Menu

عودة للصراع على الوعي

د. محمد السعيد إدريس

في معرض دفاعه عن الإفراط الشديد في استخدام العنف من جانب قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد المصلين والمعتكفين بالمسجد الأقصى، دون تمييز بين شيوخ كبار السن أو أطفال أو نساء، نفى رئيس حكومة كيان الاحتلال نفتالى بينيت، في حديثه مع محطة «سي إن إن» الإخبارية الأمريكية أن تكون الضفة الغربية أو مدينة القدس (الشرقية)، حيث يقع المسجد الأقصى أرضاً محتلة، ما يعنى حرصه، وهو من عتاة اليمين اليهودي المتطرف، على فرض الرواية الإسرائيلية للصراع في فلسطين التي تزعم كذباً أن فلسطين كلها أرض يهودية خالصة، وأنه لا وجود لا لأرض فلسطينية ولا لشعب فلسطيني، والتأكيد على أن كل الحروب التي خاضتها «إسرائيل» هي «حروب استقلال» وأن الفلسطينيين ليسوا إلا مجرد أقلية عرقية متمردة تمارس «الإرهاب» وأنه لا وجود ولا قبول لدعوة إقامة «دولة فلسطينية» على أي جزء من أرض فلسطين. هذه الرواية قد يتم تجميلها أحياناً من جانب بعض زعماء اليسار أو الوسط الإسرائيلي على نحو ما جاء على لسان بينى جانتس وزير الحرب في حكومة نفتالى بينيت في حديثه مؤخراً مع موقع «واللا» العبري الإخبارى. في هذا الحديث استعرض جانتس رؤيته بالنسبة للحل السياسي مع الفلسطينيين وقال: «إن هذا الحل ينطوي على واقع يعيش فيه كيانان منفصلان إسرائيلي وفلسطيني مع الحفاظ على الهيمنة الأمنية الإسرائيلية في المنطقة برمتها». ما يعنى الإصرار على رفض قيام دولة فلسطينية مستقلة، على الأقل على الأرض التي احتلت عام 1967، والقبول فقط في أحسن الأحوال، بكيان فلسطيني منزوع السيادة والهوية وحقوق المواطنة يبقى خاضعاً وتابعاً للسيطرة والهيمنة الإسرائيلية.

هذه الرؤية لتيار اليسار والوسط تتهم من جانب تيارات اليمين و اليمن المتطرف، التي هي القوة الغالبة الآن والمسيطرة على القرار السياسي، بأنها «رؤية منحرفة» عن «الرواية الإسرائيلية» إصدار هذا القانون كان إيذاناً بشن حرب نفسية إسرائيلية على الوعي والذاكرة الوطنية الفلسطينية وعلى الوعي والذاكرة القومية العربية لطمس أي معالم لرواية فلسطينية- عربية تقول إن «فلسطين عربية» وأن «الإسرائيليين محتلون وغاصبون» وأن الشعب الفلسطيني له كل الحق المشروع والقانوني في الدفاع عن نفسه وعن حقوقه وعن وطنه المغتصب. هذه الحرب يعرفونها في إسرائيل بأنها عملية تستهدف «كي الوعى الفلسطيني والعربي» لمحو وإزالة كل ما علق به من وعى وفكر يتعارض مع الرواية الإسرائيلية، لذلك لا تتوقف الحرب الإسرائيلية على التراث الفلسطيني، ومؤخراً أقرت، ما تعرف بـ «وزارة شئون القدس والتراث» الإسرائيلية، بالعمل الجاد والمكثف بهدف طمس أي تراث فلسطيني في القدس المحتلة، من هنا تجئ المحاولات الإسرائيلية المستميتة لتثبيت حقوق لليهود في المسجد الأقصى سواء عبر عمليات الاقتحامات التي تقوم بها جماعات المستوطنين المتطرفين للأقصى من أجل مزاعم كاذبة وهى «الصلاة» للتأكيد أن الأقصى ليس للمسلمين وحدهم بل لليهود أيضاً، أو من خلال جهود الدولة لفرض ما يسمى «حرية العبادة» في الأقصى، بالزعم أن لليهود حقوقاً في الأقصى، أو من خلال الحرص على تخليق واقع جديد يؤدى من خلال تراكم الصدامات الدامية إلى ما يسمى «التقسيم المكاني والزماني» للأقصى بين المسلمين واليهود، أي تقسيم الأقصى مكانياً بين المسلمين واليهود، وفرض أوقات زمنية لدخول المسلمين إلى الأقصى وأوقات أخرى لدخول اليهود على غرار ما نجحوا في فرضه بالمسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل، لكن الأهم هو إصرارهم على خوض معركة بناء الهيكل المزعوم على أنقاض المسجد الأقصى الذى لا يعترفون به ويصرون على تسميته باسم «جبل الهيكل». الفلسطينيون سواء كانوا يعيشون في الضفة الغربية أو في قطاع غزة أو داخل الأراضي المحتلة عام 1948 أي داخل إسرائيل، أو حتى يعيشون في المنافي في جميع أرجاء العالم، والذين خضعوا لأسوأ أشكال «إرهاب الدولة» ومخططات «العزل العنصري» اكتسبوا حصانة ضد كل تلك الحروب الإسرائيلية سواء كانت ما يخص حرب «كي الوعى الوطني» لاجتثاث هذا الوعى من جذوره وفرض الرواية الإسرائيلية بكل أكاذيبها، أو محاولات التضليل والإغراء عبر ما يعرف بـ «التسهيلات الاقتصادية» ضمن سياسة «العصا والجزرة» التي يمعن الإسرائيليون في إخضاعهم لها وقرروا الانتفاض عليها وعلى كل مساوئ السلطة الفلسطينية وتنسيقها الأمني مع سلطات الاحتلال، بعد أن اكتشف أصغر الفلسطينيين سناً أن حلم الدولة الفلسطينية المستقلة الموعودة يتحول إلى «مجرد وهم» وأن كيان الاحتلال ليس في نيته أبداً القبول بقيام مثل هذه الدولة أو الاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، لذلك أخذ هذا الشعب على عاتقه، من خلال أجياله الجديدة من شبابه الوطني، مسئولية استعادة الأمل ليس فقط بكسب معركة «استعادة الوعى» بالرواية الوطنية الفلسطينية ولكن بصنعها عبر مواجهات مع كيان الاحتلال بوضع نهاية لمسيرة السلام الكاذبة، التي لم يكن هدفها غير فرض الاستسلام على الشعب الفلسطيني، والعمل من أجل التأسيس مجدداً لوعى فرض خيار الدولة الفلسطينية المستقلة واستعادة الحقوق المغتصبة. الجديد في هذه المواجهة التي أخذت تحدث في معظم مناطق الضفة الغربية وامتدت إلى داخل كيان الاحتلال أن الجيل الجديد الذى يتزعمها لا يخضع لأى سلطة ولا يعترفون بحكومة رام الله ويعتبرون تنسيقها الأمني مع سلطات الاحتلال «خطأ فادحاً» ولا يعترفون باتفاقيات جرى توقيعها أو تفاهمات يجرى التهافت عليها مع سلطات الاحتلال، لكنهم يعرفون شيئاً واحداً هو أن فلسطين لهم وأنهم مسئولون عن استعادتها، وما حدث من مواجهات دامية لهذا الشباب في ساحات الأقصى، والعمليات الفدائية المبهرة سواء في الضفة أو المناطق المحتلة عام 1948 يؤرخ لنهاية مرحلة ولبداية مرحلة جديدة مختلفة تماماً يمكن اعتبارها حتى الآن إرهاصات لانتفاضة قد تكون قد تأخرت كثيراً لكنها حتماً تعود بثبات لتجديد الأمل.