Menu

يافا: مطر وبرتقال!

برتقال

كتبَ: نصار إبراهيم

يافا: مطر وبرتقال! (10)

بقلم: نصار إبراهيم

مضى الشيخ الكنعاني والولد الراكض عند حافة البحر معا... راحا يخوضان في غبش المساء... سارا بصمت طويلا ... كل يداعب أحلامه الغافية... وعند حد البحر وقفا...

نظر الشيخ إلى السهول الممتدة... قال ستمطر هذا المساء...

غمرت الدهشة وجه الولد وعينيه .. قال كيف والسماء صافية...!؟.

ابتسم الشيخ وقال أعرف من تنفس الأرض... لقد خبر الكنعانيون أسلافك منذ بدء الحياة لغة الأرض والسماء... من همس الريح... ورائحة التراب... وارتعاشة العشب يعرفون...

الأرض تطلق الآن نداءها العميق... تشتاق إلى زخات المطر... الأشجار تقف صامتة إنها تؤدي طقوسها الأسطورية لكي يرسل بعل رياحه وغيومه الماطرة ... سيأتي المطر....

تخفف الولد الكنعاني من أحزانه... قال هيا بنا حيث يافا... لعلي أشعل دفئا في بيوت لم يعد إليها أصحابها بعد... سارا على طول الشاطئ... غاصت أقدامهما في الرمل... سارا.... وسارا... وسارا... كانا ظلين وحيدين... من وجع الرحيل أطلق الولد نحو الليل قلبه...

قال الشيخ الكنعاني : لقد باتت يافا قريبة...

قال الولد: كيف تعرف؟

قال الشيخ: حين تبتهج روحي أعرف.. أعرف أن يافا صارت في مدى القلب... فيغمره فيض البرتقال... يود حينها أن يغني ألف موال... نظر الولد في عمق الليل... قال صدقت أيها الشيخ... تلك يافا... تشرِّع برتقالها للريح...

هنا على صدر المتوسط تنهض منارة يافا... تغيب وتأتي كحلم لذيذ قبل ومضة الفجر... تبدو من عرض البحر البعيد كامرأة كنعانية تسرِّح شعرها في ضباب الليل...

هذه يافا قال الولد... هنا تركنا ذات يوم قهوة الصباح... قال لي جدي يومها: سنعود... ضع حطبا في النار كي لا تنطفئ... يجب أن تبقى القهوة ساخنة.. قد يمر ضيف أو عابر سبيل... من واجبه علينا أن يجد القهوة حاضرة... سبعون حولا والنار لا زالت تنتظر تحت الرماد... ولم نعد بعد.

هنا... في يافا ينبت البرتقال تحت همس السماء... ومع أقمار الشتاء حين يهل المطر يضئ ليل يافا بلون برتقالي كوهج الشمس عند المغيب.. يغمرها أريج الليمون... فتنبجس قلوب الصبايا كينابيع الربيع... تتورد خدودهن الكنعانية .. وتزهر عيونهن كما يزهرالبرتقال...

سار الشيخ الكنعاني والولد على الشاطئ الممتد... كانت أمواج البحر تأتي وتذهب... تغسل أقدام يافا بمياه البحر المالحة...

صمت موحش... بيوت تغفو بلا صخب حميم... بدت أشجار البرتقال ساكنة يغمرها الليل فيزيدها أسى وشجنا...

قال الولد حدثني عن يافا أيها الشيخ.

صمت الشيخ الكنعاني قليلا... أرسل بصره نحو المدينة.. ثم نحو البحر... قال:

تروي ألواح الطين الكنعاني أن "يافا هي "الجميلة" ...هكذا هي منذ ٣٠٠٠ عام ق.م ، وكما ترى يراقصها البحر من الغرب... ثم تمد ضفائرها نحو السهول، تتكئ على الشاطئ تحرسها صخور سوداء... تقول الحكاية: أن أندروميدا الأميرة الحبشية قد أغاظت إله البحر من تبجحها بجمالها ، فأمر أن تقيد بالسلاسل في واحدة من أكبر صخور ميناء يافا، وأرسل لها تنيناً ليلتهمها، لكن "برسيوس" حبيبها تصدى له وقتله... وفي النهاية استطاع أن يمتص غضب إله البحر بأن قدم له رأس وحش كان يخيف الناس، وهكذا أنقذ حبيبته الجميلة".

يافا أيها الولد هي عاشقة البحر لهذا تذهب فيه عميقا... تغسل أقدامها فيه من جهة الشمال وجهة الجنوب.

قال الفراعنة من قدماء المصريين هي ( يابو)... أما اليونانيون فقالوا هي( يوبا ) و"يوبي" في الأساطير اليونانية القديمة هي بنت إله الريح.

هنا كان الكنعانيون يراقصون البحر ويزرعون البرتقال والليمون... وفي الأمسيات يشعلون نارا تضئ ليل البحر البهيم... فتهدي السفن...

يافا هي بحر وبرتقال وناس وحكايات تذهب نحو الزمن الأول...

سار الولد... وفي قلبه نشيج صامت... هبت نسمة عابرة... حملت همسة برتقال حزين... قال: أيها الشيخ هل ستعود يافا تنبت برتقالا وليمونا يشبهنا...؟

ابتسم الشيخ بحزن:

أيها الولد الراكض عند حافة البحر... يافا مسكونة بالبرتقال... هي ذاتها بذرة برتقال... وحين يكون المطر... ويد دافئة حانية ترعى الأشتال... ستنمو... ستعرش برتقالا وليمونا حتى تغمر المدينة... سيفيض البرتقال كضوء الفجر حين يشرق الشرق... فلا تحزن.... ومعه سينبت أيضا أطفال لهم ذات طعم البرتقال...

طويلا سار الشيخ والولد على الشاطئ ... كانت منارة يافا تضئ وتخبو...

قال الولد... أيها الشيخ العارف وهل ستبقى المنارة...؟

قال الشيخ: ستبقى لتهدي رفوف النوارس نحو أعشاشها في أحضان البرتقال... وسترقص الصبايا ذات ليل مقمر على شاطئ البحر... فقد قيل أن البحر يشعل عشق الحياة... وسيتكاثر أطفال يافا كالسمك البحري... ومن جديد سيشعلون المواقد في الصباح... سيعدون القهوة... ومن البحر ستعلو أشرعة السفن العابرة... ستقترب من الشاطئ... ومنها ينحدر بحارة بلون الأرض... قيل سيقتلون التنين الذي لا زال يروع ليل يافا ويمنع برتقالها من الغناء... ومن بين الصخور السمراء ستنهض أميرة كنعانية بقامة كالرمح بلون الأبنوس أو القمح... اسمها يافا وستغني للبحر وللبحارة.

دار الولد دورة كاملة... نظر نحو الأفاق الأربعة... هبت الرياح... تسارع الغيم من غرب البحر.... تراقصت الأشجار في العتمة... كانت السماء مبتهجة بالغيم... فبدأ المطر ينهمر... راح يغسل الأشجار الحزينة... فأخذت أوراق البرتقال والليمون تتلامع على إيقاع المطر.. كانت تغتسل بنشوة دافئة... ومن الأرض صعدت رائحة التراب والمطر... غمر الفرح وجه الولد... رفع وجهه نحو السماء وراح هو أيضا يرقص مع المطر...

في تلك اللحظة كان وجه الولد الكنعاني يبتسم كانبلاج البرق...