ثلاثة وسبعون عاماً على النكبة؛ الحدث الذي بمقتضاه هُجِّر مئات الآلاف من الفلسطينيين من قراهم ومدنهم، ودُفع معظمهم خارج فلسطين، وأعلنت قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين العربية باعتراف القوى الكبرى في العالم.
إنشاء دولة إسرائيل كان الحل الذي توافقت عليه الصهيونية مع الإمبريالية الغربية لحل المسألة اليهودية في أوروبا، هذا الحل ما كان له أن يرى النور لو لم يكن صفقة رابحة لكلا الطرفين؛ فحقق للصهيونية حلم الوطن القومي لليهود، وللغرب إنشاء قاعدة متقدمة تحمي مصالحه وتعرقل تطور تيارات التحرر والحداثة العربية لتشكل مجالاً عربياً متقدماً. إن أداء إسرائيل لهذا الدور هو شرط وجودها، وهي لن تتمكن من أن تلعبه لو كانت دولة طبيعية في المنطقة، يمكن أن تشارك في تكامل دولها، بل يجب أن تكون طرفاً معطلاً لهذا التكامل.
إسرائيل الدور مشترط بصهيونيتها، أي أن تبقى عنصراً غريباً في المنطقة، وهذا يعني بالضرورة أن تكون دولة عنصرية تجاه الفلسطينيين المتمسكين بأرضهم وبانتمائهم العربي. لا يمكن أن تقبل بمنحهم حقوقاً وطنية كاملة في الضفة وغزة، ولا تسمح بتمتع فلسطينيي 48 بكامل حقوقهم المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.
من ما سبق يمكن أن نفهم لماذا لم يتوقف حدث النكبة عند تأسيس دولة إسرائيل؛ فالنكبة أكبر من حدثها، هي عملية متجاوزة لزمانه ومكانه؛ تعمل باستمرار على نفي الفلسطيني، بالمعنى السياسي والثقافي والوجودي؛ تطارده أينما وجد، بأساليب وأدوات مختلفة؛ خشنة وناعمة؛ عبر إسرائيل نفسها أو من خلال وسطاء. إن فعل النكبة هو استكمال لحدث النكبة؛ ففكرة إسرائيل المزعومة كوطن قومي ليهود العالم على أرض فلسطين؛ تبقى مهددة بالوجود الفلسطيني المادي والمعنوي، سواء على أرض فلسطين أو خارجها.
فما بدأ بتهجير قسري للفلسطينيين عام 48، وإعلان سيادة دولة صهيونية على أرضهم؛ تواصل في الداخل المحتل بسياسة تهويد مستمرة، ومحاولة محو أثر السكان الأصليين الذين أُخرجوا، ومحاصرة من بقي منهم اقتصادياً وسياسياً، ومحاربة مكونات هويتهم الوطنية فيما عرف بسياسة "الأسرلة".
كما لاحق فعل النكبة الفلسطينيين في ملاجئهم؛ فواجهوا مستويات مختلفة من القمع والتضييق، حتى أن مجرد الإفصاح عن الهوية الفلسطينية كان مشكلة بالنسبة لبعضهم، وأُبقي كثير منهم في مخيمات بائسة يسعون بصعوبة لتأمين أدنى متطلبات الحياة الكريمة. ومع مرور السنوات كان فعل النكبة يتطور ويتخذ أشكالاً جديدة، وتمكن من اختراق الوعي الفلسطيني نفسه؛ مستنداً إلى واقع موضوعي قهري فرضته وتفرضه إسرائيل وداعميها الدوليين، والنظام الرسمي العربي المتواطئ والتابع، هذا الاختراق أنتج الفلسطيني النافي لنفسه ولحق شعبه، ولو بشكل جزئي وغير واعي؛ الفلسطيني المتماهي مع الواقع الذي أنتجته وتنتجه "النكبة-الفعل" على الأرض؛ فقبِل بدولة على الجزء الباقي من أرضه وأقر بأن ما اُغتصب عام 1948 أصبح دولة شرعية اسمها إسرائيل؛ ضارباً الرواية الفلسطينية بمقتل، وهو الفلسطيني الذي وقف ضد مقاومة شعبه لفعل النكبة أو عمل على إحباطها وتواطأ مع المتآمرين عليها.
في خضم العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة؛ أيار/مايو 2021، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو: إن اعتقاد حماس بأنها انتصرت في الحرب هزيمة لإسرائيل وللغرب بأسره، هذا القول وإن صدر عن شخص ليس الصدق من أبرز شيمه حتى في نظر كثير من الإسرائيليين، إلا أنه هنا بالذات كان محقاً؛ فهزيمة إسرائيل هزيمة للإمبريالية الغربية، وهذا يعيدنا إلى توصيف "القاعدة الغربية المتقدمة" المحق والموضوعي، والذي عملت السياسة الدولية باستمرار على تغييبه عن وعي الناس، وتماهت معها السياسة الرسمية العربية والفلسطينية في ذلك بالتدريج بعد هزيمة 1967. وبالتالي روّجت لخرافة أن إسرائيل الصهيونية يمكن أن تصبح دولة طبيعية في المنطقة؛ تندمج بعلاقات بناءة مع باقي الدول العربية، وهذا الترويج هو امتداد لنكبة الشعب الفلسطيني، إنه جزء من النكبة-الفعل المستمر، لتمكين الكيان الصهيوني من أداء دوره الوظيفي.
على الجهة المقابلة؛ أنتجت النكبة فعلاً فلسطينياً مضاداً ومعاكساً له في الاتجاه، ومقاوماً لمفاعيله، فإن كانت النكبة حدثاً وفعلاً هي نفي للفلسطيني؛ فمقاومته لها كانت نفي للنكبة نفسها. وقد عبرت تلك المقاومة عن نفسها بصور عدة؛ أبرزها تشبث الفلسطينيين أينما وجدوا بهويتهم وتراثهم، ووقوفهم في الداخل المحتل في وجه محاولات الاستيلاء والمصادرة والتهويد و"الأسرلة"، كذلك كانت بانطلاق فصائل الثورة الفلسطينية المعاصرة، وممارسة الكفاح المسلح المنظم.
كان الصراع طوال تاريخه عبارة عن أفعال منظمة ومؤسسية لنفي وجود الشعب الفلسطيني المادي والمعنوي، كان أهمها نكبة 1948، واحتلال 1967 وضرب المقاومة في الأردن ثم اجتياح بيروت 1982، ومسار مدريد-أوسلو ونتائجه، وحصار غزة وتقويض مقومات الحياة فيها، والاستيطان في الضفة، وتهويد القدس ، والعنصرية ضد فلسطينيي 48 وغيرها. وكانت تلك الأفعال تقابلها على الدوام ردود فعل عفوية ومنظمة من قبل الشعب الفلسطيني، لمقاومة النفي، والبقاء، والذي هو في حد ذاته نفي للنافي، أي للصهيونية ودولتها.
إن ما تحقق أخيراً في غزة؛ من صمود مذهل وضرب لهيبة الكيان ولأسطورة جيشه، وانتفاضة أهل القدس في وجه التهويد، وفلسطينيي 48 ضد التمييز و"الأسرلة"، وأهل الضفة الغربية ضد الاحتلال والاستيطان، وتضامن كل هؤلاء الفلسطينيين المنتفضين والمقاومين داخل فلسطين التاريخية مع قضايا بعضهم وربطها بقضاياهم، كذلك استعادة مكانة قضية فلسطين لدى الشعوب العربية التي راهن المنهزمون على أنها ضربت للأبد، وحالة التضامن الشعبي الدولي غير المسبوقة في تاريخ القضية؛ كل ذلك هو فعل مقاوم للنكبة وفعلها، ونفي لنفيها.