Menu

انفجار ذاكرة

تعبيرية

زينب ترحيني

لا أظنّ أنّي راغبة بإكمال اللعبة. لماذا؟ لأني أكذب. سنة ونصف وأنا أقول لكَ ما تصنعه مخيّلتي وأنت تُصدّقني. وهذا مؤلم. أنا لا أكذب عليكَ أنت تحديداً.

تعرف؟ أرغب الآن بالتوقّف عن الكلام. ثمّ وضع شفتاي على خدّك الأيسر لدقائق من دون تقبيله والخروج بعدها إلى الدنيا عبر هذا الباب للمرّة الأخيرة. أترى هذا الباب الأزرق الصغير؟ هو ما يمنعني عنك الآن. هو تماماً ما منعني عنك لأشهر خلت. رأيت؟ رغبتي بخدّك الأيسر، بكَ، بالهرب، بالتوقّف عن الكذب كلّه مربوط ببعضه. لكنّه ليس مربوطاً بكَ، كلّه يجري هنا في داخلي، عند أعلى معدتي حيث يعتصر الألم فيصير سائلاً شديد الحموضة ينتشي صعوداً فيملأ فمي. وهكذا أبدأ بالكذب على نفسي.

***

خرّت قواي عند الدرجة الحادية عشرة نزولاً. كان يفصلني عن المخرج الرئيسي تسع درجات. خطوات قليلة، لكن كان من المستحيل استكمال المسير. كنتُ مخضوضة. كنتُ كمن تلقّى خبراً مُفجعاً داخل غرفة زرقاء صغيرة، خبرٌ مفجع أخبرته نفسي لنفسي بحياد. خبر أعرفه منذ سنوات لكنّي أتلقّاه التوّ. كنتُ مفجوعة، حزينة ولا أفهم سبب صمتي لسنوات. كيف تركت القصّة تغيب بعيداً؟

هل كان جارنا من فعلها؟ هل أتخيّل كعادتي فأورّط الرجل في متاهات لا صلة له بها؟ لماذا هو تحديداً؟ أصلاً كيف اقتحم مخيّلتي؟

***

في مثل هذا اليوم من تسعة أشهر قرّرت الكتابة لسراج. كنتُ في حالة سكر شديدة. أطوح بين يدي صبيّة لا أعرفها، وجدتني هي في مقابل وزارة الداخليّة في منطقة الصنايع عند الثالثة صباحاً، أبكي والدماء تملأ كف يدي اليسرى. لم أُعرف يومها ما الذي فعلتُه إلاّ في ظهيرة اليوم التالي. ليلاً لم أتمكّن من النوم. كان في حنجرتي كلامٌ كثير. كنت أغفو لدقائق ثمّ أقوم مفزوعةً باكيةً من سريري.

لم أشعر منذ ثلاث سنوات بلحظة أكثر صدقاً من تلك. لم أشعر يوماً بالرضا كما الآن.

***

وصلت جثّته اليوم. لا أعرف ماذا أفعل لاستقباله. وصل عند الخامسة عصراً محمولاً في نعش حديديّ الأطراف. كانت ترفعه أكتاف برؤوس غريبة. كان وجه ميسون بعيداً، فهي لم تقترب من الحفرة حيث أنزلوه. انحنت فوقي بعد انتهائهم من ردم التراب على وجهه الملفوف بكفن أبيض. كنتُ أراه مُحدّقاً بها كأنه يأمرها بالإنحناء فوقه ورعايته حتّى وهو في قبره.

لا بأس، ساعات أخيرة ويفقد جسده رطوبته. ساعات ويصير وحيداً ضعيفاً لا جبروت يعتلي حاجبيه. هنا سينوء ويصفرّ وينخره الدود من كلّ جنب. أمّا الأفعى التي أشهرها في وجهي في الصغر ربّما يحلو لها تجاوز فتحة فمه صعوداً أو نزولاً.

جلستُ إلى جانبها وصرتُ أبكي معها. كنتُ أبكي عليها بينما دموعها ت قطر حرقةً رهيبة في قلبي. لففتُ يدي الاثنتين حول عنقها وغفوت. نسيتُ الوافد الجديد إلى المقبرة ولم أستيقظ إلاّ عندما همّت بالنهوض نافضةً جسدها إلى الخلف.

حاولت عرقلة طريقها. كنتُ كمن يحاول تأجيل أمر ما. وكما كل مرة تخيّلتها تبتعد داخل نعش صغير. أمّا هذا المركون إلى جانبي فأتحيّر به. من أين أبدأ معه؟