Menu

تحليلالأمن والوهم: عندما كسر الرعد الحازم روتين "الإسرائيلي العادي" في "ديزنجوف"

بوابة الهدف - أحمد مصطفى جابر

لم يكن ممكنا، للهجوم الفدائي في شارع ديزنجوف أن يمر مرور الكرام في وعي "الإسرائيلي" العادي، هذا الوعي الذي تم كيه بشدة، عندما هاجم فدائي فلسطيني واحد، فقاعة تل أبيب، قدس أقداس النموذح الصهيوني العلماني، بل "إسرائيل المصغرة"، معلنا انتهاء الروتين الذي استمر عشرين عاما ربما، وأنه آن الأوان لدفع الثمن.

لم يعد ممكنا "للإسرائيلي العادي" أن يشاهد التلفزيون، وهو يسترخي في شقته المريحة، ويصفق لجيشه وهو يمارس "نشاطاته الروتينية" في الضفة الغربية، مكان بعيد وربما خيالي في ذهنه، أحال هذا "الإسرائيلي العادي" مسأله التحكم به وضبطه، وترويضه للجيش والشابك، بينما هو يمضي مرتاحا في حياته العادية، التي قد تكون مملة أحيانا، ولا يكسر روتينها إلا فدائي قادم من تلك الأراضي المتخيلة، البعيدة عن الوعي التي تسمى "المناطق".

كان الهجوم على شارع ديزنجوف هو الرابع الذي يقع في مدينة في الداخل المحتل، خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، ولكن في المنظور الصهيوني، تبقى بئر السبع هامشية، ضمن مخيال استشراقي يراها كبلدة بدوية، مستوطنة بدوية بالأصح، ولذلك ستحظى الخضيرة وبني باراك بأهمية أكبر وبالذات، ديزنجوف فهنا تأتي الضربة الكبرى.

في ردات فعلهم، التي ترددت أصداءها في وسائل الإعلام، دعا السياسيون الصهاينة، إلى اتخاذ إجراءات قمع أكثر شدة ضد الفلسطينيين، وقد قاموا رغما عنهم بتوحيد "الفلسطينيين" فمن يتحدثون عنهم هم الذين "هنا" في الداخل والذين "هناك"، من رعايا الجيش والشاباك في الضفة الغربية المحتلة، يعود بيرق الأمن ليرفرف عاليا وكل شيء مباح باسم "الأمن".

لكن بالنسبة لهؤلاء السياسيين، فإن "الأمن" لا يعني في الحقيقة إنقاذ الأرواح، أو حماية جميع المدنيين من الأذى، بل يتعلق الأمر بالحفاظ على دوام الاحتلال، ومن أجل هذا، الحفاظ على النظام الاجتماعي والسياسي وضبطه. ويتعلق الأمر بالتحكم في توزيع الموارد والامتيازات لليهود الصهاينة، فهو مجرد غطاء لإيديولوجية أعمق للاستيطان ونزع الملكية. إنه وعد عنيف لا تستطيع السلطات الوفاء به، حتى مع اقتناع الغالبية العظمى من "الإسرائيليين" بفرضيته، ليبدو في النهاية ليس أكثر من كذبة، ولكنها كذبة كبيرة.

طوال سنوات، صرخ المواطنون الفلسطينيون في الداخل ضد الجريمة، وضد سلاح الإجرام، وساهمت المؤسسة الصهيونية بحماية المجرمين وتسليحهم والتغطية عليهم والامتناع عن الاستجابة لنداءات "مواطنيها" للحكومة لفعل شيء حيال عنف السلاح والجريمة المنظمة التي ابتليت بها مجتمعاتهم، فقط تدق ساعة الشرطة الصهيونية، وتضاء الأضواء الحمراء في مراكزها عندما يصوب هذا السلاح ضد اليهود، عندما تفلت بندقية واحدة، من إطار الجريمة، إلى إطار المقاومة الثورية العنيفة للمحتل، الذي لسان حاله يقول سنسلحكم ونسمح لكم بقتل بعضكم البعض ولكن نحن سنحدد بوصلة الرصاص، وأي رصاصة تخالف قانون البوصلة الاحتلالي ستلاحق وتصفى على الفور.

هذا عن فلسطينيي الداخل، ناهيك عن رفاه أولئك الواقعين تحت احتلال عسكري مباشر، فهل "إسرائيل" مهتمة بسلامة الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، الذين يعيشون كل يوم في خوف دائم على حياتهم وسبل عيشهم، محاصرين من قبل جيش أجنبي يعمل كقاضي وجلاد في آن معا، هؤلاء يعلمون أنه لايمكن مساواتهم أبدا برواد ديزنجوف وحياتهم غير مهمة في نظر ذلك "الإسرائيلي العادي" الذي يتمدد على أريكته يراقب أخبار القمع الوحشي في جنين، مطمئنا لسلامة القوى العقلية لجيشه وكفاءته في الميدان، ولكن هذا كله انتهى، وهو يعلم إنه انتهي لذلك عليه أن ينتظر القبضات الثقيلة للقوات الخاصة فائقة التسليح التي ستقرع بابه في البحث عن الفدائي، يطلبون منه إطفاء الأنوار، وعدم الخروج، لأن شارعه الآمن لم يعد آمنا.

المشكلة التي يعاني منها هذا "الإسرائيلي العادي" عندما يقرر فتح عينيه وعقله، هي التناقض بين الحقيقة وبين ما يقال له، وبين ادعاء قادته بقدرتهم على توفير الأمن له، وبين اعترافاتهم بالعجز المطلق، وقد اعترف العديد من الأعضاء السابقين في المستوى الأمني ​​الصهيوني، من جنرالات الجيش إلى مدراء الشاباك، بأن إبقاء ملايين الأشخاص تحت نظام مستدام بالقوة لا يمكن أبدًا أن يضمن الأمن على المدى الطويل. لكن النخب السياسية والعسكرية والثقافية في الكيان استمرت في رفض هذه التحذيرات.

بدلاً من ذلك ، السكان اليهود، المستوطنين الصهاينة في فلسطين بالأصح، الذين حصدوا فوائد ما يسمى بالوضع الراهن، قاموا بخلق فقاعة نفسية ببراعة للتخلص من أي مصلحة في فهم "كيف يعيش الجانب الآخر"، وهذه الفقاعة، لاتهتز إلا في لحظة رعد حازم، عندما تنفلت رصاصة ثائرة في ديزنجوف، وعندما يتم توجيه صاروخ أو سكين أو مسدس ضد "الإسرائيلي العادي" من "الجانب الآخر" ، مما يجبره حينها ولو للحظات على تحويل "هناك" إلى واقع وليس أمرا خياليا، عندها يمكنه تذكر الملايين الذين يساعد ويوافق على احتلااهم وقمعهم وقتلهم اليومي.

وهكذا فأولئك الذين يبتكرون عقوبات جديدة ومبتكرة للمجتمع الفلسطيني بعد هجوم ليلة الخميس يدركون أن جهودهم ليست "حلولًا" بقدر ما هي خطوات في روتين أصبح متكررًا بشكل محبط, بعد كل شيء، هناك سبب أن "قص العشب" و "حرق الوعي" و "إظهار من هو المسؤول" أصبحت عبارات قابلة للتبادل في الإجماع السياسي الصهيوني، و يهدف هذا "المسرح الأمني" إلى إعادة طمأنة الجمهور (العادي) بأنه يمكن قمع العنف الفلسطيني من خلال لفتة دموية ووحشية ونهائية، والتي من شأنها أن ترعب الفلسطينيين تمامًا بحيث يتحقق الأمن دون الحاجة إلى تسوية سياسية.

لكن تصريحات إثارة الحرب هذه تبدو وكأنها قديمة بشكل متزايد، إنها حجج تم التدرب عليها جيدا، ولمنها واهترأت من فرط الاستخدام، وهي طقوس خالية بشكل متزايد من الجوهر. حيث سيحاول المؤيدون المثيروزن للسخرية من جماعة "إدارة" أو "تقليص" الصراع ثني "الإسرائيلي العادي"، عن التفكير في أن هذه الحالة لا يمكن الدفاع عنها. قد يتفاجأ البعض عندما يعلم أنه على الرغم من إلغاء الحديث عن حل، فقد رفضت المشكلة بعناد الاختفاء، الفلسطينيون لايختفون، ويواصلون الظهور والتسلل من أصابع القبضة الأمنية، ويعلنون عن أنفسهم بقوة وفخر، و الحقيقة لا مفر منها: طالما اختار الكيان المحتل رؤية "الأمن" هذه بينما يتخلى عن أي تظاهر بمحاولة "إنهاء الصراع" ، لا يمكن لهذا "الإسرائيلي العادي" إلا أن يتوقع المزيد من كسر روتين حياته.

عليه أن يتوقف عن حفظ أسماء من قتلوا في ديزنجوف وسيجد نفسه مجبرا بمواجهة لحظة الحقيقة على حفظ أسماء أخرى قد يكون وقعها غريبا على مسامعه، أسماء تنتمي إلى ذلك المكان المتخيل في ذهنه والذي لايعرف عنه شيئا سوى بيانات الشاباك والناطق باسم الجيش "المناطق"، يعرف إنها ليست مجرد "المناطق" في الواقع سيعتاد أسماء مثل عمار شفيق أبو عفيفة، وهو فلسطيني يبلغ من العمر 18 عامًا قتل برصاص جندي صهيوني أثناء الاستمتاع بنزهة في جنوب الضفة الغربية الشهر الماضي، أو إسماعيل طوباسي الذي قتل على أيدي مستوطنين قاموا بتشويه جثمانه في جنوب تلال الخليل في أيار الماضي. أو نادر ريان ، 17 عامًا فقط ، الذي قُتل برصاص جنود وهو في طريقه إلى عمله في نابلس في الشهر الماضي، أو غادة سباتي، الأرملة التي ترعى ستة أيتام، ربما سيتساءل "الإسرائيلي العادي" عن مصيرهم.