يقولون أن الكتابة تحتاج إلى فكرة وبعد ذلك تبدأ بصياغة مقالتك أو مدونتك بشكل سردي، ولكن القضية تكمن في الفكرة هي الأساس وعليها تبدأ بناء التفسير أو التنبؤ أو التحليل، ولكن الكتابة عنك سماح هي عملاً شاقاً يصعب عليَّ أن أجد طرف خيط أبدأ به لنسج الحكاية. إن ملامسة الفكرة التي تحمل أسم سماح هي بمثابة فلاح فلسطيني يمسك إبره خياطة لحراثة جبل.
إنَّ الله يقذف الحب في قلوبنا، فلا تسأل مُحب لماذا أحببت، بهذه الكلمات اختصر علي بن أبي طالب قضية الحب، وهي الكلمات الأولى التي جاءت في عقلي عندما قرأت رحيلك، لا تسألوا أنفسكم لماذا أحببتم سماح، لا تحاولوا النبش عن مواقف هنا وهناك لتعبئوا الفراغ برحيل هذا الرجل، تذكروا شيء واحد قاله لنا دريد لحام: "طالما يا ابني في كاتب في هالوطن عم بجوع عشان أفكاره، وفيه حدا بقول لا ولو لمرته ما راح ايأس"، هذه هي حكاية سماح إدريس الذي رفض التطبيع وعاش نصير اللغة العربية، ورفض كسرة الخبز الأمريكية لإدراكه أن الأمريكي وحلفاؤه هم من يدمرون ألعاب أطفال فلسطين.
أسأل نفسي لماذا أكتب عنك وأنا لأعرفك؟ ولكن في لحظة ما أدركت أنني أكتب لا من أجلك، بل من أجلنا نحن الذين لا نعرفك، لم نلتقي يوماً، لم نجلس بين الكتب نتحاور حول صديقك ماهر اليماني، ورسالتك إلى جورج حبش تتحدث له عن غيابه في ظل تطورات المنطقة وخصوصاً عن "الربيع العربي"، ربما عزيزي سماح لو كنت الآن موجوداً لتحدثنا عن الحب الفلسطيني كيف يغلق الاحتلال الحاجز وحبيبتك تجلس بجانبك وأنت قلق على تأخرها على البيت وتسألها ماذا ستقولين لعائلتك؟ لتحدثنا أيضاً عن استشهاد الأسير سامي العمور، هذا العاشق الذي تعهدت خطيبته أن تبقى معه حتى الموت وصدقت بذلك.
يقول مظفر النواب في قصديته نعم مولاي تراب: "جميعُ الشرفاءِ بهذي الأمَّةِ أغرابُ"، وأنت كنت الغريب الذي يرفض المستوطِنون العرب، كنت مناضلاً مقاتلاً تؤمن بمقاطعة الاحتلال ثقافياً وسياسياً واجتماعياً... آمنت بوصية مظفر النواب، فكنت حذراً أن تزرع إسرائيل في رأسك، ولهذا كنت الغريب في نظرهم، وكنت المشتبك في نظرنا، وربما كنت تؤمن إذا كنا غرباء في نظرهم هذا يعني أننا شرفاء في وطننا، فكنت الغريب.
"إذا اتّفقنا على ضرورة وجود غسّان كنفاني جديد في واقعنا الراهن، فكيف نهيِّئ لولادتِه؟ كيف نبْني بيئةً حاضنةً جديدةً تفرِّخ غسّانًا جديدًا: يَجْمع بين الإبداع الأدبيّ والفنّيّ والنضالِ السياسيّ اليوميّ؛ بين التنظير الاستشرافيّ ونقدِ الفكرِ اليوميّ؛ بين القوميّةِ المنفتحة والاتجاهاتِ التقدّميّةِ العالميّة؟، ماذا نفعل كي نَخْلق مُناخًا يُزهِر فيه غسّانٌ جديدٌ، أو غساسينُ جدد؟ كيف نُحْيي وضعًا ثقافيًّا/سياسيًّا عربيًّا مَوّارًا بالأسئلة والنقاشات والصخبِ الفكريّ الناضج، وبيروتًا تَنبضُ فلسطينًا ومسرحًا وسينما وأدبًا وتظاهراتٍ، وتنظيمًا سياسيًّا يَدفع بالمبادرات الفرديّة الخلّاقةِ قُدُمًا بدلًا من أن يخنقَها في مهدها بذريعة "احتقار المثقفين والبورجوازيّة"؟ كيف يكون كلُّ فعلٍ نقوم به فعلًا هادفًا، مركّزًا، كالسهم الذي رسمه غسّان في شعار الجبهة الشعبيّة: منطلِقًا نحو فلسطين؟"
تلك الأسئلة كانت تداهمني دائماً سماح، ولكن لم أستطيع الوصول إلى إجابة مقنعة لها، طرحتها أنت محاولاً البحث عن إجابة في ظل واقعنا المعقد وخصوصاً واقعنا الثقافي، ولكن دعني أقول لك: أن هذه الأسئلة كانت تهمك أنت لأنك الإجابة عليها، أنت من كان الغسان الجديد الذي نبحث عنه، المثقف الذي يحمل إرادة الوعي بداخله ويؤمن بالثورة الواعية، أنت من عشت تشتبك يومياً بالكلمة رافضاً الاستسلام، ومؤمناً بما قاله كنفاني: "ليــس المهـم أن يمـوت الإنســان، قبــل أن يحقــق فكــرته النبيلــة... بــل المهــم أن يجــد لنفســه فكـــرة نبيلــة قبــل أن يمــوت"، ولقد وجدت أنت الفكرة النبيلة هي "فلسطين".
سيحملون نعشك فوق أكتافهم يذهبون بك إلى البيت الأخير، هناك وفي اللحظات الأخيرة سوف يدركون إحساسهم بغيابك لا كجسد بل كفكرة، وربما عليهم أن يدركون أنك حملت فلسطين في رأسك وقررت أن تعيش، إما عظيم فوق الأرض أو عظامً في جوفها.
نعيش نحن الذين لا نعرفك في هذه اللحظات حزناً يعاتبنا ويقول: "ليتكم تعرفون سماح"، لا قبلة فوق جبينك الشرس، ولا وردة نزرعها حولك، ولكن سنقرأ من أجل ما عشت لأجله أنت، سنكتب عن البرجوازية، والاستعمار، والرجعية العربية، سنكتب عن الشهداء والأسرى والجرحى، سنكتب أيضاً عن حاجتنا إلى سماح إدريس، وسنقول عندما تتحرر فلسطين: "أننا نفتقد سماح اليوم".
لا أعرف كيف يجب أن تنتهي هذه الكلمات أو حتى هل استطعت أن أكتب عنك؟ أحاول تأمل صورتك وابتسامتك، أجمع الحروف لتكون جملة لعلها تقول شيء عنك، أشعل سيجاره جديدة ممزوجة بجملتك التي قلت فيها: "إذا تخلينا عن فلسطين تخلينا عن أنفسنا"، تلك الجملة التي حملت رسالتك "أنك كنت فلسطين وفلسطين كانت أنت".
إلى اللقاء سماح.. إلى اللقاء أيها الإنسان، أيها الموقف، القضية، ودعني أقول وأعتذر أنني أغفلت ذلك أنك كنت أنت الفكرة التي نبحث عنها..
