إن طرح شعار غير قابل للتحقيق لا يساهم فقط في تبديد الجهد وبعثرة الإمكانيات، بل والأخطر يساهم في تبديد الأمل ويقفل طريق العمل؛ رغم أن المنظمة ترقد منذ زمن بعيد على سرير الموت البطيء، سرير اتفاقيات أسلو، وفقدت حتى دورها الوظيفي الذي أراده لها اليمين الرجعي الفلسطيني التبعي، إلا أن بعض القوى السياسية الفلسطينية، لأسباب مختلفة، ما زالت تغازل "المنظمة" وتعبر عن رغبتها في الانضمام إليها والمشاركة في مؤسساتها ولكن بعد اصلاحها، وبعضها الآخر (اليسار) يعبر عن رغبة قوية في إعادة تفعيلها والعمل من خلالها، ولكن بعد إجراء "الاصلاحات السياسية والديموقراطية التي تجعلها جبهه وطنيه حقيقيه تضم الجميع وتحقق الشراكة الكاملة"، والأغرب أن الطرف المهيمن والقابض عليها يطرح ضرورة "تفعيل واصلاح منظمة التحرير وأنه لم يعد مقبولًا الاستمرار بها على هذه الحالة من الوهن".
السؤال الذي يتبادر ويلط الجميع على "قفاهم"، من المسؤول عن تعطيل وتنويم وشلل وتخريب وتدمير هذا الصرح الوطني؟ ومن الذي يستطيع أو بيده القرار أو لديه الاستعداد من أجل إعادة بنائه واصلاحه؟ ومن يجرؤ على إعادة المنظمة لبرنامجها الوطني وميثاقها القومي الّلذين يتناقضان ولا يمكن أن يتعايشان مع انفاقيات أوسلو، هذه الاتفاقيات التي ثبتت شرعية نقيضها "قانونيًا" وسياسيًا؟
الكيان الصهيوني، الذي بدوره ألغى سبب ومبرر وجود المنظمة، التي منحته "شرعيه" أفتقدها منذ أن أقيم على أرض فلسطين، عندما اشترط، من أجل الاعتراف بها، إلغاء كافة البنود التي تطالب بإزالته عن أرض فلسطين، والتي تؤكد على أن الكفاح المسلح هو الوسيلة الرئيسية للنضال والكفاح لتحقيق هذه الغاية، والأنكى إلغاء البنود التي تؤكد على عروبة فلسطين أرضًا وشعبًا، أي تمكن العدو من تفريغ المنظمة من محتواها الوطني والنضالي والقومي وجعل منها هيكلًا بلا قيمة، ووضعها في مواجهة وجودية مع الشعب الذي قامت من أجل الدفاع عنه وتمثيله، أي استطاع العدو، وبتواطؤ من "قيادة المنظمة" من "قطف ثمار" عقود من النضال الفلسطيني؛ فبدل أن تفرض هذه القيادة على "دولة" العدو أن تعترف ب "دولة" فلسطينية، التي هي هدفها الأسمى، أو في أسوأ الأحوال بالمنظمة، كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، دون السماح بالمس ببرامجها ومؤسساتها ومكانتها، قبل الفريق الفلسطيني المساوم بأن يقتصر اعتراف "المؤسسة" الصهيونية به كفريق "مفاوض" يمثل " منظمة" لم تعد تشكل أي نوع من أنواع الخطر على وجود الدولة العبرية، ويمكن وصفها بأي شيء ما عدا أنها منظمة "أداة" للتحرير. نعم، هذا هو حال "المنظمة" الحالية، المعطلة والمجمدة والمهددة بالزوال، فهل هذه هي "المنظمة" التي تريد القوى السياسية الفلسطينية إصلاحها، والتي تشمل اليمين المهيمن عليها تاريخيًا واليسار "الديكوري" العالق في شباكها سياسيًا، دون أن يستطيع تحقيق أي اصلاح منذ عقود، وأخيرًا القوى الإسلامية التي تريد الدخول إليها بعد اصلاحها لأهداف وظيفيه تكتيكيه على ما يبدو؟ والأهم، هل حقًا يريد اليمين الفلسطيني الابقاء على "المنظمة" كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني أم يريدها سيفًا من خشب يشهره في وجه الخصوم حسب الضرورة؟ وهل يريد هذا اليمين تسهيل مهمة اصلاحها وتفعيلها؟ وإذا صدقنا أنه يوجد اجماع على اصلاح المنظمة كما هو الاجماع على تحقيق "المصالحة"، من يكون المعطل؟ ولمن اليد الطولي الخفية التي تفعل فعلها في كلا الحالتين؟ !وهل هنالك من يريد أن تكون المنظمة هكذا كما هي بلا وزن أو فعل؟
للإجابة على هذه الأسئلة لا بد أولًا من تحديد طبيعة ومكونات الأزمة التاريخية التي تعصف بالمنظمة والطرف الذي أوصل الأمور إلى ما هي عليه، وهل يمكن أن يكون هذا الطرف الاستحواذي جزء من الحل؟
من المعروف أن تأسيس منظمة التحرير تم بمبادرة من الرئيس المصري الراحل والقائد القومي جمال عبد الناصر، كأداة للنضال وتحرير فلسطين من الاستعمار الصهيوني وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل نكبة عام ،1948 أي إزالة الكيان الصهيوني من أرض فلسطين العربية، في الوقت الذي عارضت كافة الأنظمة الرجعية العربية، وخاصة الأردنية والسعودية الفكرة من أساسها، وعملت بكل طاقتهما لعرقلة وإفشال مشروع ناصر، ولكن بسبب رجحان ميزان القوى لصالح مصر عبد الناصر تم فرض المنظمة عربيًا وفلسطينيًا بميثاق قومي عربي وبرنامج سياسي فلسطيني يستجيبان لطبيعة المرحلة التي كانت قائمه قبل وقوع حرب حزيران عام1967. فكما أن هذه الحرب شكلت نقلة نوعية في تمدد المشروع الصهيوني جغرافيًا وأيديولوجيًا واقتصاديًا، شكلت أيضًا تحول استراتيجي، في بنبة وأهداف معظم الأنظمة العربية، وخاصة الرجعية، التي رحبت وقبلت واقعيًا بنتائج تلك الحرب، التي اعتبرتها هزيمة مدوية لنقيضا التاريخي أي للناصرية والفكر القومي، وأخذت تعمل على ايجاد الوسائل والفرص المواتية لتكريسها رسميًا ومؤسساتيًا، وقد تأثرت المنظمة، كجزء من النظام الرسمي العربي من بنتائج تلك الهزيمة، حيت أصبحت أولويات الرئيس الراحل جمال عبد الناصر معالجة أسباب الهزيمة مصريًا والإعداد لحرب تحرير الأراضي التي احتلها العدو في هذه الحرب. وكذلك الشعب الفلسطيني، الذي اعتبرت قواه السياسية الأساسية أنه آن أوان استلام زمام المبادرة لتحرير فلسطين، الوطن التاريخي للشعب الفلسطيني، بكافة الوسائل وأرقاها وأكثرها نجاعة الكفاح المسلح، مما أدى إلى الانطلاقة الفعلية للمقاومة الفلسطينية المسلحة التي تصارع فيها ومنذ البداية نهجين وسياسيتين وخطين متناقضين، ليس فقط في موضوع تحديد معسكر العدو ومعسكر الصديق، بل وفي تحديد الوسائل النضالية ضد العدو، صعب التجسير بينهما. وكانت ساحة العمل السياسي من خلال "المنظمة" أحد ساحات الصراع الأساسية للنفاذ من خلالها إلى مجالات مختلفة إقليمية ودولية، استطاعت قوى اليمين (فتح والمستقلين) حسمه لصالحها لما تمتلكه من امكانيات اقتصادية هائلة وبسبب أخطاء تكتيكيه وقع فيها التيار الآخر، يضاف إليهما الدعم العربي الرسمي، وخاصة المصري، لضمان "الاعتدال" السياسي في الساحة الفلسطينية كي يتماشى مع الظروف الجديدة.
اليمين من جهته، أراد "المنظمة" كي تكون أداته أو سلتطه للحفاظ على مصالحه الطبقية وتطويرها وحمايتها بغلاف مصفح "وطني" عميق لا تستطيع القوى الأخرى اختراقه، وكان لها ما تريد بسبب أن هذه البرجوازية مكونه من رأس المال المالي الكومبرادوري والخدماتي، الذي نما وترعرع في أحضان وظلال البرجوازيات العربية النفطية، مما جعل من أصحابه قوة تابعة وذيلية لهذه البرجوازيات؛ رغم ادعائهم عكس ذلك والتشدق بوطنية واستقلالية وهمية هدفها تضخيم الذات. أيضًا، وبسبب طبيعتها البراغماتية، لديها الاستعداد أن تجري التحولات والتعديلات على برامجها وأهدافها واستراتيجيتها السياسية بما تمليه مصالحها الطبقية، ومصالح البرجوازيات العربية، التي هي أيضًا ريعية وغير إنتاجيه وتابعة وذيلية للرأسمالية العالمية والمراكز الإمبريالية وتقوم بدور المنفذ للاستراتيجية الاستعمارية.
بعد مجازر أيلول في الأردن والقضاء على الوجود العسكري لفصائل المقاومة، استغلت الأنظمة الرجعية النفطية ثقلها الاقتصادي ونفوذها السياسي "لإقناع" القيادة اليمينية الاستجابة للمبادرات الدولية وعدم إغلاق الأبواب أمام الجهود الدولية لإيجاد "حل سياسي سلمي عادل ودائم للنزاع العربي الإسرائيلي"، وقد استجابت قيادة "فتح" ومعها قيادة اليسار الاصلاحي لهذه الجهود العربية والدولية، والتي تم تقديمها كبرنامج سياسي لمنظمة التحرير، سمي "بالبرنامج المرحلي" الذي بعد أن أُقر من قبل دورة المجلس الوطني الثانية عشره في العام 74 تم التعامل معه من قبل أصحابه كإستراتيجيه وخريطة طريق حتى هذه اللحظة.
جاء طرح هذا البرنامج الذي أعطى تخويل مطلق لقياده المنظمة "بوضع التكتيك الذي يخدم ويمًكن من تحقيق اهداف هذا البرنامج" (النقطة العاشرة) ليرفع طبيعة المشاكل والخلافات داخل المنظمة إلى مستوى الأزمة، التي كانت تزداد حدتها طرديًا مع اشتداد الصراع بين التيارين والنهجين المتناقضين بسبب "التسوية" السياسية، التي أدرجتها الدوائر الإمبريالية الصهيونية على جدول أعمالهم وفي أجنداتهم منذ اغتصاب فلسطين وقيام الكيان الصهيوني الاستعماري.
التيار اليميني، الذي لم يكن على استعداد لتحمل أعباء النضال حتى نهاياته والمندفع باتجاه الانخراط في الحلول التصفوية، لم يقبل يومًا أن تفرض عليه القيود أو الشروط من أي كان في موضوع الحوار مع المعسكر المعادي، وخاصة مع ما كان يطلق عليه معسكر "الحمائم والسلام في إسرائيل" الذي أصبح لاحقًا الجسر، الذي انتقلت عبره قيادة اليمين الفلسطيني إلى أحضان معسكر "الصقور" الصهاينة. وبالتزامن، كلما كانت تتقدم أقدام قيادة اليمين باتجاه المعسكر الصهيوني كانت تبتعد أضعافًا المسافة عن الحقل الوطني وبرنامجه السياسي وتزيد وتتعمق أزمة الثفة والعمل داخل منظمة التحرير حتى تحولت المنظمة تدريجيًا إلى أداة تخدم برامج ذاتية طبقية وتوجهات فريق بعينه، على حساب البرنامج الوطني والصفة التمثيلية الشرعية، واستمر تدجين المنظمة وتقليم أظافرها حتى وصلت إلى مرحلة النضج للقيام "بالمهمة الكبرى والتاريخية"، اي توقيع صك الانتداب والاستعمار الصهيوني لفلسطين تحت مسمي "اتفاقيات أوسلو"، التي هي التتويج التاريخي لنهج التسويةـ التصفية ولوعد بلفور الشهير، أي التسوية التي بدأت بما سمي بمؤتمر جنيف واختتمت بمؤتمر "مدريد للسلام" الذي اشتركت فيه كل الدول العربية سواء بشكل مباشر أو بالترحيب والتصفيق. ولكن، قبل مدريد وقبل توقيع اتفاقيات أوسلو، رغم خطورة ما كان يطرح من "أفكار" لتسوية مفترضة، كانت "شعرة معاوية" تظل قائمه بين أطراف ومكونات المنظمة، والتي كانت تجد الوسائل لتجاوز الأزمة، على حساب حلها، التي كانت تعاني منها المنظمة والحفاظ على نوع من التعايش الوطني، رغم أنه لم تكن هنالك أية إمكانيه لتحقيق وحدة وطنية او جعل "المنظمة"؛ جبهة وطنية حقيقية تقود مرحلة التحرر الوطني.
توقيع اتفاقيات أوسلو من قبل قيادة المنظمة ورسائل الاعتراف التي تبادلاها ياسر عرفات واسحق رابين، كما شكلت نهاية مرحلة امتدت منذ التأسيس حتى أوسلو هي في الوقت نفسه بداية مرحلة جديدة، ما زالت قائمة، وتحرق نيرانها ما تبقى من كنوز الانجازات النضالية، بعد أن تم إهدار أكثر من 80% من الأرض التاريخية لشعبنا وتسجيلها في بنك الأرباح الصهيوني، كثمن لمصالح طبقية أنانية، على يد حفنه من الفلسطينيين الذين تجردوا من وطنيتهم وتاريخهم وانتمائهم وإنسانيتهم، وألقوا "المنظمة والممثل الشرعي" في متحف التاريخ، إلى جانب العديد من الحكومات والهيئات التي شكلها شعبنا، استجابة لضرورات وطنية وتاريخية، بنضالات وتضحيات استمرت عشرات السنين، وتم وأدها على مذبح المصالح الطبقية لقيادات من نفس القماشة الطبقية والسياسية للقيادة الحالية للمنظمة. إن "منظمة" استنفذت مهمتها واحيلت إلى التقاعد، واحلت محلها سلطة حكم ذاتي، يتآكل وتتناقص صلاحياتها مع مرور الزمن، ولم يعد لها لا برنامج سياسي ولا ميثاق وطني ولا هدف نضالي، حيث ألغيا بقرار واعي ومدروس من قبل أعدائها ومن قبل قيادتها التي تريد أن تبقى المنظمة هكذا، كما هي "الآن"، وتعمل على تعطيل أي محاوله لتغير هذا الواقع، هذه القيادة ليس فقط لا تريد إحياء المنظمة وإعادتها لوضعها الطبيعي، بل ستمنع وستعيق محاولات الآخرين لتحقيق هذا الهدف لأنها ببساطه تعتبرها "مزرعتها" الخاصة، لا تدافع عنها ولا تحميها من "البدائل المفترضة"، إلا إذا هي كانت على رأسها القيادي، وستكون أول من سيهاجمها إذا ما خرجت عن سيطرتها القيادية وفقدت مصالحها فيها، مما يضع مجمل النضال الفلسطيني في أزمة ذاتية بنيوية، ويبقى يدور في حلقة مفرغة قاتلة ومميتة، ولكي يتم تحرير الطاقات الشعبية وسلخها عن اليمين، ولكي يخرج النضال الفلسطيني من الحلقة المفرغة هذه يجب تشكيل "جبهة مقاومة وطنية فلسطينية" من القوى السياسية والاجتماعية والنقابية والحقوقية والشبابية والنسائية، وأن تشمل كل مكونات المجتمع الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، أي في فلسطين التاريخية والخارج، وخاصة مخيمات اللجوء. القيام بهذه الخطوة، بل وخلال العمل من أجل تحقيقها، ستبرز آليات وأفكار كفيلة بإجراء الفرز الذاتي بين الوطني واللاوطني للقوى الفلسطينية، ولن يقبل بها، وسيحاربها كل من له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بأوسلو والفريق المُكَبَل بعلاقات وتعهدات ومصالح مع المنظومة الاستعمارية الاحتلالية الصهيونية في فلسطين، ولكن قيام هذه "الجبهة" سيضع القوى الدولية المختلفة أمام الحقيقة الفلسطينية النضالية الجديدة، وستخلخل أركان الواقع العربي الرسمي وستعيد الحيوية والنشاط لفصائل حركة التحرر الوطني العربية وستضع محور المقاومة أمام مسؤوليات وتحديات حقيقية ومباشرة.