Menu

الوداع

ثائر أبو عياش

إنها بيوت الفقراء، أولئك الذين ينبضون من جبينهم قهراً في زوايا وطن بات مقبرة كبيرة لجثث تعيش بلا أمل، وحراس القبور ينبشون الجثث بحثاً عن أسنان يبيعونها في سوق السراب، تلك البيوت تشاهدها في كل جنازة، ستلمس البساطة من شكل مزهرية الورد ومن الطاولة التي تضعها عليها، ستدرك قربهم من القضية عندما تشاهد صور فلسطين تملء جدرانهم. إنها بيوت لم يتوقف فيها الدمع يوم واحد، بل على عتباتها صرخت الأم عندما جرح ابنها في مظاهرة تساند الأسرى، وعلى نفس العتبة جلس الأب يخنق دموعه ليلاً عندما أقتحم الجيش البيت لاعتقال ابنه ولم يكن له عزاء سووا سيجارته رخيصة الثمن، وأيضاً على نفس العتبة وقفت النساء كل النساء يزغردن عندما أصبح هذا الجريح، هذا الأسير، شهيد، وأصبح البيت بيت الشهيد. في هذه البيوت يبقى السؤال مخبأ هناك في زاوية ما لا أحد يجرؤ أنه يخرجه من مكانه "متى سيكون الوداع؟". يذهب الأب إلى العمل، والأم منذ ساعات الصباح تعيد ترتيب البيت كما تريد لتشعر سكانه أن هناك تغيير بسيط على الرغم أن "طقم الصالون" هم منذ عشرون عاماً، ولكن تقول الأم لابنتها دعينا نضع الطاولة عند الكرسي المفرد لا المجوز، في قراراتها تدرك كل تغيير حتى لو كان بسيطاً يمنح الأمل، إن هذه الأم هي صانعة الأمل داخل البيت.

أما الأبناء سيذهبون إلى المدارس، ومنهم إلى العمل، سيعود الجميع يجتمعون عصراً أو ظهراً أو في ساعات الليل، يتناولون طعاماً لأجله عاش الجميع صراعاً يومياً أقرب إلى الجنون، على سرير النوم يضع الجميع أحلامه، الأم تفكر في تجهيزات العرس، والأب يفكر كيف يحقق أحلام الأم، والعريس يفكر ويسأل "الليلة ربما الجيش يقتحم المخيم؟".

متى يكون الوداع؟ هكذا تسأل العروس وهي تنظر إلى صورة عريسها، قريباً سأكون في البيت بيت زوجي، سأصنع له أشهى الطعام، وسأبتسم في وجهه عندما يعود من العمل، ولكنها فوق جسده المدد الذي يغطيه الورد وعلم فلسطين قالت له: بيتك في الجنة أجمل، ربما لو كان يستطيع الحديث لقال لها: كنت أفكر ليلتها هل الرصاصات تكفي؟

ستقول اليوم عروسته بات الغياب من نوع آخر، كنت إلى وقت قريب أقول بأن الغياب هو: أن تصنع كوب من القهوة، تبدأ المياه بالغليان رويداً رويداً، دون إدراك منك يبدأ البخار بالانسحاب مثل سارق ماهر، مع ذلك الانسحاب تتذكر أن تضع قليلاً من القهوة التي يحتاجها رأسك، لتجد أن الوعاء وحيداً مع النار، هكذا كان يفعل غيابك بداخلي، ولكن كنت أدرك أنك ستعود تتصل بي أو ربما تأتي لرؤيتي، أما اليوم أصبحت أنا الوعاء الفارغ الذي يغلي على النار.  

إنه الوداع يقفز من مكانه ويصبح هو القاعدة عندما كان الاستثناء، يصبح شيء نوعياً لا كمياً، تراه في الدموع، في الوجوه الشاحبة للنساء اللواتي يشرفن على مرحلة الحكمة، تراه هناك مرابطاً على وجوه الأصدقاء غضباً وحقداً وكرهاً، وتراه أيضاً في عيون الأطفال الذين يركضون وأعلام فلسطين ترفرف بين أيديهم، تراه بقوة عن شباك البيت في عيون الطفلات وهن يسألن هل سنودع من نحب غداً نحن أيضاً؟

سيأتي هذا الوداع يقف بجانب الأب كتاريخ ينبش بالذاكرة عن كل لحظة عاشها مع ابنه، وسيأتي أيضاً إلى الأم كحليب يذكرها بابنها الذي كان طفلاً فأصبح عريس ثم شهيد، سيخرج الوداع من القلب والعقل والروح، سيأتي من كل زاويا من الجسد من العين كدمع، من الأذن كصوت، ومن الفم كصراخ...، لا بل سيخرج من الحجر والشجر، سيأتي مع التاريخ، والجغرافيا، والسياسة، هي الأخيرة ستبقى لعنة الوداع الأبدية لأنها وحدها التي تصنع الوداع.

في فلسطين لا تعلم إن كنت ستكون مودعاً أم يقوموا بتوديعك، هكذا هي الحياة بلا سوداوية بل كحقيقة، عندما تخرج من البيت وعلى حاجز القرية أو المدينة أو المخيم ربما يكون وداع، والسخرية إذا جاز التعبير هو أننا نقول الوداع، ونحاول اختيار أي مصطلح لنهرب من المعنى الحقيقي للموت، ربما نتحايل لتخفيف الألم، أو ربما هو مواساة من حولنا لذلك نقول استشهد حتى نجعل للموت قيمة وهو فعلاً كذلك، ولكن تبقى القضية قضية خوف لذلك نخترع أي مصطلح جنوني نعطيه طابع لطيف، لأن الخوف هو المحك في مثل هذه الحالة.

مهما فعلنا سيأتي، مهما قاومنا سيأتي، سنكتب عنه، نعيشه، وربما نتقاسم معه الطعام، سنحاول نسيانه بقتل الوقت، وربما بقتل الذاكرة، ولكنه سيعود، هو الحقيقة طالما هناك احتلال، ولكن علينا أن لا نتعامل معه كشيء وجوده طبيعي، وإذا كنا فعلاً نريد أن ينتهي علينا اولاً وقبل كل شيء أن ننهي الاحتلال لأنه السبب التاجي في الوداع، هذا الاحتلال هو من جعل من نفسه سبب لا نحن من جعلناه وهذه مشكلتنا الرئيسية معه.

لنغني للوداع في فلسطين كما غنى مارسيل خليفة:

عودوا أنى كنتم فقراء كما كنتم

غرباء كما كنتم

يا أحبابي الموتى عودوا

حتى لو كنتم قد متم

صمتاً صمتاً من هذا الطارق أبواب الموتى

يا هذا الطارق من أنت

أيكون العالم

لم يبق لدينا ما نعطيه أعطيناه دمنا

أعطيناه حتى أعظمنا وجماجمنا

ومضينا مقهورين

لا نملك إلا بعض تراب لم نعطيه

يا هذا الطارق أبواب الموتى

ضوضائك تفزعنا

وتقض مضاجعنا

فارجع لا ترجعنا

لا تحرمنا النسيان

يا أحبابي الفقراء

يا أحبابي الغرباء

كنتم أبداً عظماء

يدعونا كي نرجع

لم يبق لدينا أرجل

لكنا سوف نسير ومياه النهر تسير

وشموس الأفق تسير وتراب الأرض يسير

ونظل نسير نسير ..