تصادف هذه الأيام الذكرى 54 لتأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، ومنذ تأسيسها مرّت الجبهة بمحطاتٍ تاريخيةٍ، شكّلت مسيرتها النضالية كحزبٍ حافظ على موقعه في حركة التحرّر الوطنية الفلسطينية بالتوازي مع حفاظه على رؤيته الجذرية للصراع مع العدو الصهيوني وفق المقولات والمبادئ التي بُني عليها، وتمكّن رغم التغيرات العاصفة المحلية والإقليمية والدولية من الحفاظ على التوفيق بين النظري والعملي.
انبثقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عام1967م عن حركة القوميين العرب التي تأسّست عام 1948م كردٍ فعلٍ على النكبة، وتجلّى الظهور الأوّل للقومين العرب بـ"كتائب الفداء العربي"، حين انتقل الشباب العربي من "مرحلة الحيرة" والتردّد إلى مرحلة تبني العنف لتميّز نفسها عن "أحزاب العهد القديم"، وتبنّت الحركة منظومةً رمزيةً ثلاثية هي: وحدة.. تحرر.. ثأر.
تشكّلت "كتائب الفداء العربي" عام 1949م من التقاء مجموعةٍ شبابيةٍ من سوريا، مصر، لبنان، ومثّل فلسطين في المجموعة المناضل الراحل جورج حبش ، آمنت هذه المجموعة بشكلٍ مبسطٍ بأنّ "إزالة إسرائيل أمرٌ مرهونٌ بقيام الوحدة العربية" لتؤسس إحدى أوائل الحركات المسلحة، وكرد فعلٍ على قيام دولة العدو.
هيئة مقاومة الصلح مع "إسرائيل"
في أواخر عام 1952م، أسّس حبش مع هاني الهندي ووديع حداد وأحمد اليماني "هيئة مقاومة الصلح مع إسرائيل" ومثّلت هذه الهيئة تجليًا آخرًا لحركة القوميين العرب وامتدادًا عميقًا لـ"كتائب الفداء العربي"، ونشطت الهيئة ضد "مشروع جونستون" الذي يهدف إلى خلق تعاونٍ بين الدول العربية مع "إسرائيل" ومثلت نشرة "الثأر" الأسبوعية التي صدرت بتوقيع "الشباب القومي العربي" عام 1953م كمنصّةٍ للتعبير عن معارضة المشروع.
الشباب القومي العربي
تشكلت نواة "الشباب القومي العربي" بداية خمسينيات القرن الماضي، من مجموعة طلابٍ عرب على وشك التخرج من الجامعة الأمريكية في بيروت مزجوا بين الدراسة والعمل السياسي، وأسسوا "أخوية قومية سرية" بالتزامن مع تصاعد الحديث حول تأسيس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) من ناحية، ومشاريع الاستيطان في فلسطين من ناحيةٍ أخرى.
عقد "الشباب القومي العربي" المؤتمر التأسيسيّ الأوّل في ديسمبر/ كانون الأول 1956م، وتوافق المؤتمرون على العمل تحت اسم: "حركة القوميين العرب" بقيادة "اللجنة التنفيذية القومية" وضمّت 11 عضوًا أبرزهم: جورج حبش ووديع حداد.
قامت حركة القوميين العرب على فكرة "المركزية المرنة" متأثرةً بمبدأ "المركزية الديمقراطية" في الأحزاب الشيوعية، واعتبر "القوميون" أن حركتهم تعلّم الأخلاق كدرسٍ ثابتٍ من دروسها، إذ خضع العضو إلى رقابةٍ صارمة، فكان عليه أن يتصرّف كـ"شمس صغيرة، يضئ، ويدفئ، ويجري في مجراه طوقًا من الكواكب"، بينما ضبط سلوك أعضاء الحركة مجموعة من المسلكيات والمفاهيم أبرزها: السرية، وتجلت بأنّ استبدلت الحركة أسماء منتسبيها بأسماءٍ حركيةٍ مستعارة، والطاعة وتمثلت بمبدأ: "نفذ ثم ناقش" وأخيرًا بـ"النقد والنقد الذاتي".
قررت قيادة الحركة الانتقال من "الشعارات الثورية" إلى "التطبيق العملي"؛ فأسست عام 1958 "الجهاز النضالي" وبدأت بتدريب كوادرها للعمل العسكري في معسكرات الجيش المصري زمن الرئيس المصري جمال عبد الناصر.
ساد العلاقات القيادية خلال مرحلة التأسيس الانسجام التام، حتى ظهر أول اختلاف بين قادة الحركة إثر الوحدة العربية بين مصر وسوريا، وطرح محسن إبراهيم - وهو لبنان من المؤسسين الـ 11 للحركة- فكرة حل الحركة وتذويبها بـ "الناصرية" طالما أن الوحدة العربية بدأت عمليًا تتحقق بقيادته.
عكست الفكرة أجواءً غير مألوفة داخل الحركة، وكرد فعل لذلك؛ شكلت الحركة "اللجنة الفكرية" بقيادة محسن إبراهيم لتصميم برامج تثقيفية للقاعدة الحزبية، ولإعداد وثائق تطرح فكر "القوميين العرب".
وخلصت دراسة أعدّتها "اللجنة الفكرية" إلى "ضرورة الالتحام الكامل بالناصرية" إلا أنّ الحيكم جورج حبش وقف ضد الفكرة مؤكدًا على ضرورة الوقوف أمام سلبيات "التيار الناصري" وعدم مجاملته والتعامل بمواقف علمية، ومعربًا في الوقت ذاته عن تقديره الشديد "للناصرية".
من جهة أخرى، تشجعت قيادة الحركة لفكرة الزعيم العربي جمال عبد الناصر" لبناء كيان فلسطيني، وعليه؛ عملت الحركة لإحياء الهوية والوجود الفلسطيني، وفرزت الحركة أعضاءها الفلسطينيين، وأنشأت "لجنة فلسطين" التي تحولت إلى "جهازٍ فلسطينيٍ خاص" عرف باسم: "إقليم فلسطين".
أقر مؤتمر الحركة في بيروت عام 1964م الخطوة، وتبنى اسمًا جديدًا لها هو:" الجبهة القومية لتحرير فلسطين" ذاع صيتها بين الجماهير تحت اسم: "شباب الثأر"، وتولى وديع حداد مسؤولية الإعداد للعمل الفدائي، ونفذت "الجبهة" أول اشتباك مع العدو في ذكرى وعد بلفور الـ47 ليرتقي أول شهدائها وهو: خالد أبو عيشة، وتبعها تشكيل منظمة "أبطال العودة" التي نفذت هجومها الأول ضد ثكنات العدو "الإسرائيلي" في 21 أكتوبر/تشرين الأول 1966م استشهد خلاله ثلاثة مناضلين وأُسر آخر.
توسّع حضور الحركة بين الجماهير العربية بالتوازي مع رواج عبد الناصر حول العدالة الاجتماعية في الأقطار العربية، وبتأثير عبد الناصر، اقتربت "حركة القوميين العرب" من "الاشتراكية العلمية" وتوافقت قيادتها على تبني تلك الأفكار عام 1966م.
وفي ضوء الدروس السياسية والنظرية والتنظيمية للهزيمة عام 1967م، طرحت الحركة تحليلًا جذريًا مفاده أنّه: ليس من المعقول أن ينتهي نظام عبد الناصر الذي قاد الجماهير العربية 12 عامًا إلى هذا المصير، مؤكدًا أنه لا بدّ من "حرب تحرير شعبية" وتنظيم يقود هذه الجماهير، ويتبنى برامج عسكرية وسياسية واجتماعية واقتصادية متطابقة مع مصالح الجماهير المسحوقة، واعترفت الحركة "بخطأ المراهنة على التيار الناصري" وبناء على موقف الحركة الجديد شهدت الحركة حالة من الانقسامات وخرج بعض الضباط الناصريين وجبهة التحرير الفلسطينية من الحركة، ثم تراجعت وتفككت اسمًا ومضمونًا، في حين تطابقت الحركة مع "الجبهة" ولم تنقطع عنها فكريًا حتى يومنا هذا، وبهذا المعنى ظهرت "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين".
وردت أول إشارة عن ظهور تنظيمٍ جديدٍ يحمل اسم:" الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" في صحيفة "الأنوار" اللبنانية، في عددها الصادر في 7 كانون أول/ ديسمبر 1967م، كونها كانت وثيقة الصلة بالتنظيم الفلسطيني لـ"حركة القوميين العرب" بينما أصدرت "الجبهة الشعبية" بيانها السياسي الأول في 11 كانون الأول/ ديسمبر من نفس العام.
وأوضح الأمين العام المؤسس جورج حبش، في مقابلة مع المؤلف فؤاد مطر نشرها في كتابه حكيم الثورة عام 1984م، أنّ هذه التسمية مدروسة بعناية شارحًا: إنّ لكلمة "جبهة" دلالة سياسية تشير في داخلها إلى "تحالف القوى" بينما "الشعبية" تعطي بعدًا طبقيًا يستند إلى طبقات الشعب الكادحة، أما الكلمتان المتبقيتان هما: "تحرير فلسطين" تحددان الهدف السياسي الرئيس لهذا التنظيم.
وتشكلت "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" نتيجة التحالف على أساس البرنامج التحرري المشترك بين جبهة التحرير الفلسطينية بقيادة أحمد جبريل، ومنظمتي "أبطال العودة" والجبهة القومية لتحرير فلسطين "شباب الثأر".
أكملت الجبهة الشعبية مسيرة العمل الفدائي ضد الاحتلال "الإسرائيلي" التي بدأت بـ"أبطال العودة" و"شباب الثأر" وأعلنت، في 23 تموز/ يوليو 1968م، توسيع نشاطها العسكري للخارج وملاحقة العدو في كل مكان، معلنةً تبني خطف طائرة "إسرائيلية" تابعة لشركة "العال".
انسحبت جبهة التحرير الفلسطينية بقيادة أحمد جبريل من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عام 1968م، وشكّلت "الجبهة الشعبية – القيادة العامة" بسبب خلافات أيديولوجية وبالموقف من أنظمة عربية آنذاك، وبعد عام انشقّت مجموعةٌ أخرى عن "الجبهة الشعبية" رغم غياب المبرر الموضوعي لهذا الانشقاق، وظلوا يعملون تحت نفس الاسم إلا أنّ قيادة الجبهة أصرت على رفض ذلك حتى أضطّر المنشقون في 22 شباط/ فبراير 1969م، إلى الإعلان عن تأسيس " الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين ".
أعادت الجبهة الشعبية تنظيم صفوفها، ورسمت في مؤتمرها الوطني الذي عقد شباط/ فبراير 1969م صورتها المستقبلية وأصدرت مجلة الهدف التي ترأس تحريرها الشهيد الكاتب والمناضل غسان كنفاني ، وتحولت "الجبهة" إلى حزبٍ للطبقة العاملة، مؤكدًة أنّ هدفها هو "تحطيم دولة إسرائيل ككيانٍ عسكريٍ سياسيٍ اقتصاديٍ قائمٍ على العدوان والتوسع والارتباط العضوي بمصالح الاستعمار".
وأرست الجبهة منذ ذلك الحين جملةً من المبادئ هي: أنّ العمل الوطني العفوي والمرتجل لا يلبث أن ينتهي إلى الفشل، وأن الفكر الثوري العلمي هو الفكر الواضح تستطيع به الجماهير أن تفهم عدوها وبالمقابل تفهم قواها.
وفيما يتعلق بالعلاقات الداخلية، أكدت أنّ البرجوازية الفلسطينية الكبيرة هو بالأساس برجوازية تجارية ومصرفية تتشابك مصالحها وتترابط مع الإمبريالية التجارية ومصالحها المصرفية؛ وبالتالي فهي المدى الاستراتيجي ضد الثورة من ناحية.
ومن ناحيةٍ أخرى، أكدت على أهمية التعامل بإيجابية مع "القوى الإسلامية" لتحشيد الجهود والطاقات بعيدًا عن فرض المواقف الأيديلوجية، مع ضرورة التنبه لرؤية هذه القوى وتكتيكاتها تجاه الممارسات الاجتماعية، والبرنامج الوطني المرحلي ومنظمة التحرير.
وحدّدت "الجبهة" علاقتها بالحركة التحررية العربية العالمية، معتبرةً أنّ "الثورة الفلسطينية المتلاحمة مع الثورة العربية ومع الثورة العالمية هي وحدثها القادرة على تحقيق الانتصار".
ويتجلّى دور الجبهة الشعبية في العمل الاستراتيجي الجاد من أجل الإسهام الفعال في وقف انحراف قيادة حركة التحرر الوطني وإعادة توجيه مسارها التحريري الديمقراطي في إطار استراتيجية التحرير القومي العربي الأشمل.
المصدر كتاب المسيرة التاريخية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين اصدار الدائرة الثقافية المركزية.