بمنتهى البساطة والوضوح وباعتراف حتى المتحدثون الإعلاميون والسياسيون والأمنيون الصهاينة، فإن عملية الهروب الكبير الذي قام به ستة أسرى فلسطينيين يعتبرهم العدو من "الوزن الثقيل"؛ تعتبر الحدث الأهم والأخطر الذي تواجهه المنظومة الأمنية الصهيونية، بل أن بعض المصادر تتنبأ بأن ما بعدها لن يكون كما فبلها على مستوى المشهد الفلسطيني برمته، وأنها قد تدحرج الأحداث نحو انتفاضة فلسطينية مسلحة...!
ويستحضر الإعلام الصهيوني؛ مدينة ومخيم جنين وأهل جنين وشباب جنين ودورهم في الانتفاضة والمعارك الكبيرة مع قوات ومستعمري الاحتلال، ويشيرون بذلك إلى قلعة جنين أو جنينغراد خلال حملة السور الواقي الشارونية عام 2002، حيث كانت جنين ومخيمها وأهلها وشبابها قلعة صلبة في وجه جحافل شارون الغازية.
يتوقون لدى الدوائر الأمنية الصهيونية أن يتوجه الأسرى المتحررون من جلبوع أو بعضهم إلى جنين ومخيم جنين، ولكن جحافل قوات الاحتلال ومستعربيه ومخابراته اقتحمت المنطقة والبيوت وكل الأماكن، ويبدو أنها سترابط هناك لفترة طويلة بانتظار ظهور الأسرى الستة أو عدد منهم...! فالمنطقة هناك على أرض جنين ومخيمها ساخنة والمواجهة مفتوحة والمعركة قادمة إن عاجلا أم آجلًا...!
وعن معركة، بل وعن معارك جنين ومخيمها في الذاكرة الوطنية الكفاحية الفلسطينية نوثق مرة أخرى:
هي أسطورة تأبى النسيان.. وحكاية ملحمية من حكايات الانتفاضات والثورات الفلسطينية الموسوعية.. سنوات طويلة مرت عليها عليها وما تزال في الذهن والذاكرة ... صفحة ناصعة في موسوعة المعارك الأسطورية في مواجهة "الجيش الذي لا يقهر".... قلبت وما تزال معاركها كافة الحسابات العسكرية الاسرائيلية... كان أبطالها من زمنٍ آخر؛ قاتلوا بروحٍ وعزيمة أذهلت ذلك الجيش المتعجرف... نساؤها وشيوخها وأطفالها كتبوا بدمائهم وبطولاتهم ملحمة صمودية؛ ترسخت في الوعي والذاكرة الوطنية الفلسطينية والعربية... أطلق عليها بعض الكتاب الإسرائيليين اسم "ستالينغراد الفلسطينيين"... وأطلق عليها الفلسطينيون "جنينغراد"....
إنها معارك جنين الملحمية المتواصلة التي لا يمكن للفلسطيني أو العربي أن يمر هكذا على ذكراها دون أن يستحضرها، برغم زخم وتلاحق الأحداث اليومية الكبيرة؛ تلك المعارك التي ترتفي في الوعي الجمعي الفلسطيني والعربي إلى مستوى الأسطورة؛ تلك المعارك التي تضاف إليها وإلى سفرها عملية الهروب الملحمي الكبير للأسرى الأبطال الستة الذين يعتبرهم العدو من "الوزن الثقيل"...!
وعن جنين وقلعة جنين وبمناسبة هذا الهروب الملحمي الكبير من أعتى المعتقلات الصهيونية وأشدها تحصينًا وحراسةً؛ نستحضر بعض معطيات المشهد الجنيني-الفلسطيني المذهل والمبهر كفاحيًا:
ففي أحدث وأقرب تطورات المشهد الجنيني؛ ثلاثة شبان يستشهدون فجر الاثنين 16/8/2021 في اشتباك بين مجموعة من الأبطال وقوات المستعربين، وأفادت مصادر محلية، أن الشهداء هم: صالح العمار، ورائد أبو سيف، ونور جرار، وقد ارتقوا تباعًا في أقل من ساعة على اقتحام واسع لقوات الاحتلال للمدينة والمخيم، ووفق المصادر؛ اندلعت اشتباكات مسلحة واسعة بين مقاومين وجنود الاحتلال تخللها أصوات انفجارات كبيرة وإطلاق نار متبادل ومواجهات شتى، في حين أطلقت الوحدات الخاصة لجيش الاحتلال النار على الشبان. وقال المتحدث باسم الاحتلال "إن وحدات المستعربين التابعة لجيش الاحتلال عملت في مهمة لاعتقال مطلوبين في قلب مخيم جنين للاجئين، وزعم المتحدث باسم الجيش، أن قواتهم جوبهت بفتح نيران كثيفة على قوات المستعربين من مسافات قصيرة ومن قبل عدد كبير من المسلحين الفلسطينيين. وأضاف: ردت قوة المستعربين التابعة لحرس الحدود بإطلاق النار على الفلسطينيين وقامت بتحييدهم".
وقبل ذلك بأيام فليلة استشهد الشاب ضياء الصباريني من مخيم جنين شمال الضفة الغربية؛ متأثرًا بإصابته قبل أسبوعين خلال مواجهات مع الاحتلال عقب اقتحامه المدينة- الأربعاء 11/8/2021"، وكانت قوات الاحتلال اقتحمت المدينة اقتحامًا واسعًا قبل أسبوعين بإجرام استهدف المنطقة الصناعية جرت خلاله اشتباكات ضارية وصفت بالشديدة ارتقى خلالها الصباريني، واعتقل آخرون.
ولعل اعترافات قائد وحدة المستعربين في الضفة الغربية المحتلة الملقب "د" الأربعاء 1/7/2021 من أهم الشهادات والاعترافات المعادية على حقيقة الملحمة المنسية التي يخوضها أهل جنين ومخيمها ضد قوات ومستعربي ومستعمري الاحتلال، وجاء في اعترافات قائد المستعربية لصحيفة يديعوت أحرونوت: "إن واقعًا جديدًا يجري فرضه وتغييره في مدينة جنين ومخيمها شمالًا خلال الأسابيع الأخيرة، ما يشكل تحديًا كبيرًا لجيش الاحتلال الإسرائيل". موضحًا: "أن ما يحدث في المدينة من اشتباكات عنيفة يعتبر حدثًا غير مألوف في الضفة الغربية المحتلة". مستطردًا: "أن قوة خاصة كادت أن تقع في كمين نصبه لها مجموعة مسلحين في جنين قبل أسبوعين وانتهت الليلة بثلاثة قتلى- شهداء- فلسطينيين دون إصابات بصفوف القوة-على حد زعمه-"، وقال الضابط خلال وصفه لما حدث: "دخلنا جنين لتنفيذ عملية اعتقال لمطلوبين بناءً على معلومات من الشاباك، وخططنا لعملية قتحام سيرًا على الأقدام كما في كل مرة"، وأضاف: "بعد تنفيذ الاعتقال فوجئنا بإطلاق نار عنيف ومن مسافة قصيرة جدًا لأمتار معدودة، مقابل عمليات إطلاق نار سابقة كانت تتم من مسافات مئات الأمتار".
وتحدث قائد قوة المستعربين الإجرامية عن جرأة كبيرة يتمتع بها المسلحون الفلسطينيون قائلًا: "لقد شخصوا قافلتنا وهاجموها بكمين محكم جيدًا (..) استغرقنا وقتًا لنفهم ما الذي يجري بالضبط ومن أين تطلق النيران"، وأكمل: "ساد المكان كثير من الفوضى والارتباك، وعندها وصل المكان مجموعة من المسلحين على دراجات نارية وألقوا عبوات ناسفة كبيرة على مركبات عسكرية وسمعت أصوات انفجارات وإطلاق نار، وتعرضنا للنيران من كل اتجاه"، وتابع الضابط حديثه عن الكمين: "أعدوا لنا مفاجأة بعد مفاجأة وبعدها خرجنا من المركبات وأطلقنا النار صوب مصادر النيران، لكنني فهمت لحظتها أن أمرًا ما قد يقع هنا ويجب القيام بشيء وبعدها استهدفت القوة المسلحين فقتلت ثلاثة منهم".
وتطرق قائد المستعربين لعملية الاقتحام لجنين بقوله "إنه جرى خلالها اعتقال ثلاثة فلسطينيين وتعطلت إحدى الآليات العسكرية خلال إطلاق النار الكثيف صوب الدوريات"، وقال: "شعرنا للحظة بأننا كالإوز في ميدان الرماية (..) بدأ يدور بمخيلتي السيناريوهات الفظيعة بوجود مصابين واستقدام طائرات لنقلهم للمشافي وسيارات اسعاف"، وتابع الضابط: "فوضى كبيرة (..) عندها أطلقنا النار صوب مصادر النيران فأصيب مسلح من مسافة قصيرة، إذ كان يبعد عنا 20 مترًا فسحبه رفاقه وسيطرنا على سلاحه"، واختتم حديثه بأنه "شعر بفقدان توازنه في العملية السابقة"، مشددًا على أن الحديث يدور عن تهديد كبير للقوات المقتحمة للمدينة.
إذن... وبشهادة قائد وحدة المستعربين الإجرامية وبشهادات عديدة سابقة عن معارك جنين أيضاً: فقد دخل المخيم التاريخ من أوسع أبوابه، لأن قصة صموده وبطولة مقاتليه دفعت إلى قراءة ما حصل هناك، خاصة مع اختلاف موازين القوى وحجم الخسائر وشراسة المعارك وعنفوانها، وقصة الخدع والأفخاخ التي تميز بها مقاتلو المخيم، وفي النهاية قصة كل الشهداء، الذين قاتلوا حتى الرمق الأخير.
ولا تتوقف القصص والحكايات عند حد معين ففي كل زاوية وممر قصة، وتحت كل منزل مهدم وركام منثور بطولة شهيد التصق بالسلاح، هناك استشهد طه زبيدي، وهنالك استشهد شادي النوباني، وهنا استشهد الشيخ رياض بدير، وهناك أيضًا محمود، ومحمد وغيرهم من المقاتلين الأبطال.
وهكذا.. يتحول مخيم جنين إلى رمز للبطولة الفلسطينية وأسطورة تتكرس في وعي وذاكرة الفلسطينيين والعرب على مدى التاريخ الراهن والقادم...!
نعتز ونفتخر وننحني اجلالا وتقديرا لجنين ومخيمها واهلها الابطال الذي يواصلون خوض وتسطير المعارك الملحمية في مواجهة جيش ومستعربي ومستعمري الاحتلال ....! .