Menu

الــمـرأة والأغــانــي والــحـــب

د. أحمد الخميسي

ليس تدهور مستوى كلمات الأغنية العربية والمصرية خاصة هو المشكلة الأولى في ذلك القالب الفني، وليست المشكلة الأولى أيضًا تلك الدهشة التي تثيرها أحيانًا كلمات الأغاني، مثلًا حين تسمع رامي صبري وهو يصف معشوقته بحرقة ولوعة مغنيًا: "يدخل قلبك يعلم.. يخطف خطفة معلم"! فتتخيل على الفور أن حبيبة رامي نشالة في أتوبيس، بتخطف المحفظة من جيب الزبون "خطفة معلم"! أما العندليب مصطفى قمر فيغني: "عناب خدوده سكري.. قربت منه أشتري"، وعلى الفور تتساءل "كيف تكون الخدود عناب؟ والعناب مشروب؟ أم أن محبوبة مصطفى فاتحة محل عصير في وجنتيها؟! جنتل الغناء هاني شاكر له رجاء آخر يشدو به بلهفة وحرارة: "لو سمحتوا.. لو سمحتوا.. يمشي يتمخطر براحته.. اوعى حد يقل راحته"!! وهي المرة الأولى التي أسمع فيها عن واحدة نازلة "تتمخطر" مع أن الناس كلهم عادة ينزلوا يتمشوا بس! يعني البنت تقول لأمها: "أنا نازلة اتمخطر ساعتين كده وراجعة" وأمها ترد: "طيب يا حبيبتي بس ما تتمخطريش كتير"!

أقول إن تدهور مستوى الكلمات والدهشة التي تثيرها أحيانًا، ليس لب الموضوع، لكن مأساة الأغنية أكبر من ذلك، وتحديدًا في كونها منذ نشأتها قد حاصرت المرأة في ركن وحيد هو: "الأنوثة"، وستجد أن المرأة في جميع الأغاني فاتنة، جميلة، ذات عيون كحيلة، ورموش طويلة، وضحكة حلوة، وأحيانا رقيقة، وممشوقة، وملفوفة العود، فهي على امتداد تاريخ الأغنية مجرد أنثى، تمتاز فقط بصفاتها الجسدية، لكنك لن تجد أغنية واحدة تصف المرأة المعشوقة بالذكاء، أو القدرة على التعاطف مع الآخرين، أو التضحية! كلا! فقد كرست الأغنية مفهوم المرأة الأنثى، التي لا يمكن لها أن تكون شيئًا خارج ذلك الإطار، ورسخت مفهوم أن الحب يقوم على تلك العلاقة بهذا الفهم، علاقة الشخص الذي يسهر الليالي مشغولًا بعينيها، على حين كان من الممكن أن يسهر الليالي مشغولًا بأنها تحاول أن تساعد الآخرين، أو تقوم بعمل خيري، أو تتولى مسئولية أخوتها الصغار، وكل تلك أسباب تدعو للحب أيضًا؛ أحكمت الأغنية حصار المرأة في الجسد، وبسببه تنطلق آهات العاشقين ليل نهار.

لم نسمع قط أغنية عن رجل يحب ويعشق فدائية مصرية في سيناء قبل استعادة سيناء، لم نسمع أغنية عن رجل يسهر جدًا، لأنه يحب طبيبة أنقذت طفلًا في مستشفى، أو أغنية عن شاب حركت فتاة إعجابه بها لتفوقها في الجامعة، وليس لدي اعتراض على أن يكون الحب الموضوع الرئيسي للأغاني، فليكن الحب، وليكن عشق الرجل للمرأة، لكن فلنوسع قليلًا من دائرة تصورنا للأسباب التي يمكن لأجلها أن نعشق النساء، لأننا بذلك نوسع من دائرة تصورنا للحب نفسه، ونخرج الحب نفسه من حصاره في المنطقة الجسدية إلى آفاق العلاقة الروحية. لماذا لا نسمع أغنية عن ولد أحب فتاة فقيرة لأنها رغم ظروفها الشاقة نجحت في إنهاء تعليمها؛ أحب فيها قوة إرادتها وعزيمتها، وليس فقط رموشها التي تدلت بالمصادفة من جفنيها؟

في الخارج يمكن أن تجد أغنيات مكتوبة، مشبعة بعشق الرجال للنساء، بكل أبعاده، ولكن أيضًا مع وضع المرأة في خانة أعرض وأعمق من مجرد كونها امرأة، أي في خانة الإنسان الذي لا تقل بطولاته وآماله وتضحياته عن أي من الرجال.

أحلم بيوم أسمع فيه أغنية عن رجل يعشق امرأة ويقلق لأجلها، لأنها عالمة ذرة تقضى وقتًا طويلًا في معملها مع الإشعاع والخطر؛ فليعشقها، ويحبها، لسبب آخر غير أنها "بتتمخطر" و "عناب خدوده" سكري!