريكية بتمويل النظام، حيث أصبحت شركة رايثون شريكا في الإنتاج اعتبارا من 2014، وهذا النظام دخل الخدمة الفعلية واكتسب شهرته العالمية خلال عدواني 2012 و2014.
استغل المسؤولون الصهاينة الضعف النسبي لصواريخ المقاومة آنذاك للإدعاء مرارًا وتكرارًا أن القبة الحديدية نجحت بنسبة تصل إلى 90 بالمائة في اعتراض صواريخ غزة هذه المزاعم التي رددها العديد أيضا من المسؤولين الأجانب والنقاد والصحفيين من أنصار الكيان الصهيوني وقبلوها بدون انتقاد، بقيت أيضا فارغة من المعنى ولكنها خدمت في معركة "الهسبارا" الصهيونية بتقديم الكيان باعتباره أحد أهم المبتكرين في مجال التقنيات الأمن-عسكرية في العالم.
ولكن رغم كل البروباغاندا، التي تم نشرها حول العالم، لأغراض الفخر العسكري الصهيوني، والتجارة العسكرية، وبيع النظام، بدأت الشكوك أيضا تتصاعد منذ 2011، وقد تساءل عدد من العلماء العسكريين وخبراء السلاح عن صحة المعدل المزعوم لنجاح القبة الحديدية، ومن ضمن هؤلاء خبراء شاركوا بالإشراف على برامج اختبار السلاح الأمريكي، في البنتاغون، وكذلك من ضمنهم خبراء صهاينة وهؤلاء جميعا شككوا في نجاح النظام وإن كانوا تقريبا يغردون خارج السرب الكبير لأنصار الدعاية الصهيونية.
أبرز المشككين أيضا ثيودور بوستول من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ،وهو معروف بصفته أحد أبرز مبددي مصداقية منظومة الباتريوت خلال حرب 19991 في الخليج، وقد تراجع عن تأييده السابق للقبة الحديدية بعد أن حلل مقاطع فيديو لصواريخ القبة الحديدية بين عامي 2012 و 2014 ، قال إن معدلات اعتراض الدرع لم تكن حتى قريبة من 90 في المائة وقد تنخفض وصولا إلى الصفر. ورأى بوستول أن انخفاض الإصابات في الجانب الصهيوني مرده إلى نظام الإنذار والملاجئ وليس القبة الحديدية, من جانبه يعتبر نورمان فنكلستاين أيضا أحد أبرز المنددين بالكيان وخبراء دعايته، سخر من المبالغة في قوة القبة الحديدية مقارنة بصواريخ غزة آنذاك التي اعتبرها "صواريخ أفضل وصف لها بأنها الألعاب النارية المحسنة." وجادل فنكلستين بأن القبة الحديدية "ربما لم تنقذ الكثيرين وربما لا تنقذ أي أرواح."
طبعا من المعروف أن كفاءة وجودة والقدرة التدميرية لصواريخ المقاومة تحسنت كثيرا منذ 2014، وهو أمر فاجأ الصهاينة وجهازهم الأمني بشكل صاعق، بل يجادل بعض الصهاينة بأن صواريخ المقاومة تتميز بنوع من التوجيه، مكنها من مراوغة القبة، وهي الآن تستطيع السفر لمسافات أبعد بكثير وتحمل رؤوسا متفجرة أقوى، ويمكن للمقاومة إطلاقها برشقات سريعة متتالية مما يدخل القبة الحديدة في حالة مما يمكن أن أسميه بحالة الشلل الرعاشي، التي تصيبها.
وكما أراد الصهاينة إثارة دهشة العالم بانجازهم التقني، فإن تكاليفه مثيرة للدهشة أيضا، حيث تبلغ تكلفة الصاروخ الاعتراضي، حوالي 50000 دولار أمريكي، بينما تبلغ تكلفة كل بطارية تطلق هذه الصواريخ الاعتراضية حوالي 50 مليون دولار، ولدينا على الأقل أرقام مؤكدة تعود إلى 2012 حيث تراوحت بعض التقديرات حول تكلفة النظام ما بين 25 إلى 30 مليون دولار تحمل دافع الضرائب الأمريكي معظمها، كما سيفعل الآن بموجب تعهد بايدن الأخير.
اعتقد الصهاينة والأمريكان أنه وباعتبار القبة الحديدية منتجا دفاعيا، لن يكون هناك عوائق بيروقراطية أمنية أمام بيعها وبالتالي سيتم تسويقها بسهولة حول العالم واسترداد التكاليف، وبالفعل قامت بعض الدول بعقد صفقاتها لأجل شراء مكونات هذا النظام، ولكن الغالبية العظمى لم تكمل مشوار التعاقد، وحسب ما يتوافر من معلومات فإن البلد الوحيد الذي مضى قدما في دمج القبة الحديدية مع نظام أسلحته هو الولايات المتحدة، أي الممول الرئيسي للنظام، ولكن لدينا أيضا تقارير تفيد بأن الولايات المتحدة لديها خطط أخرى منفصلة عن القبة الحديدية ابتداء من العام الجاري.
ومن الواضح أن استنكاف الدول عن اتمام تعاقداتها مرده ارتفاع الأصوات المشككة بكفاءة القبة الحديدية، حيث تشير التقارير إلى أن قدرة القبة الحديدية لاتزال موضع خلاف كبير في أحسن الأحوال، وهناك تباين كبير في آراء الخبراء، وهي مكلفة للغاية أيضا، وأشار البعض إلى محدودية قدرتها بل انعدامها أيضا، وردا على هذه الشكوك لم تقدم الدولة الصهيونية أي دليل موثوق به على القدرات التقنية للقبة الحديدية. وبالتتالي كان منطقيا ألا تقوم القبة الحديدية بالمأمول منها كسلعة للتصدير، ولم يتم ترجمة الدعاية الموسعة إلى أرقام مبيعات على الإطلاق.
رغم ذلك يواصل الصهاينة وأنصارهم الزعم بأن القبة الحديدية يمكن أن تكون أشهر "اختراع إسرائيلي" على الإطلاق، وفي ضوء الفشل العسكري والتجاري يبدو هذا الإصرار مبالغا به وغريبا أيضا ويدفع للتساؤل حوله.
لايمكن إيجاد جواب في المجال الأمني-العسكري، ولكن فقط في المجال السياسي والهسبارا الصهيونية، يمكننا أن نفهم سر هذا الإصرار، لأن القبة الحديدة تخدم غايات سياسية أكثر منها عسكرية، إنها تقوم أيضا بإدارة وضبط قلق السكان داخل الكيان وخوفهم من صواريخ المقاومة، وتعيد انتاج هذا القلق حسب ما يتطلبه النظام الصهيوني أيضا، ولطالما كان التخويف ورعب الوجود سلاحا للكيان الصهيوني، لتبرير وحشد تماسكه الداخلي وتماسك جبهته الداخلية.
ولعل هذا ما يفسر ما شهدته مواقع التواصل الاجتماعي الصهيونية في العدوان الأخير على غزة، من مشاركة واسعة النطاق لصور القبة الحديدية وحتى تعبيرات عن الحب لها، وتصديرها كـ " النظام جمالي للهيمنة الاستيطانية الاستيطانية الإسرائيلية تمكّن المشاهدين ، الأجانب والإسرائيليين على حد سواء ، من الاستمتاع بها كتقنية "منقذة للحياة" .
في الواقع نشر أخبار القبة االحديدية على نطاق واسع مرتبط أيضا بأنها سلاح "دفاعي" ما يعزز صورة الكيان الصهيوني بأنه يدافع عن نفسه، بينما لايعطى اهتمام كبير للمقاتلات التي تواصل قصف غزة إلا بقدر ما تحدثه من دمار، نجد بؤرة التركيز معكوسة الاتجاه في الحالتين، فبينما يتم تسليط الضوء على الآثار المدمرة لقصف الطائرات على أرض غزة، لدرجة البث المباشر لتدمير الأبراج، في تواطؤ سخيف بين القاصف وكاميرا الإعلام نجد أن التركيز في حالة القبة يأتي على السلاح نفسه دون آثاره باعتباره سلاحا دفاعيا لدرجة الحديث عن الآثار المرضية التي تصيب العاملين على البطاريات، الذين يعتبرون في النهاية "كمدافعين" و"ضحايا" لصواريخ غزة "الهجومية".
القبة الحديدية تمكن أيضا الكيان الصهيوني من مواصلة الزعم بقدرتها التكنولوجية في مواجهة "خطر عمومي" مثل المقاومات غير النظامية وأسلحتها "الغبية" والنجاح التكنولوجي في ظل بطئ عملية سياسية يعطي السكان الصهاينة إحساسا زائفا بالأمن دون الحاجة إلى مسار سياسي مع الفلسطينيين، الذين يبقون غير مرئيين بالنسبة للمستوطن في غوش دان، إلا بقدر ما يتمكن الصاروخ من اختراق القبة، ولكن الأمر تغير تماما خلال أيار، فالفلسطيني المموه بأكثر من سبعين عاما من ضغط الأسرلة والعقب الحديدية لرقابة الشاباك، صار هو الصاروخ وصار مرئيا تماما للمستوطن الصهيوني، ولكن طبعا هذا حديث آخر، فالصاروخ نفسه حط رحاله في تل أبيب وريشون ليتسيون وهرتسليا وابعد، أيضا يرتبط موضوع القبة بالمساعدات الأمريكية المتنامية للكيان وترسيخها حيث كما سبقت الإشارة في أيار/ 21 مايو ، أشاد الرئيس الأمريكي جو بايدن بالقبة الحديدية لأنها "أنقذت حياة عدد لا يحصى من المواطنين الإسرائيليين ، من العرب واليهود ". ثم تعهد بايدن بـ "دعمه الكامل لتجديد نظام القبة الحديدية الإسرائيلية لضمان دفاعاتها وأمنها في المستقبل".
لذلك يجب أن نرى إنتاج "قصة نجاح" القبة الحديدية في سياق أوسع من مجرد الدور العسكري الذي تقوم به نجاحه وفشله، بل بصفته يلعب دورا رئيسشيا على مسرح الهسبارا الصهيونية وعلاقلاتها بأمريكا والغرب عموما.