كل من تابعوا الحدث الفلسطيني الجلل الذي وقع يوم الأربعاء الماضي (11/5/2022)، في مدينة جنين الصامدة، عندما اغتال جيش الاحتلال الإسرائيلي الإعلامية شيرين أبو عاقلة، أمام أعين العالم كله، في مقدورهم التأكيد بيقين أن اغتيال الشهيدة كان بأوامر من الدولة وليس فقط من الجيش أو من الجندي الذي صوب رصاصته إلى رأس شيرين، يؤكد هذا اليقين مجموعة الجرائم التي ارتكبت بحق جثمان الشهيدة وجنازتها منذ أن غادر الجثمان التشييع الرسمي الفلسطيني للشهيدة في رام الله. فإذ كان قرار اغتيال شيرين قد صدر لإخفاء ما سوف يُرتكب من جرائم ضد أهالي مدينة جنين وضد أهالي مخيم جنين، ضمن المخطط الإسرائيلي الإرهابي الذى أعطوه اسم "كاسر الأمواج" ويستهدف وقف موجة العمليات الفدائية الفلسطينية التي هزت بعنف منظومة الأمن القومي الإسرائيلية في أخطر حلقاتها، وهى "الجبهة الداخلية الإسرائيلية" التي تمثل أخطر مناطق الضعف في هذه المنظومة، فإن الجرائم التي ارتكبت ضد جنازة الشهيدة، ورآها كل العالم كشفت أن كيان الاحتلال وصل إلى أعلى درجات التوتر، وفقدان الثقة في النفس، إذ لم يستطع تحمل مشاهدة أعلام فلسطين وهى ترفرف فوق نعش الشهيدة وتملأ ميادين وشوارع القدس ، ولم يستطع الإنصات للأغاني الوطنية الفلسطينية التي تتغنى بالوطن وتؤكد أن موعد العودة قد اقترب، وأنه لا تفريط في حق واحد من الحقوق الفلسطينية، بقدر ما تؤكد أن الهدف لم يعد الجري وراء سراب دويلة فلسطينية حتى لو كانت كاملة السيادة على الأراضي المحتلة عام 1967، ليس فقط لأن الشعب الفلسطيني وأجياله الشابة، التي ولدت بعد الانتفاضة الثانية عام 2000، لم تعد تثق في أن الكيان يمكن أن يقبل بقيام مثل هذه الدويلة، بل أيضاً لأن مثل هذه الدويلة وخيار "حل الدولتين" لم يعد يتسع لأحلام هذه الأجيال التي كسحت كل أكاذيب الدعاية الإسرائيلية وما تحمله من مكونات "الراوية الإسرائيلية" عن فلسطين وعن الصراع، وراحت تحلم وتقاتل وتعمل من أجل دولة فلسطينية على كل أرض فلسطين. كان المشهد شديد القسوة أمام النخبة الحاكمة في كيان الاحتلال. فالصورة الذهنية التي عمل قادة هذا الكيان على تخليقها ثم الترويج لها إسرائيلياً وفلسطينياً وعربياً وإقليمياً ودولياً عن إسرائيل الديمقراطية، وإسرائيل أرض السلام والاستقرار والرخاء، وإسرائيل القوة العظمى الإقليمية كل هذا أخذ يتساقط وتتكشف أكاذيبه، وبالذات أكذوبة أن "إسرائيل ليست دولة احتلال" وأن الضفة الغربية ليست أرضاً محتلة، بل هي أرض إسرائيل، وأن حروب إسرائيل كانت حروب استقلال لتحرير أرض إسرائيل من المغتصبين العرب، وأنه لا وجود لشعب فلسطيني، وأن إسرائيل أضحت معترفاً بها عربياً وأن الكثير من الحكومات العربية تتسابق من أجل السلام معها وكسب صداقاتها . كل هذا أخذ يتهاوى في السنوات الأخيرة وبالذات منذ الحرب التي وقعت في مايو من العام الماضي وأعطاها الفلسطينيون اسم "سيف القدس" وفرضت معادلة عسكرية جديدة أكدتها فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة بأن "أي اعتداء إسرائيلي على المسجد الأقصى ستدفع ثمنه إسرائيل غالياً". كان أبرز مخرجات ونتائج تلك الحرب، ليس فقط أن صواريخ المقاومة الفلسطينية باتت قادرة على الوصول إلى أي هدف داخل كيان الاحتلال، بل أيضا تحول الشعب الفلسطيني داخل الكيان الإسرائيلي إلى طرف أصيل في معادلة الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي. ووجد الكيان نفسه محاصراً بثلاث جبهات فلسطينية واحدة في غزة والثانية في الضفة الغربية والثالثة داخل الكيان. وعلى مدى عام كامل من مايو 2021 إلى مايو 2022 أخذت هذه التحولات تترسخ وتتقوى في هذه الجبهات الثلاث. خطة جيش الاحتلال التي أعطوها اسم "كاسر الأمواج" أعطت الأولوية لاقتلاع جذور المقاومة أولاً في مدينة جنين ومخيمها، لذلك كان لابد من منع نقل أي صورة أو مشهد للمجازر التي كانوا يجهزون لارتكابها، من هنا كان قرار تصفية الشهيدة شيرين أبو عاقلة، لكن مشهد الجنازة الرسمية والشعبية للشهيدة كان مروعاً لقادة الاحتلال الذين صُدموا بردود الفعل الدولية، ومنها الأمريكية، الرافضة والمستنكرة لاغتيال الشهيدة، فقد حولت الجنازة مدينة القدس إلى "عُرس فلسطيني" واكتسحت كل أكاذيب أن "القدس ليست مدينة محتلة بل عاصمة أبدية لإسرائيل".. سقطت الأسطورة الإسرائيلية في القدس وعرف العالم كله أن الشعب الفلسطيني شعب يخضع لأسوأ أنواع الاحتلال والاستعمار في العالم، وأن المحتل والمستعمر الإسرائيلي يرتكب أبشع أنواع الفصل العنصري، ويوماً بعد يوم يمكن أن تتبدل المعادلة في كل ما تقوله الدعاية الإسرائيلية والدعاية الغربية الموالية عن "الإرهاب" الفلسطيني، وعن "المنظمات الإرهابية الفلسطينية" سوف يتحول، إذا ما أخذت التحولات التي تحدث الآن على الأرض الفلسطينية تتراكم وتتجذر كي يعترف العالم كله بحق الشعب الفلسطيني المشروع في المقاومة والدفاع عن النفس وتحرير أرضه المحتلة، وتتحول المنظمات الفلسطينية إلى "منظمات مقاومة مشروعة" تقود نضال الشعب الفلسطيني، في حين تصبح قوات الاحتلال الإسرائيلي متهمة بـ "إرهاب الدولة"، ويوماً بعد يوم تتوارى الرواية الإسرائيلية المكذوبة للصراع في فلسطين لتحل محلها "الرواية الفلسطينية" لتُصدم إسرائيل بسقوط كل ما كانت تأمله من عمليات "كي الوعى" الفلسطيني والعربي والعالمي، ويجد الكل نفسه أمام حقيقة أن فلسطين أرض عربية محتلة، وأن إسرائيل كيان احتلال عنصري، وأن المقاومة هي السبيل لتخليق صورة ذهنية بديلة للصورة التي عمل الإسرائيليون من أجل ترسيخها على مدى عمر الكيان الذى احتفلوا أمس الأول الأحد (15 مايو/ أيار 2022) بذكرى تأسيسه الرابعة والسبعين، في وقت يزداد فيه يقينهم بأن كل عام جديد من عمر هذا الكيان يقترب بهم من نهاية كيانهم، وأن العقد الثامن الذى بدأ منذ أربعة أعوام يسرع بهم إلى تلك النهاية المحتومة وهى الزوال، بشهادة كبار قادته وجنرالاته وبشهادة التفكك الذى أخذ ينهش في جسد هذا الكيان وتآكل أنسجة مكوناته الاجتماعية وتدنى مكانة الجيش شعبياً الذى كان أهم رموزه مع تعرى جرائمه يوماً بعد يوم .
