Menu

الجزائر.. هل بدأ النهوض العربي الراهن؟

موسى جرادات

تخط الجزائر اليوم في عهد الرئيس عبد المجيد تبون مرحلة جديدة من تاريخها تقوم على الانبعاث والعودة إلى المرحلة التأسيسية من عمر الجمهورية الجزائرية الحديثة. ويرى المراقبون أن هذا الانبعاث محمول بعوامل داخلية جزائرية وعوامل خارجية والثابت الوحيد في معادلة النهوض، تمسك القيادة الجزائرية بمفهوم السيادة التي منها ينبثق الخطاب السياسي الداخلي والخارجي والذي يترتب عليه مسيرة طويلة بدأتها القيادة الجزائرية اليوم.

من نافل القول إن الجمهورية الجزائرية استطاعت في السنوات الماضية الإفلات من فخ "الربيع العربي"، هذا الإفلات نتيجة وعي وخبرة القيادة الجزائرية والشعب الجزائري بأن الصراع الداخلي العنفي لن يقود إلى بر الأمان لهذا فإن المخاض السياسي والمجتمعي في الجزائر أفضى منذ سنوات إلى توافق على الانتخابات في رئاسة الجمهورية والبرلمان والمؤسسات المحلية. وبهذا استكملت الشرعيات داخل مؤسسات الدولة، فأصبح الخطاب السياسي للقيادة الجزائرية واضح المعالم في تعريف الجزائر عن نفسها اليوم، والمراقب يرى بوضوح سلسلة من التحولات المتسارعة بعودة الجزائر كدولة إقليمية وصانعة للسياسات في المنطقة.

من المبكر الحديث عن الإنجازات الداخلية اليوم، فسنوات العهدة الرئاسية ما تزال في بدايتها إلا أن هذه البدايات الواعدة تبشر بمستقبل واعد للجزائر بقدرتها على لعب هذا الدور الإقليمي. فالسيادة الجزائرية المحمولة بالإرث التاريخي لجبهة التحرير أعادة موضعة البلد في مكانه الصحيح. فها هي الجزائر تضع شروطها في علاقتها مع فرنسا "البلد المستعمر" وفي نفس المسار نفذت الديبلوماسية الجزائرية إلى دول الجوار الإفريقي على قاعدة الوساطة العادلة، وفي ذات الوقت فتحت أبوابها لهذه الدول بعد أن أقامت علاقات تجارية واقتصادية معها.  إن دور الوساطة نراه اليوم في أكثر من ملف إفريقي سواء في الملف التونسي والليبي والمالي وكذلك الأمر في ملف سد النهضة، هذه العودة الميمونة كانت أحد ركائزها الانتصار الديبلوماسي الذي حققته الجزائر برفض "دولة الاحتلال الإسرائيلي" كعضو مراقب في الاتحاد الإفريقي، وفي تتبع هذا المسار نرى أن الجزائر تتعرض اليوم إلى مخاطر جسيمة عبر جارتها المملكة المغربية التي اعترفت بدولة الاحتلال والتي أقامت معها علاقة تحالفية لزعزعة الاستقرار في الجزائر.

من الواضح أن الديبلوماسية الجزائرية في سعيها الجاد والمتسارع قد حققت إنجازات كبرى على الصعيد السياسي بعد أن حددت أعداءها وأصدقاءها عبر معيار السيادة، فمدت الجسور مع الصين وروسيا وتركيا وكذلك مصر في محاولة منها لبناء شراكة اقتصادية تثمر في النهاية عن نهضة في البلاد العربية والإسلامية لتمحو فيها سنوات الدم والدمار التي لحقت بالمنطقة في السنوات الأخيرة ولعلمها المسبق أن النهوض لا يتم إلا عبر العلاقات مع الدول الإقليمية الصاعدة في المنطقة. مع وجود مؤشرات غربية عدائية اتجاه الجزائر تمثل اليوم في الصراع المفتوح مع اسبانيا "المدعومة من الولايات المتحدة الاميركية".

نعم إن مؤشرات النهضة والصعود تحتاج إلى مزيد من الوقت وفي نفس اللحظة لا تتم إلا عبر الصراع السياسي مع القوى التي تضمر العداء للجزائر. نعم السياسة والاقتصاد يرفعان بعضهما البعض، خاصة إذا كانا مسارين منبثقين عن مؤسسات دستورية وشرعية.

ومع هذا ترى أن العوائق والعقبات كثيرة في هذا المسار، فعلى الصعيد الداخلي ما تزال القوى التي تنتمي للنظام السابق متجذرة في أجهزة الدولة وتعيق الإصلاح الداخلي إلا أن ديمومة المسيرة كفيلة وحدها لفكفكة كل هذه العقد الداخلية، فبتنا نرى أن الدولة الجزائرية اليوم قد فتحت الباب للاستثمارات الداخلية والخارجية عبر التشريعات القانونية بعد أن أعطت مؤشرات فعلية على استقرار الدولة وثبات مؤسساتها التشريعية ويقينها أن الريع النفطي وحده لا يكفي لاستقرار الجزائر الاقتصادي نظرا لتقلبات السوق، ويكفي القول: أن السنتين الماضيتين قد أعطت بعض المؤشرات على النمو في حجم الصادرات الجزائرية غير النفطية وهذا مؤشر واضح على حيوية الاقتصاد الجزائري وقدرته الفعلية على التمدد والتوسع خارج تطاق الريع النفطي.

الجزائر وفلسطين

من الواضح أن القيادة الجزائرية الجديدة ومنذ توليها الحكم قد عملت على إعادة إحياء القضية الفلسطينية باعتبارها جزء لا يتجزأ من روح الجزائر وما دعوة الجزائر للفصائل الفلسطينية لزيارتها وبحث ملف المصالحة الفلسطينية ووقوف الجزائر الدائم والمستمر في كل المحافل الدولية والإقليمية والعربية، إلا دليل على أن قضية فلسطين بالنسبة للجزائر أولوية كبرى خارج حدود البازار السياسي والاستثمار، مع العلم أن الجزائر ومنذ سنوات طويلة تقدم الدعم المالي دون انقطاع لفلسطين ودون أي اعتبار سياسي أو ضغط دولي، فهي البلد العربي الوحيد الذي أوفى بتعهداته المالية المقررة من الجامعة العربية في كل السنوات التي خلت، بل زادت من هذا الدعم مع العهدة الرئاسية الجديدة لتقول أن فلسطين هي أخت الجزائر. فالدعم لا يقتصر فقط على البعد المادي بل يطال إعادة لملمة الشتات السياسي الفلسطيني والمحافظة على القضية الفلسطينية كقضية العرب الاولى.

هل تنجح الجزائر في لملمة الشتات العربي؟

من الواضح أن الأزمات التي تلاحق البلدان العربية متنوعة ومتعددة وما تزال تفعل فعلها، ويمكننا القول أن الجزائر قد خطت الخطوة الأولى في لملمة تلك الجراح عبر محاولة تبريد واحتواء بعض تلك الأزمات. فها هي تحفظ الجوار التونسي من الاضطراب السياسي القائم منذ أكثر من سنة وتحاول المساعدة في بناء المعادلة الداخلية للقوى السياسية الليبية، وعينها على احتواء الشرخ القائم اليوم في الشرق العربي عبر دعوتها الواضحة لعودة سوريا للجامعة العربية. فالجزائر ترى أن سوريا مكانها الطبيعي في تلك الجامعة وعافية سوريا تمكن الجزائر من أن تلعب دورا مركزيا في قضايا الشرق. ونحن هنا لا نرى بأن هذه الأدوار خارجة عن قدرة الدولة الجزائرية في هذا المسار السياسي الذي تتبعه، فهي من جهة تقوم بفعل البناء لا التدمير ومن جهة أخرى ترى أن مأزق النظام السياسي العربي والاحتراب الدموي المفتوح منذ عقدين لا بد أن يغلق وهذه قناعة أصبحت موجودة لدى كل النظم العربية ولأن الجزائر لم تلعب دورا هداما منذ نشأة تلك الأزمات، فهي البلد العربي الوحيد القادر على تجسير الهوة بين تلك النظم أنها عملية تفاعلية بحاجة إلى المبادرة والتي توفرت اليوم في الجزائر.

ما بين التحولات الداخلية والعلاقة مع الخارج لا بد من الإشارة إلى أن القوى المجتمعية في الجزائر وعبر شرائحها المختلفة والمنوعة والغنية قادرة على أحداث الفرق في حال توفرت كل العوامل والشروط القانونية والإرادة السياسية داخل الجزائر، فبدون اقتصاد قوي لن تكون هناك سياسة خارجية والاقتصاد القوي لا بد أن يكون مرفوعا بحوامل اجتماعية تمتلك كل أسباب القوة. إنها معادلات متصلة ببعضها البعض وتمتلك ديمومة واحدة فيها ومن خلالها وعبرها تمضي الجزائر قدما نحو بلد مستقر حام لجيرانه العرب ولإفريقيا منتظرا انبعاث قوة إقليمية عربية في الشرق وهو ما تسعى إليه الجزائر، بحيث تتحول إلى نموذج يقتدى به ويتم التعامل معه كمثال حي على صوابية الحراك السلمي الداخلي وعلى صوابية الديبلوماسية الخارجية التي تقوم على مصالح الدول فيما بينها دون الدخول في احلاف قد تكون فيها تابعا لأحد.

إنه نموذج حي وفريد ما زال في بدايته، ولكنه واعد وكل يوم يبشرنا أن هناك أملًا جديدًا يحيا بتجربة فعلية في جسمنا العربي. فالجزائر القوية يعني أن فلسطين لن تمحى من ذاكرة الأجيال وأنها البوصلة والوجهة الفعلية لأي مسار تحرري ونهضوي وسيادي في العالم العربي.