عقدت ندوة الشهيد غسان كنفاني، التي تنظمها "بوابة الهدف الإخباريّة" بصورةٍ دوريّةٍ، لقاءً جديدًا حمل عنوان "المثقف الفلسطيني بين الولاء للسياسي والحضور الوطني"، حيث ركّز اللقاء الذي جاء بالتزامن مع ذكرى استشهاد الأمين العام للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين أبو علي مصطفى ، وأيضًا ذكرى استشهاد رسّام الكاريكاتير الفلسطيني الشهير ناجي العلي، على المزاوجة ما بين الثقافة والعمل السياسي، والتحوّلات التي طرأت على مفهوم الثقافة والمثقّف الفلسطيني وأسباب التراجع الكبير في دور النخب الثقافيّة.
واستضافت الندوة التي عُقدت عبر برنامج "الزووم" امتثالاً لشروط السلامة والوقاية في ظلّ تفشّي جائحة "كورونا"، عضو اللجنة المركزيّة للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين نضال عبد العال من لبنان، والكاتب والمُحاضر الجامعي وسام رفيدي من البيرة، والقيادي في الجبهة الشعبيّة ماهر حرب من نابلس، فيما أدار الندوة الصحفي أحمد بدير.
وفي بداية حديثه، رأى الكاتب رفيدي أنّ "الأهم من تعريف المثقّف، هو أين يقف هذا المثقّف؟، وعن أي مثقّف نتحدّث؟ نتحدّث عن مثقّف السلطة أم المشتبك أم المرتزق أم "السحيج" أم المتمرّد؟"، لافتًا إلى أنّه "من الصعب وضع مثقّف التحق بجهاز السلطة وأصبح يتقاضى منها راتبًا في مقارنة مع غسّان كنفاني مثلاً، أو باسل الأعرج على سبيل المثال، ومن هنا نستطيع القول أنّ المثقّف نتاج مرحلة، وليس من الغريب أن مرحلة انطلاق الثورة الفلسطينيّة المُعاصرة رفدت الشعب الفلسطيني بكميّة رائعة جدًا من المثقفين".
وبيّن رفيدي أنّ "دور منظّمة التحرير انتهى ولم يتراجع فحسب، وهذا ليس برغبة ذاتيّة بل من واقع معرفتنا بمنظمة التحرير حاليًا، حيث انتهت هذه المنظّمة كمؤسّسات وكبرنامج سياسي كفاحي مقاوم وكقيادات أيضًا، وهذا تعبير عن المرحلة التي نعاها اتفاق أوسلو وأدخلنا في دهاليز كثيرة ليصبح لدينا نوعين من المثقفين: الأوّل مثقفي السلطة ومرحلة الانهيار والأن جي أوز والتمويل الغربي وهم الأغلبيّة اليوم بالمُناسبة، وهناك المثقّف المشتبك المتمرّد الذي قد يدفع حياته ثمنًا للكلمة التي يكتبها وهم قلّة اليوم لأنّ ثمن موقفهم الثوري يكلّفهم غاليًا".
وتابع رفيدي: "الهيمنة اليوم في الساحة الثقافيّة هي للمثقّف المرتزق والسلطوي والمتأمرك والمطبّع، أمّا الصوت القليل والنادر والمسموع أيضًا بالمُناسبة في أوساط الشباب والشعب ولا تنقصنا الادلّة لنعرف كم تأثير هذا المثقف المشتبك على الشعب، فمثلاً المثقّف الشهيد باسل الأعرج لم يؤلّف كتبًا ولم يكن مثقفًا بالمفهوم الكلاسيكي، لكنّه المثقّف في مفهوم غرامشي صاحب الرؤية، ولذلك باسل يحظى اليوم على ثقة هائلة جدًا جدًا في الشارع، وأيضًا نزار بنات الذي قتلته عتلات السلطة لم يكن مثقفًا كلاسيكيًا بل حرّض وعبّأ الشارع من خلال مقاطع فيديو ويلعب اليوم دورًا هامًا في تعبئة جيلٍ بأكمله".
ولفت رفيدي إلى أهمية "عمل دراسة جديّة حول أنّ هؤلاء النموذجين -باسل ونزار- قد خرجا من الأوساط الشبابيّة ومن خارج التنظيمات بالمعنى الرسمي الكلاسيكي للانتماء الحزبي والتنظيمي واتخذا نهجًا ثوريًا حقيقيًا، لذلك من المهم عمل دراسة لرؤية العلاقة ما بين مفهوم الشباب اليوم وعلاقته بالمنظمة والفصائل والفكر السياسي والعمل السياسي في فلسطين، لأنّه من الواضح أنّ هناك عزوفًا لدى الشباب عن العمل السياسي الحزبي، في المقابل هناك إقبال كبير على اتخاذ موقف نقدي جذري من عموم الخطاب السياسي الفلسطيني جسّده بشكلٍ حقيقي كلاً من الشهيد باسل الأعرج ونزار بنات".
وبشأن التحولات، استذكر رفيدي مقولةً للحكيم المؤسّس للجبهة الشعبيّة جورج حبش ، قائلاً: "قال الحكيم يومًا أنّ الجبهة الشعبيّة كانت معبرًا للمثقفين وليس مستقر، وفعلاً الكثير من المثقفين لم يستقروا مع الجبهة الشعبيّة وخرجوا منها، والسؤال كان دائمًا لماذا؟، وطبعًا وجهة النظر السهلة جدًا والكلاسيكيّة جدًا والبائسة جدًا كانت تقول أنّ هؤلاء مثقّفين فرديين ولا يتحملون الانضباط لذلك يخرجون من الجبهة، أي المشكلة لديهم وليس العكس، لكنّ أؤكّد أنّ وجهة النظر الحقيقيّة يجب أن تقول هل تربيتنا وبنيتنا وبرنامجنا وتوجهاتنا احتملت النزعة النقديّة؟، المثقّف بدون نزعة نقديّة هو عبارة عن صفر ولا شيء، وبالمُناسبة لا يوجد مشكلة على الاطلاق ما بين الانتماء الحزبي للمثقّف بالمفهوم الضيّق للانتماء الحزبي وبين أن يتمتّع بروحٍ نقديّةٍ تجاه سياسات الحزب طالما المسألة الأساسيّة تكون على قاعدة الالتزام بالبرنامج ونضال ورؤية الحزب، وللأسف لم تكن فصائل اليسار إجمالاً والجبهة الشعبيّة قادرة على تحمّل النقد".
وبشأن المثقّف والعمل التنظيمي، شدّد نضال عبد العال، على أنّ "غرامشي هو خير من عرّف المثقّف صاحب القضية الذي ليس بالضرورة أن يكون مؤلفًا للكتب والدراسات بالمعنى التقليدي، لكنّه يُمارس دورًا استنهاضيًا ثوريًا حقيقيًا وجزء من قضيّة إنسانيّة كبيرة"، مُؤكدًا أنّ "الثورة الفلسطينيّة حملها المثقّفون، وشكّلت فضاءًا لخلق العديد من المثقفين وأغنت الثقافة العالميّة والعربيّة في كل مجالات الإبداع، لهذا لا يمكن الحديث عن المثقّف دون قضية وانتماء حقيقي لقضايا الناس والمجتمع".
وأشار إلى أنّ "المثقّف أكبر من الانتماء التنظيمي، ولا يمكن قوقعته وقولبته ضمن مرتبة أو هيئة حزبيّة، لأنّه في هذه الحالة نخلق موظفًا وليس مثقفًا، أي أنّ الموظّف هو مقتلة للمثقّف، والوظيفة هنا ليس المقصود بها المعنى المهنى والراتب، بل نعني تحديد دور المثقّف وحضوره بمعنى فرد مسطّح له دور محدّد وفق رؤية السلطة سواء حزبيّة أو غير حزبيّة"، مُؤكدًا أنّ "تسطيح المثقّف وتحويله إلى رقم وصوت مدّاح وثنّاء هذا مقتله له، لكن يجب إطلاق المثقّف بشكلٍ واضح وصريح وجاد يأخذ دوره كمثقّف عضوي ومشتبك بكل المعاني، لذلك غسّان كنفاني كان يختلف مع قيادة الجبهة الشعبيّة ويكتب موقفه الواضح في مجلة الهدف رغم أنّه عضو مكتب سياسي، ولهذا مواقفه وآرائه تعيش إلى يومنا هذا ونشعر أنّه يُحاكي قضايا اليوم من خلال قدرته الاستشرافيّة لأنّه مثقّف عضوي شامل".
ورأى عبد العال أنّ "الأحزاب أصبحت طاردة للمثقّفين، وأصبح المثقّف تابعًا للسلطة والهيئة السياسيّة، ولذلك تفرّغت الهيئات من المثقفين اللامعين الكبار وأصبح الموقف السياسي للأسف الشديد خفيف وسطحي جدًا ويتبدًل ويتغيّر يوميًا،"، مُشددًا على أنّ "المقتل الأساسي للقضيّة الفلسطينيّة وبدأت تفقد حضورها ووزنها عندما بدأت تخسر المثقفيّن، إمّا استشهدوا أو قتلوا أو طردوا من هيئات الثورة بحجج واتهامات مختلفة، وللأسف نعيش زمن المثقّف الذي يثني دائمًا على رأي القيادة وصوابيّتها، وهذا دور الموظّف وليس المثقّف الحقيقي".
وأكَّد عبد العال أنّ "الانحدار الذي أصاب القضية الفلسطينيّة من خلال أوسلو ناتج عن تدمير فكرة المثقّف العضوي الثوري بحيث لا يكون صانعًا للقرار، وبعد ذلك تهميشه ومنعه من نقد القرار والموقف السياسي للثورة الفلسطينيّة، وهذا التدمير كان ممنهجًا، وأوسلو هي إعادة صياغة لكل النظام السياسي الفلسطيني من خلال خلق طبقة سياسيّة ممتدة داخل كل الأحزاب الفلسطينيّة وليس فقط في حركة فتح، لذلك يُقال أحيانًا لم يعد هناك فرقًا ما بين اليمين واليسار لأنّ الفرق يصبح أحيانًا صوتيًا فقط، أي هاجم أوسلو واختلف مع فتح ولكن من غير المسموح لك ممارسة دور جدّي لتغيير المنهج وإدارة الصراع بشكلٍ مختلف وبمنهجٍ مختلف، والمثقّف الفلسطيني الآن رهينة لهذه الطبقة السياسيّة وهذا هو الهامش المتاح له، واليوم المثقّف اليساري لا يُحارب من فتح بل من اليسار نفسه".
أمّا القيادي ماهر حرب، فقد بيّن أنّ "الإنسان هو ابن بيئته، والزلزال الذي حدث في فلسطين عام 1948 أنتج أهرامات ومثقّفين وحالة وطنيّة كبيرة جدًا في الحالة الفلسطينيّة، وبعد هزيمة 1967 كان هناك عنفوان الرد على الهزيمة وأنتج مثقّفين وطنيين ثوريين فلسطينيين بمستوى الحالة، وبعد عدوان 1982 شهدنا موجة من بروز المثقّفين الفلسطينيين الذين انصهروا في الحركة الوطنيّة وأسسوا لانطلاق انتفاضة الحجارة عام 1987".
ورأى حرب أنّ "الهزيمة الثقافيّة والتراجع الكبير لم نشهده في فترة أوسلو فقط بل منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وهذه هي الهزّة العالمية التي سبقت اتفاق أوسلو وكان هناك حركات يسارية وثوريّة شعرت بالتراجع وأتيحت الفرصة لأصحاب الرؤى اليمينيّة لتنفيذ طموحاتهم وتحقيق آمالهم ومصالحهم في الوقت الذي فشلوا فيه في أيّام كامب ديفيد وأيّام الالحاق بالنظام الأردني والمصري، وبعد وجود سياسة القطب الواحد أصبح هناك هزيمة أسست لهزيمة كبرى، وكانت الجبهة هي الوحيدة التي كانت في موقف متقدّم على الأحزاب اليساريّة على الصعيد الوطني الفلسطيني وأشارت في المؤتمر الخامس لها إلى أنّ هناك تراجعًا في العمل السياسي والمد الثوري، لكنّ الحكيم حذّر من خسارة الجبهة الثقافيّة وشدّد على ضرورة أن يرسخ المثقّف ويثبت".
كما أكَّد حرب على أنّه "وبعد انتفاضة الأقصى وهزيمة أوسلو أصبح المثقّف غير منسجم مع نفسه وعندما نرى اليوم شخص صاحب شركات ويمتلك الملايين وهو في فصيل وطني في منظمة التحرير ويهتف للمقاومة في ذات الوقت وينظّر لها، هل هذا انسجام؟ لا، هذا كذب، الانسجام يجب أن يكون مع الذات، وإذا أراد المثقّف أن يكتب أو ينظّر فيجب أن يكون كذلك في الميدان وصادقًا مع نفسه"، مُبينًا أنّ "المثقّف هو أن يكون الإنسان وطنيًا ويتحوّل إلى ثوريًا وإلى صاحب مواقف فعلية وعمليّة من أجل الخروج من الأزمة الراهنة على الساحة، ويجب أن ننسجم مع أنفسنا، وبعد ذلك انتظار النتائج الكبيرة، ومن الخطأ استغلال الأحزاب لهذه الهامات الثقافيّة والثوريّة بشكلٍ حزبي".
وناقشت ندوة الهدف بمُشاركة ضيوفها العديد من المحاور الهامة تحت العنوان الذي حمله اللقاء، تتابعونها في الفيديو المُرفق للندوة: