Menu

"مواقيت الصمت" رواية البحث عن هوية

د. سهام أبو العمرين

تطرح رواية "مواقيت الصمت"* للروائي المصري خليل الجيزاوي أسئلة الهوية المطموسة، في عالم تتبدل قيمه، وتسوده ثقافة الصمت التي أصبحت ركيزةً من ركائز وعيه الجمعي، لقد ألقت الرواية أضواءً كاشفة على أزمة الإنسان المغترب، الذي يبحث عن هويته في ظل مجتمع قامع، يقوم بتكميم الأفواه سعيًا لتخدير العقول؛ لينال من أفراده في مسعى حقيقي لتنميطهم ونمذجتهم بشكل يتفق مع الثقافة المُخْرسة المستلبة.

قديمًا قالوا: "إنَّ عقل المرء مدفون في لسانه"، فاللسان يفصح عن صاحبه، يبرزه للعيان، ويوضح شخصيته، ومتى تمّ تفعيله صار قوة وسلطة؛ لأنَّ ممارسة اللغة فعل وجودي، يعبر عن الذات، ويفجر مكامن وعى الإنسان وثقافته، فباللغة نعيد تشكيل ذواتنا وذوات مَن حولنا. قد يكون الصمت في أحد أشكاله علامة الموت واندثار الهوية؛ علامة على القهر والاستلاب بالنفي خارج دائرة الفعل، وهذا ما أدركته شهرزاد عندما قاومت الموت بالاحتماء بسلطة اللغة والحكايا المتوالدة التي ضمنت لها حياتها وحياة جنس النساء من بعدها، فالصمت كان لها الموت الحتمي.

إنَّ الرواية تغوص في هذا العالم الذي فَقَدَ أفراده الوعي بذواتهم، وسقطوا صرعى لتلك الثقافة التي حولتهم إلى مسوخ مدمنة للصمت، حاول السرد أنْ يغوص في دخيلة الشخصيات الروائية عبر تفعيل تقنية المونولوج التي تتيح تعري الذات وتكشفها، وملامسة مكامن اللاوعي لتثار أسئلة الإنسان الوجودية ناحية ذاته، والعالم من حوله، في محاولة لبناء جسر جديد مع العالم الذي فَقَدَ براءته، وأضحى مشوشًا مضطربًا.

تنفتح الرواية-عبر ضمير الأنا-  على فعل عودة "هند"/ الشخصية المحورية في الرواية من باريس بعد عشر سنوات قضتها هناك لاستكمال دراستها العليا، وعندما تعود تفاجأ بتغير الحياة التي عرفتها من قبل، الكل تعتركه الحياة وتنال منه قوى القمع والتسلط، عالم تتبدل فيه القيم ويسير بتؤدة نحو الموت الحتمي، والكل يرزح تحت رحى الصمت، فأخذت تبحث عن حقيقة وجودها في هذا العالم العابث، والذي لا تعلم أين يدفعها؟ تقول في أولى سطور الرواية: "أعود للبيت منكسرة، أصعد الدور الثالث منهكة، لكن يدفعني ألف سؤال كي أبحث، أسأل مرة ثانية، ثالثة، أفتش عن الحقيقة" (الرواية ص 13)؛ فالحقيقة مراوغة، مخاتلة، تأبى أنْ تتراءى لها. تقول في موضع آخر عندما تصطدم بأعراف العالم الجديد: "لماذا تنفلت الحقيقة هكذا من بين يدي قسرًا؟ كيف تحول كل الذين مروا بحياتي إلى دخان! ضباب؟! كأنهم أشخاص من خيال أو سراب!!! لماذا كلّما اقتربت من حقيقة ما، أو كما كنت أعتقد أنها الحقيقة، أجد نفسي أقبض الهواء؟ هل كنت مغيبة طوال حياتي؟ أم كنت ثامنة أهل الكهف؟ لما عدت للحياة، تجولت في الشارع، السوق، الأصحاب! وجدت بشرًا غير البشر!"(الرواية ص52-53) لقد كانت تظن أنّ عودتها بعد غياب سيعوضها عن سنين غربتها؛ لتكون العودة هي الحياة، لكنها وجدت عالمًا غير العالم وبشرًا غير البشر، فتجسم أمامها شعورها بالاغتراب والتأزم النفسي.

تعود "هند" لوطنها في منحة لاستكمال مشروعها البحثى عن أطفال الشوارع لمدة شهر هو زمن الخطاب، بينما زمن الأحداث/ الزمن الحكائي يمتد عشرات السنوات؛ ليغطي تاريخ أفراد أسرتها التي ترصد الرواية بتمعن عوالمهم، ويتتبع المتلقي عبر تقنية السرد الحكائي المتوالد والمتنامي عبر تفعيل ضمير الأنا وتعدد الأصوات عوالم هذه الشخصيات، في محاولة منهم للإمساك بعالمهم الذي يتحول إلى خراب من حولهم.

يتوالد السرد ويتدافع عفويًا لحظة لقاء "هند" بوالدها المتوفى الذي استدعته بفعل قوة الخيال، إذ تخيلته يخرج من إطار الصورة المعلقة على جدار الصالة إثر وصولها، فتراه يخرج من الإطار ويجلس وإياها؛ لينفتح باب الحكي ويتدافع مخزون الماضي عبر تفعيل تقنية الاسترجاع الخارجي، ويحكي الأب لابنته لينير لها بعضًا من جوانب الحقيقة. فيتكلم بضمير الأنا بعد أنْ كان مخرسًا، يسرد تاريخهما الذي كان الصمت والقهر سداه ولحمته، فالأب رجل عصامي، من أسرة فقيرة، بدأ من الصفر عاملًا بسيطًا على عربة لبيع "الكبدة"، وفي الوقت نفسه استكمل دراسته حتى صار مهندسًا، وبدأت الحياة تتفتح أمامه حتّى أصبح من رجال الأعمال، تزوج من ابنة رئيسه، التي لم تنسَ أبدًا أصله، فعاملته معاملة فوقية متعجرفة، وأوقعت قهرًا عليه هو وابنته، حتّى صار مهزومًا، صامتاً؛ لكنه تحمل الحياة من أجل طفليه؛ و "حتّى يسير المركب بهدوء" كما يعلن، ولكن الشرخ لا يلبث أنْ يزداد عمقًا بينهما؛ ليعيش كل منهما منفصلًا عن الآخر، فهي تسكن فيلا  في مصر الجديدة بصحبة ابنها، وهو يظل في منزله بالسيدة زينب مع ابنته زاهدًا في الحياة.

تنبثق الحكايا وتسلم بعضها بعضًا، ويختلط السرد الحكائي في بعض المقاطع بالأسطورة والموروثات الشعبية. يحكي الأب عن بداية تفجر أزمة "هند" مع ذاتها، تلك الأزمة التي ترجع إلى العام الأول من ميلادها بموت أختها التوأم "هبة". هذا الموت يلقي بظلاله الدلالية على النص بأكمله؛ فقد قيل في الموروثات الشعبية أنّ روح التوأم الأول بعد الموت لا تصعد إلى السماء؛ بل تحل في جسد قطة، وتلازم توأمها، ولكن روح أختها انتقلت من جسد القطة إلى جسد أختها فتتلبسها أحيانًا، حتّى يخيل لـ"هند" أنها "هبة"؛ الأمر الذي يدفعها لحافة الجنون. هذا التلبس يتم توظيفه بفاعلية؛ ليتواشج مع بنية النص العميقة، فـ"هبة" وكما طرح السرد قد ورثت النزق عن والدتها المتعجرفة، وقد أبت أنْ تترك "هند" تنعم بحياتها هانئة، فأرادت أنْ تنتقم منها، عمدت "هبة" أنْ تجعل أختها وحيدة بعيدة عن العالم، وقد نجحت في إفساد مشاريع صحبتها؛ لتجعلها تعيش وحيدة منعزلة حتّى تسيطر عليها؛ لقد أرادتها أنْ تكون كسيرة، ذليلة، ضعيفة؛ لتستلب ذاتها التي ترنو للتحرر. وقد شجعت "هبة" أختها على التمادي في معرفتها بـ"سعيد الفاتح" الذي بدا لها نقيًا؛ فسلب إرادتها على المقاومة فأعطته جسدها، وكانت "هبة" هي التي تقود عقل أختها الباطن في علاقتها النزقة مع "سعيد".

ونلحظ أنّ "هند" عندما تخفق في التواصل مع عالمها المحيط، وتصطدم بشخصياته المخرسة، تتلبسها شخصية "هبة" في إشارة إلى الاضطراب الذي يعتمل في داخلها بين أنْ تكون ذاتها الحرة، التي تسعى للانعتاق من قبضة الواقع العقيم، وبين أنْ تكون مسلوبة الإرادة مخرسة ومستلبة بفعل سيطرة ذات أخرى عليها تُسَيِّرها، ولعلّ مشهد وقوفها أمام المرآة من أكثر المشاهد التي ألقت أضواءً كاشفة على تلك المساحة المضطربة داخلها، تقول: "أقف أمام مرآة الدولاب، أتأملني، تواجهني الأخرى، أبتسم، تخرج لسانها، تسخر مني، أقترب من المرآة، أدقق النظر، أرصد ملامحي، تهتز الصورة، كأنني أنظر في مياه تتزلج مويجاتها القصيرة، تفر ملامحي التي أعرفها، تواجهني الأخرى بملامح جامدة، باردة، غريبة عنّي، ألمس شعري، أمسك رأسي، أقبض عليها بيدين عفيتين، الصداع اللعين يفتك برأسي، أسمع الأخرى تضحك، تضحك، ساخرة، شامتة، أقترب أكثر، السؤال الحائر يقف في حلقي كغصة مرة، مَنْ أنا؟"(الرواية ص31). إنّه سرد يحتفي بأدق التفاصيل عبر رصد المرئي رصدًا خارجيًا بشاعرية بالغة، في ظل توظيف تقنية المونولوج التي تعرض دخيلة "هند" المضطربة، والتي لم تعرف مَنْ هي على وجه التحديد. تقول:

" إنني أشعر بها، حين أسكن أنا، تتحرك هي، أقفل أنفي، أحس بها، تأخذ نفسها من فمي! أتحرك تسير خلفي، كأنها تطاردني، أقف، تستدير، ناحيتي؛ لتتأملني، أسمعها تسخر مني تضحك على انكساراتي، هزائمي الكثيرة. أنظر إليها، أواجهها، تنفلت منّي، تفر هاربة، تقف بعيدًا، تراقبني، تخرج لسانها لي كل فترة! أغمض عيني، أستدير، أتلفت حولي، أجلس على الكرسي القصير أمام المرآة، تخرج، أدعوها للتصالح معي، لا تزال ترقبني بحذر!"(الرواية ص32،31).

 إنَّ دلالة المرآة في المرويات الأدبية تتجاوز المعنى المباشر الذي يكمن في اعتبارها أداة عاكسة لظاهر الأشياء فحسب، إذ تستحيل المرآة إلى أداة معرفية كاشفة للعالم الداخلي للذات الرائية؛ لتكون دالًا استعاريًا للذات تعكس تأزمها وتشرذمها الداخليين. وقد تنبه الروائي إلى تلك العلاقة الأثيرية التي تجمع بين "المرأة" و"المرآة"، فالعلاقة بينهما علاقة وجدانية قائمة على فعلي الرؤية والاستبطان، بالإضافة إلى اشتراكهما في جنس لغوي وجناس بلاغي. وقد ربط السرد بين شخصية "هبة" وشخصية الأم المتسلطة؛ فالأولى مارست القهر النفسي السلطوي على ذات أختها، والثانية لم يكن منها تجاه ابنتها إلا المعاملة السيئة والضرب المبرح؛ فهي تعد ابنتها نذير شؤم، تقول لها: "يا وش الشؤم. إن شاء الله يكون خراب البيت على ايدك" (الرواية ص 145). ولم يكن من "هند" إلا أنْ تلوذ إلى حضن خادمتها "أم شحته" التي أرضعتها مع ابنها، ولم تتذكر "هند" أنَّ أمها قد حضنتها من قبل حتّى سألت أبيها يومًا:"هل أمي هي أم شحته، وهذه هي زوجة أبي؟! يضحك أبي، يهز رأسه نافيًا، عندما ألح عليه، يقول: دي أمك ودي أمك!"(الرواية ص143).

إنّ العلاقة الحميمة التي ربطت "هند" بـ"أم شحته" لم تكن بدافع معاملة الثانية للأولى معاملة حسنة ودافئة فحسب، بل لعلّ لاشتراكهما سويًا في تاريخ قوامه القهر والقمع، فالسرد ألقى أضواء كاشفة - وبصوت أم شحته عبر ضمير الأنا - على بعض جوانب من حياة "أم شحته" عبر تقنية الاستطراد الحواري، وتدافع مخزون لا وعي الشخصية الذي استدعى الماضي ببعديه: القريب والبعيد. تمزج "أم شحته" تاريخها المقموع بتاريخ ولدها "شحته" الذي سُجن في قضية مخدرات تحمّل مسؤوليتها وحده بعدما تنصّل "المعلم" له. ويسكت شحته عن حقه، كما سكت أبوه من قبل، وكما سكتت والدته كذلك، في سلسلة مكرورة وتاريخ يعيد نفسه؛ الأمر الذي يؤكد على تغلغل ثقافة الصمت في الجميع حتّى أدمنوها ولم يستطيعوا الفكاك من قبضتها.

 تقول "أم شحته": "المعلم الكبير قبضوا عليه! عملوا اجتماع! مين يشيل القضية؟! الكبير لازم يطلع!

والصغير لازم يقول حاضر! السيد يأمر، الخدام ينفذ! ... دخل شحته السجن، سكت، زي أبوه ما فضل شايل همه على كتفه طول عمره، ساكت، لحد ممات من القهر! زي ما واحدة زمان سكتت، قفلت على لسانها باب حديد، حكموا عليها تعيش خرسا..."( الرواية ص48). تستحضر أم شحته ماضيها المقموع، ويتدافع الحكي بعفوية ويعري ببساطته بنية المسكوت عنه في المجتمع السلطوي الذي ينال من الصغير، ويترك الكبير الذي تحميه ثقافة القمع التي تسيّدت بفعل سكوت الأفراد عن حقوقهم.

         رجل الأقنعة

تكشف شخصية "سعيد الفاتح" جانبًا من جوانب تناقضات عالم الواقع المخجل على المستويين السياسي والاجتماعي؛ فهو شخصية وصولية انتهازية يرقص مع العالم على الجانبين، يستغل الجميع للوصول لمآربه، يرتدي قناع التقوى والصلاح؛ ليلتف الناس حوله ويعطوه ثقتهم ليسهل أموره، لقد فهم "سعيد" قواعد لعبة العالم الجديد الذي فُتح له بعد أنْ كان فقيرًا معدمًا، وكانت بداية دخوله لهذا العالم تعرفه على "هند الصياد" التي كانت وسيلة له لاقتحام العمل مع والدها في مجال المقاولات، لقد حاول "سعيد" العمل في شركة "الصياد"، ولكنه أخفق ولم يجد إلا طريق ابنة الرجل للوصول إلى ما يريد عن طريق امتلاك قلبها، وفي البداية اكتسب ثقة والدها، وكان دائم التردد على المساجد بصحبته، يقول بضمير المتكلم: "ترددت كثيرًا معه على جامع السيدة، صليت خلفه، أطلقت لحية خفيفة حتّى يثق بي، ظهرت بوضوح زبيبة الصلاة، في مولد السيدة أُقبل خلفه يد الشيخ الكبير، أدخل حلقات الذكر والحضرة بعد صلاة العشاء ... ومن يومها راحت الفقراء تتزاحم عليّ، تُقبل يدي، تسألني النفحة، باعتباري شيخهم الجديد". (الرواية ص184).

يستثمر "سعيد" صحبته لكل من الفقراء والأثرياء؛ فالفقراء سيعطونه أصواتهم للترشيح في عضوية مجلس الشعب، والآخرين عن طريقهم يسهل أعماله ويتبادل معهم المصالح عبر إقامة الحفلات الخاصة المشبوهة لهم. ولم تتكشف شخصية "سعيد" المزدوجة لمن حوله لأنّه- وكما جاء في حوار الأب لابنته-  كان "ملتزمًا الصمت طوال الوقت"، فقد اتّخذ الصمت ستارًا؛ ليحجب حقيقته للجميع. ولكن "هند" تصدم فيه إثر نيله لجسدها، حتّى بدأ ينسحب من حياتها، هي لم تطلب منه أنْ يقوم بإصلاح ما أفسده، وهو تجاهل الأمر لتتسع مساحة الصمت بينهما. وهما وإنْ جمعهما مكان ما اكتفيا بتبادل "النظرات الصامتة"، ولكنه يعود لها عندما يحتاج لأمر ما لتيسره له.

لقد أعلن السرد أنّ "هند" كان يلتبس عليها الأمر فتنادي "سعيد" أحيانًا بـ"سيد" في إحالة ضمنية لتاريخ الثقافة الذكورية المتسلطة والمتحيزة ضد المرأة، فقد كشف السرد عن زيف تلك الثقافة وازدواجيتها؛ فـ"سعيد" عندما أراد أنْ يتزوج، فإنّه تزوج من ابنة خالته التي جلبها من الريف. وقد أدركت "هند" قرب نهاية الرواية أنّ "سعيد" يمثل رجل تلك الثقافة التي لا ترى في المرأة سوى الجسد، فقد كان يعاملها دومًا كأنثى لا كإنسان حر، يرى فيها الجسد الذي علّقت عليه رغباته الذكورية المحمومة، وقد سعت "هند" عبر تقنية الرسائل التي كانت تكتبها وتوجها لـ"سيد/ سعيد" لتذويب الفجوة المعرفية بينهما، ومواجهته بحقيقة أمره حيالها، تقول: "متى تنظر لي كإنسان، لا كأنثى تلبي نداءك النزق، رغباتك الجامحة، تجعلها في مواجهة مع ذاتك لكي تتطهر! ألح عليك لنتحاور، لا لكي نتواعد تحت ضوء الشموع التي تسكب دموعها، على مذبح الفريسة المشتهاة، العاجزة عن صد أنّات جسدها المحموم، تستسلم لك مغيبة، وهي تظن يومها أنّه الحب!." (الرواية ص157). تواجهه "هند" بازدواجية شخصيته، وتدعوه قبل أنْ تسافر لباريس مرة أخرى أنْ ينفض التراب عن ذاته ليكتشف جوهر الحياة، أنْ يزيل أقنعته، أنْ يثور على العالم الذي صنعه حتّى لا يصير عبدًا، فتسأله متى يحصل على حريته؟: "لا تقل لي أنت حر؛ لأني أراك لا تزال عبدًا لشهواتك، عبدًا لأموالك! عبدًا لأبراجك التي تبنيها، عبدًا للمناصب التي تطمح إليها! أنت تعرف أنّك منذ زمن بعيد تعزف نشيد الهزيمة!" (الرواية ص157). قرب نهاية الرواية تعترف "هند" أنّها ذاتها وليست "هبة" - شبيهة المجتمع السلطوي في قهره - عندما واجهت عالمها، وقامت بدور الفاعل في حث مَن حولها على التغيير، بعدما كانت مفعولًا بها في علاقة إشكالية مع رجل لم يرَ فيها سوى الجسد.

وتنتهي سطور الرواية بإثارة أسئلة عدة ظلّت معلقة في ذهن "هند"، وهي على أعتاب السفر بخصوص "سعيد" الذي جاء لتوديعها في المطار؛ لتعلق عليه آمالها بشأن مشروعه الذي فكر أنْ يقيمه في "السيدة" لإغاثة أولاد الشوارع، وهذا المشروع يعد من متطلبات تزكيته لدخول مجلس الشعب، فتتساءل الساردة: هل سيفي بوعوده لها ببناء المجمع الصناعي الذي وعد به لأبناء الشوارع؟ و"هل حانت مواقيت الكلام بعد أن طالت أكثر من اللازم مواقيت الصمت؟"(الرواية ص 168-169). يظل السؤال دون إجابة معلقًا في فضاء النص.

       أصوات المهمشين

تفجر الرواية بنية المسكوت عنه في المجتمع الذي أصابه العفن بتسيد الفكر السلطوي التراتبي القامع لرغبة الذوات في الانعتاق، ومحاولتهم إثبات هويتهم، وذلك عندما يطرح السرد مشكلة "أولاد الشوارع" الذين يعيشون على هامش الحياة، كما يتيح السرد لأصواتهم المسكتة أنْ تنطلق لتتقاطع وتتشابك داخل رواية الجيزاوي؛ لتحكي عوالمهم المهمشة وهمومهم وأحلامهم بألسنتهم وبعفوية بالغة. ويعد الفصل السادس الذي يتضافر في جديلة محكمة عبر تداخل أصوات عدة من أكثر فصول الرواية حيوية؛ لأنّه يتوغل في عالم المهمشين من أولاد الشوارع، ويطرح نصيًا أحلامهم وأمنياتهم - بلغة عفوية - في أنْ يصيروا بشرًا يحترمهم المجتمع. والفصل مقسم إلى أجزاء عدة، يحمل كل جزء منه عنوان اسمي دال يشير إلى حكاية من حكايات ساكني الشوارع كـ"سعيد"  و"على"، و"صابر"، و"هيثم"، و"علاء"، و"جنينه"، و "أم دنيا"، وهي أجزاء يمكن أنْ نتلقاها كقصص قصيرة تحمل معانٍ شمولية، وتقدم رؤية أكثر قتامة لعالم المهمشين من أبناء الشارع الذي يتخلى عنهم المجتمع، ويعلن الصمت تجاه مشاكلهم. تلتئم هذه الحكايا وتتضافر نصيًا مع بنية السرد الروائي لتجذر بدلالتها العميقة المعنى العام الذي تطرحه الرواية، حيث الصمت الذي يدمنه المجتمع، ويتغافل عن قضاياه الجوهرية بداخله. وتنطرح حكايا ساكني الشارع، وتنجدل مع بعضها البعض منطقيًا إثر سعي "هند" لدراسة هذه الظاهرة في بحثها الميداني عن هؤلاء الأطفال ضمن أطروحتها للدكتوراة، ولكنها تواجه صعوبات من قِبل المؤسسات الرسمية التي رفضت أنْ تساعدها أو تمدها بأي معلومات بدعوى أنّ المجتمع خالٍ من هذه الظاهرة. حتّى إنّ أحد المسؤولين قال لها: "يا أستاذة أنا لا أسمح بهذه المزايدات، الافتراءات التي تأتينا من الخارج! ... عيب قوي يا أستاذة تشوهي صورة البلد اللي ربتك، علمتك!" (الرواية ص44 -45). ينفي المسؤول وجود مشكلة، ويعلن استيائه وتعجبه، ولا تجد "هند" إلا أنْ تعتمد على ذاتها لمتابعة المشكلة، فَيُعَرِّفها "هيمه" صبي المقهى الذي تجلس فيه على "محمد جنينه" كبير أطفال الشوارع الذي يثقون فيه. وهو بدوره عرفها على ستة من مشردي الشوارع؛ لمحاورتهم والتعرف إلى همومهم. تتوالد الحكايا بأصواتهم، ويتتبع السرد تاريخهم المقهور لحظة هروبهم من بيوتهم؛ لِمَا لاقوا داخله من قهر وخوف متواصلين، ثم الصعوبات التي يلاقونها دومًا في الشارع، حيث متابعة الشرطة لهم، وتحرش الكبار بهم، والأمراض التي تصيبهم، ونظرة الناس لهم وعدم ثقتهم بهم، ومعاناتهم الليلية مع برد الشتاء القارس. تشترك حكاياهم في تيمات ثلاثة متكررة، وهى: (القمع، والهروب، ثم الضياع). وعلى الرغم من تلك المعاناة وعمقها، فإنّ حواراتهم العفوية مع "هند" قد عكست رغبة أكيدة في البقاء، وأملًا كبيرًا في أنْ يشعر بهم أحد. وقد اتفق الجميع على مطلب جوهري رأوا أنّه بداية لحل مشاكلهم، وهو أنْ تصدر السلطة لهم بطاقات هوية؛ لتحميهم، وليشعروا بأنّهم جزءٌ من هذا المجتمع لا مجرد عناصر خارجة عنه وغير مرغوب فيها.

ترتسم علامات استفهام كبيرة مع بداية ظهور شخصية "محمد جنينه" زعيم أولاد الشوارع نصيًا؛ ليصبح سؤالًا معلقًا في فضاء النص؛ فقد بدا لـ"هند" نظيفًا، يلبس الملابس الفاخرة، ويعاملها بأدب ورجولة بالغين، ويسكن في غرفة مستقلة على أسطح إحدى المنازل. يتلاشى استغراب "هند" عندما يقص عليها حكايته، التي تتمحور في التيمات الآتية: (انفصال الأب عن الأم/ زواج الأب من أخرى/ هروبه للشارع بسبب الضرب/ ضياعه ومطاردة الشرطة له/ مساعدة امرأة عجوز له بتوفير مسكن له/عمله في إحدى النوادي/ استغناء العمل عنه/ التعرف إلى المسنات وبيع جسده لهن). تتواشج حكاية جنينه المتنامية ذات الإيقاع السريع - كغيرها من الحكايات الأخرى المطروحة-  مع بنية النص السردي العميقة عندما يربط ضياعه وعدم استقراره على حال بضياع الوطن، واندثار هويته، وتحلل قيم المجتمع وتبدلها بثقافة تعمق الهوة المعرفية بين أبناء الوطن الواحد، من أجل تسلق السلطة، وإعلاء قيم الفرد ومصلحته الخاصة على الجماعة.

  الانفتاح على السياق الثقافي

ينفتح النص الحداثي على السياق الثقافي: الأدبي وغير الأدبي، يستقي منه ما يساعده في إضاءة جنبات النص، أو الاتكاء على مواد مرجعية توحي بواقعية الأحداث المعالجة نصيًا. هذا هو حال رواية "مواقيت الصمت" التي تتفاعل مع السياق الثقافي؛ لتُضمن بعض النصوص الموازية التي تنجدل مع البنية الروائية المتخيلة؛ لتكون كلًا متماسكًا ومدعمًا للمعنى النصوصي المطروح.

لقد تقاطع النص الروائي - على مستوى العبارة- مع بعض المقولات التي تؤكد تمجيد ثقافتنا للصمت، واعتباره جزءًا لصيقًا من تشكيل وعينا تجاه العالم. ومن تلك المقولات التي أوردها الروائي:

ـ "روى عن يونس عليه السّلام أنّه لمّا خرج من بطن الحوت طال صمته، فقيل له: ألا تتكلم؟ فقال: الكلام صيرني في بطن الحوت!

ـ وعن علي بن أبى طالب رضي الله عنه أنّه قال: بكثرة الصمت تكون الهيبة!

ـ وقال لقمان الحكيم يعظ ولده: يا بني إذا افتخر الناس بحسن كلامهم، فافتخر أنت بحسن صمتك!" (انظر الرواية ص23-24).

كثيرة هي المقولات التي تمجد الصمت في ثقافتنا العربية، والتي تَشبّع بها وعينا، فالنص يستدعي الكثير من المقولات منها على سبيل المثال: "مت بداء الصمت خير لكَ من داء الكلام"، و "الصمت زين والسكوت سلامة"، و"الصمت سمة الحكماء" وغيرها. وقد تناسينا أنّ الرسول – صلى الله عليه وسلم- نهى عن الصمت الحاجب للحق. كقوله – صلى الله عليه وسلم-: مَنْ رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإنْ لم يستطع فبلسانه..."، و "الساكت عن الحق شيطان أخرس". وقد صُرح بالصمت لدرء الشر والضر فحسب، لا ليكون قوامًا مشكلًا للثقافة.

كما يُضَمّنُ النصُ بعض المقاطع الدالة من كتاب "جماليات الصمت: في أصل المخفي والمكبوت"، ويضعها الروائي بين علامتي تنصيص (انظر الرواية ص25 ،26،162)، وكذلك مقتطفات مقطعية لـ"باتريك تاكوسيل" عن قوانين ما لا يقال: السكوت والسر(انظر الرواية ص25). وقد أعطت تلك النصوص الموازية المُضَمّنة في بنية المتخيل الروائي بعض التفسيرات لتغلغل ثقافة الصمت في المجتمع. نخرج من تلك المقولات أنَّ الصمت توجه اجتماعي لا نفساني، تفرزه قوى المجتمع السلطوي الذي يمارس سيطرته على الأفراد الذين يشعرون دومًا بأنّهم مراقبون من أجهزة النظام العليا، فيلجئون للصمت تفاديًا للصدام، فالصمت إذن مرتبط بدال الخوف من قهر السلطة. والصمت ضربان: إما ألا يقول المرء شيئًا، أو لا يتحدث في لا شيء، أي الحضور الزائد عن الحد دون جدوى، أو الغياب الذي لا يطاق (كغياب دور المثقفين)، ولكن ليس كل صمت تواطؤ مع قوى التخاذل؛ فقد يكون هناك نمط من الصمت المُعَمّق المستنير الذي يهدف إلى استكناه بواطن الأمور لتحليلها تحليلًا دقيقًا، وهناك الصمت الذي ينم عن تمرد واحتجاج لِمَا هو سائد. وهما نمطان مؤقتان، قد يمر بهما الإنسان في أي مرحلة. أما الصمت الذي ينتج عن الخوف من قوى سلطوية رادعة، يؤدي للرضوخ والسلبية التي تكبل الإنسان فهو صمت العاجز. ومن ثمّ فإنَّ مقولة "إمبرتو إيكو" التي يصدرها المؤلف روايته: "إنّ كل شيء يكتمل في الصمت"، فتحمل المعنيين معًا؛ إما أنْ يكتمل عجز الإنسان أو يكتمل فعله، فيتأرجح دال الصمت - أحيانًا - بين العدم والوجود.

وخلف هذه النصوص المتفاعلة مع سياق المتخيل الروائي يقبع "المؤلف الضمني"Implied author الذي يشحن سرده بشحنات أيديولوجية، تكشف عن توجهه المعرفي، وتحيزه ضد ثقافة الصمت، فينجدل المتخيل في بعض المقاطع النصية مع السياق الثقافي وبنية وعي العالم العربي، الذي يسير باقتدار صوب هاوية الصمت/ الموت. يقول الأب (الذي يمثل قناعًا ولنقل بوقًا للمؤلف الضمني) لابنته: "هكذا كنت مشغولًا يا ابنتي برصد حالة الشارع الذي دخل في حالة صمت مريبة وعاجزة، يمشي الناس مغيبين كأن هذا البلد لم يعد ملكًا لنا، أو كأننا مجرد خدم لهم نلبي طلباتهم غير المشروعة قبل المشروعة، أو كأننا أصبحنا جوقة "كومبارس" مجرد هتيفة: بالروح بالدم نفديك يا زعيم! وفي الحقيقة يا ابنتي لم نعد نملك أرواحنا، فقد فرّت منا منذ زمن بعيد، وأصبحنا نعيش ميتة الأحياء، ولم تعد تجري في دمائنا الدماء العربية الحارة، بعد أنْ سلبوا منا أعز ما نملك، وباتت الرجال أشبه بالتيوس المخصية". (الرواية ص 27).

يبتعد الروائي في مثل تلك المقاطع النصية عن شاعرية اللغة معتمدًا اللغة المباشرة التي تحاكي بصلابتها وجمودها العالم في بروده وجموده. كما كانت مدخلًا - أي اللغة- لاستنطاق المؤلف الضمني، الذي كان يتراءى بين الحين والآخر في ثنايا السرد. كما يستحضر النص بعض المقاطع الشعرية لابن الفارض، والحلاج، وأحمد عبد المعطي حجازي، وكلها مقاطع تنجدل لتلقي بظلالها على الدلالة العامة للنص/المتخيل.

تعد رواية "مواقيت الصمت" للروائي "خليل الجيزاوي" من الروايات التي تسعى لتقويض منظومة الثقافة السلطوية  بتفكيكها، وتفجير بنية المسكوت عنه.

...........................................................................

*مواقيت الصمت، رواية، الدار العربية للعلوم ناشرون بيروت 2007.