Menu

الحكومة والمعارضة الفنزويلية: تحولات دراماتيكية ومنافسة شرسة

اسحق أبو الوليد

بعد رحيل مفجر الثورة البوليفارية وقائدها، اوغو شافيز، أدركت الإمبريالية الأمريكية أنها يجب أن تنخرط مباشرة في العمل من أجل إنهاء ما تم انجازه من قبل الثورة البوليفارية، وخاصة في المجالين الاقتصادي والبنيوي التأسيسي، وجندت في سبيل ذلك أكثر فصائل المعارضة الفنزويلية تطرفًا وفاشيهً؛ تنظيم العدالة أولًا والإرادة الشعبية المنشق عنه الذي ينتمي إليه هوان غوايذو، ووضعت تحت تصرفهم كافة امكانيات الدولة الفنزويلية المالية والديبلوماسية قي الخارج، والتي توجت بإعلان رئيس البرلمان السابق، هوان غوايذو، كرئيس انتقالي على أثر ادعاء؛ بأن حكومة الرئيس نيكولاس ماذورو هي حكومة "تفتقد للشرعية وماذورو نصًب نفسه كريئس من خلال انتخابات غير نزيهة وغير شرعية ومزورة". ولمزيد من الضغط المادي والنفسي شاركت إدارة الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، في محاولات انقلابية وممارسات عسكرية دموية؛ تزامنت مع عقوبات اقتصادية ومالية ونفطية وحصار شامل لزعزعت الأمن الغذائي وتهديد السيادة الوطنية وضرب السلام الاجتماعي، بهدف تأليب الشعب على "النظام الاشتراكي ونموذجه الاقتصادي الفاشل" وتحميله المسؤولية عن أسباب "المعاناة والفقر والأزمة الإنسانية" التي تشهدها البلاد.

بعد وصول الديموقراطيين إلى البيت الأبيض انتعشت الآمال من جديد لدا أطراف في الحكومة الفنزويلية بإمكانية ايجاد حل سياسي تفاوضي للأزمة في فنزويلا والإقلاع عن أساليب التآمر التي أثبتت فشلها وعدم جدواها، للإطاحة بالحكومة، وما أسس وشجع على هذا التفاؤل تصريح بايدن قبل نجاحه في الانتخابات بأقل من أسبوع أنه "يفضل الحوار لحل المشاكل والأزمات، بما فيها الأزمة الفنزويلية". مضيفًا "إذا أغلقتّ طريق التفاوض على خصمك أو عدوك فإنك تجبره أن يمر من فوق جثتك، وأنا لست من مؤيدي هذا الأسلوب"؛ لذا بعد فوزه شعرت المعارضة الفاشية الدموية الترامبية؛ بأنها أصبحت يتيمة ولا بد لها من التكيف مع المستجدات في القارة والعالم، وخاصة أنها تفتقد للثقل الشعبي في الداخل؛ لأن العديد من أقسامها التي لم تغادر البلاد تصالحت مع الحكومة الشرعية وأصبحت جزءًا من برلمان منتخب.

الحكومة من طرفها أملت عليها براغماتيتها، وضغط إدارة بايدن أن تفاوض هذه الفئه من المعارضة، رغم سجلها الدموي الفاشي والفاسد؛ لأنها ستقر وتعترف بالشرعية وتتخلى عمليًا عن شعارها "ماذورو ارحل أنت مغتصب للسلطة"، وشكلت مع شخصيات وقوى أخرى "المنبر التوحيدي" ودخلت باسمه في حوار وتفاوض مع الحكومة الشرعية التي يرأسها الرئيس ماذورو وتوصلت معه لإطار تفاهم واتفاق أولي؛ قررت على أساسه المشاركة في الانتخابات المحلية التي ستجري في 21 نوفمبر من هذا العام.

الحوار الدائر الآن بين الحكومة الفنزويلية وكل أطراف المعارضة في الداخل والخارج، يتم في ظروف استثنائية تشهد تراجع عن أهداف "الثورة الاشتراكية" وتآكل واضح للعديد من الانجازات التي تحققت في عهد الرئيس الراحل شافيز، مما فرض "الدولرة" شبه الرسمية لأسعار السلع وللخدمات والجمارك، بما فيها التعريفات الرسمية، وأصبح الدولار الأمريكي عمله متداوله محليًا موازية للعملة الوطنية (البوليفار)، وهذا يعد من أهم نتائج العقوبات والحرب الاقتصادية والفساد المالي والإداري للحكومة والمعارضة معًا، مما يسمح بمزيد من الربط والتبعية للاقتصاد الأمريكي الشمالي.

كما هو معروف، تشكلت المعارضة الفنزويلية البرجوازية اليمينية؛ سياسيًا وبرلمانيًا، بعد نجاح حركة الجمهورية الخامسة في انتخابات كانون أول عام 1998 التي جاءت بقائدها المؤسس ومفجر الثورة البوليفارية؛ الراحل اوغو شافيز إلى رئاسة الجمهورية، الذي قاد تمردًا عسكريًا فاشلًا في الرابع من شباط عام 1992 للإطاحة بحكم هذه البرجوازية الكومبرادورية البيروقراطية التابعة المتخلفة وكيلة الإمبريالية التي حكمت البلاد منذ رحيل المحرر؛ سيمون بوليفار حتى تاريخ إزاحتها عن الحكم، ولا أقول عن السلطة، كدست خلالها ثروة هائلة وضعتها وما زالت في خدمة محاولاتها للعودة إلى الحكم وتثبيت نفسها من جديد في مؤسسات النظام الذي ورثته منها الحركة البوليفارية، ولكنها لم تستطع تغيره.

قبل وصول البوليفاريين؛ اليسار الثوري، إلى الحكم تبادل حكم البلاد لأكثر من أربعين عامًا حزبين وحيدين؛ حزب العمل الديموقراطي عضو في الاشتراكية الدولية والحزب الاجتماعي المسيحي؛ رسخا خلالها نمط من نظام الفساد والرشوة واستغلال النفوذ؛ قسم المجتمع إلى فئتين واحدة مزدهرة؛ تمثل الأقلية الصغيرة وأخري أغلبية ساحقة؛ تترنح تحت سياط الفقر والحاجة والحرمان والمرض، مما أوصل الصراع الطبقي إلى درجات متقدمة من الصدام، ونبّذ غير مسبوق لحكم الحزبين. بالمقابل ترافق هذا مع اندفاع ثوري هائل باتجاه البديل البوليفاري، الذي طرحه وناضل وضحى من أجله الرئيس القائد الراحل شافيز، وبانتصاره شعرت الجماهير أنها أزاحت عن كاهلها أثقال عقود من الزمن وأنها طليقة اليد والقدم واللسان، وقادرة على تقرير مصيرها بنفسها وبناء المجتمع والإنسان الجديد، رغم "المقاومة" العنيفة التي أبدتها القوى الطبقية المحلية المهزومة وأسيادها في الخارج؛ دفاعًا عن بنية التبعية البرجوازية القديمة التي تتمثل فيها مصالحها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وترافق مع استعداد شعبي عالي لدفع الثمن النضالي المطلوب، ما دام الهدف تحقيق مجتمع المساواة والرفاهية والعدالة على أنقاض المجتمع البرجوازي الذي كان ينتج ويعيد إنتاج الاستغلال واللامساواة والاضطهاد.

الصراع على السلطة

بداية لا بد من التأكيد أن الثورات الاجتماعية لا يمكن أن تنتصر دفعة واحدة، أي لا يمكن هدم القديم وبناء الجديد بين "ليلة وضحاها"، أنها تمر بمد وجزر وتقدم وتراجع وألم وسعادة حتى: إما أن تنتصر وإما أن تموت، وما بين الانتصار أو الموت يجري صراع بلا هوادة ودامي بين القديم والجديد للسيطرة النهائية والكاملة على جهاز الدولة (السلطة)؛ تتمتع خلاله القوى المطاح بها بامتيازات هائلة في المجال الاقتصادي؛ الساحة الحاسمة لنتيجة الصراع، فبرغم خسارتها للسلطة السياسية تبقى مسيطره على مصادر العمل والإنتاج، مما يسمح لها التحكم بمستويات التضخم والتلاعب بالأسعار وإخفاء السلع التي تنتجها أصلًا أو تستوردها كي تخدم أرباحها الفاحشة، وليس لتلبية حاجة السوق والمستهلك، هذا بالإضافة لما تتلقاه من دعم خارجي من كافة الدوائر والمؤسسات الإمبريالية والرأسمالية، مما ينضج الظروف الموضوعية لتفعيل نظام الفساد الذي بنته خلال عقود من وجودها في الحكم وتعمل على تعميمه ليصبح شامل، ويبدو كأنها ظاهرة عامة وطريقة للعيش أوجدها النظام القائم (الاشتراكي)؛ حسب ادعائها وتقوم بحملة تزوير للواقع وتجهيل للمواطنين تظهر فيها كمدافع عن حقوق الإنسان وعن حقه بالعيش الكريم ومحاربة الفساد، وتنادي بشعارات مطلبيه كانت هي شعارات القوى اليسارية الحاكمة الآن؛ عندما كانت تقود النضال ضد حكومات اليمين.

من هنا ورغم أن لكل طرف أجنداته وأهدافه من الحوار إلا أنهما يتقاطعان في عدم مقدرة أي منهما أن يحقق نصر كامل على الآخر، بالطرق غير الدستورية؛ المعارضة صحيح أنها لم تستطع الإطاحة "بالنظام" إلا أنها أحدثت، وبتواطؤ من أطراف في السلطة؛ استنزاف للإمكانيات وتخريب فكري وسياسي وعبث بأهداف الثورة البوليفارية؛ نتج عنها عرقلة وتراجع كل عملية التغيير الثورية؛ بدت معها الأزمة وكأنها "أزمة فكرية وأزمة نظام اشتراكي"؛ أراد أن يقلد أنظمة بائدة وأخرى فاشلة، كما يقول زعماء المعارضة اليمينية الرجعية، مما أوقع البلاد في "إفلاس شامل وخراب ماحق"، وخاصة لأهم شركة إنتاجية في البلاد (شركة النفط الوطنية) التي تؤمن 90% من الدخل بالعملات الأجنبية وتقلص إنتاجها في السنوات الأخيرة، ليصل إلى صفر إنتاج بسبب العقوبات الاقتصادية والإهمال والتقاعس في عمل الصيانات المطلوبة في الوقت المناسب.

الأهداف المعلنة للحكومة من المشاركة في الحوار تتمثل "إعادة المعارضة الانقلابية الغنفية إلى الحياه الديموقراطية، وإنهاء العقوبات أو تخفيفها وإعادة أملاك فنزويلا المحجوزة أو المصادرة والدفاع عن وحدة أراضي الدولة الفنزويلية، بما فيها إقليم الايسيكيبوا، الذي تدعي جمهورية غويانا أنه جزءًا من أراضيها، والحفاظ على السلم الأهلي والمدني والالتزام بالتراتب الدستوري الانتخابي "أما المعارضة التي تفاوض في المكسيك بوساطة بلجيكية ورعاية الدول التحتا وروسيا؛ تقول أن هدفها من الحوار هو "التوصل إلى نظام اقتصادي بديل عن النظام الاقتصادي الحالي الذي أثبت فشله، وحل الأزمة الإنسانية التي يعاني منها الشعب الفنزويلي وإجراء انتخابات؛ حرة ونزيهة برقابة دولية".

الطرفين متفائلين من نتائج الحوار، الذي بغض النظر عن ما سيفضي إليه يعني أن الطرفين؛ دخلا في صراع وسباق "سلمي" على السلطة، بضوء أخضر للمعارضة من البيت الأبيض، مما جعل العيون شاخصة من الآن إلى المعركة الانتخابية المحلية، لانتخاب حكام الولايات ورؤساء البلديات، التي قررت كل مكونات المعارضة المشاركة فيها، بناء على تقديرات لديهم أنهم هم الفائز والرابح الأكبر، مما يعطيها صفة الشرعية الدستورية الوطنية والدولية، بعد أن قررت أطراف دولية، بما فيها الاتحاد الأوروبي المشاركة كمراقبين.