Menu

سؤال التحدي المصيري

د. محمد السعيد إدريس

مر مشهد تلك التظاهرة الصاخبة التي اجتاحت شوارع العاصمة الإسبانية مدريد فى أوج استعدادات تلك العاصمة لاستضافة قمة، وصفت بأنها تاريخية، لحلف شمال الأطلسي (الناتو) دون اكتراث عالمي لائق. التظاهرة نظمت للتنديد بعقد تلك القمة قبل يومين فقط من انعقادها في الفترة من 28 – 30 يونيو الفائت، وشارك فيها ناشطون يساريون ومناهضون للرأسمالية والعولمة، وخبراء بيئة ومدافعون عن حقوق الإنسان وحركات احتجاجية لها وزنها الشعبي مثل "فرايديز فور فيوتشر" وغيرها في ظل انتشار كثيف للشرطة. الشعارات التي رفعتها تلك التظاهرة والهتافات التي ترددت خلالها كشفت عن حقيقة مهمة تقول أن مدريد كعاصمة لواحدة من أهم الدول الأوروبية الرأسمالية تشهد حالياً، ويشهد غيرها من العواصم والمدن الأوروبية، حالة انقسام رأسي للمجتمع بين نخب أو طبقة حاكمة تملك الثروة والسلطة والقوة القهرية (الجيش وقوات الأمن) وبين خليط متنوع من الطبقات والفئات الاجتماعية هي الأكبر والأوسع انتشاراً تخضع لحكم وسيطرة تلك الطبقة الحاكمة. وإذا كانت الطبقة الأولى الحاكمة تتميز بامتلاك درجة عالية من التنظيم والتوحد ووضوح الأهداف وكثافة المصالح المشتركة، فإن الطبقات المحكومة، على تنوعها وعلى ضخامة أعدادها، بدأت بسبب فداحة وقسوة معاناتها في تنظيم رفضها الذي بدأ يتحرك في مبادرات رمزية احتجاجية رافضة لسياسات ومنظومة الحكم وتطالب بالإصلاح أحياناً، وفي أوقات أخرى تطالب بالتغيير عندما لا تجد آذاناً صاغية لدعواتها الإصلاحية.

هذه المرة كان الاحتجاج صارخاً ضد أهم رموز تحالف تلك الطبقات الحاكمة، وهو حلف شمال الأطلسي الذى يحمى هيمنة وسيطرة الطبقة الرأسمالية في أعتى صعودها المعروف بـ "النيوليبرالية" (الليبرالية في ثوبها الجديد) الذى بات يحمل اسم "العولمة التكنو رأسمالية"، أي تزاوج الرأسمالية بالتكنولوجيا، رغم أن الشعار الظاهري لهذا الحلف هو التصدي للعدو الخارجي للعالم الرأسمالي الذى كان عند تأسيس هذا الحلف عام 1949 يتمحور حول الاتحاد السوفييتي عقب تفجر الحرب الباردة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بسنوات قليلة، لكن عند سقوط الاتحاد السوفييتي وتفكك حلفه العسكري "حلف وارسو" لم يتفكك حلف شمال الأطلسي لأن الرأسمالية لم تسقط على نحو سقوط الاشتراكية، فقد ظل هذا الحلف ثابتاً في ظل تردد قناعات تتحدث عن "نهاية التاريخ" و"الانتصار الأبدي للرأسمالية" والآن توحد الحلف نتيجة أزمة أوكرانيا وأعلن استراتيجيته الجديدة من مؤتمر مدريد المشار إليه التي اعتبرت أن روسيا "هي المصدر الأساسي للتهديد".

كانت السنوات منذ عام 1991، أي منذ سقوط النظام العالمي ثنائي القطبية وانهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك حلف وارسو وحتى مؤتمر مدريد المشار إليه (28- 30/6/2022) هي السنوات التي عاش فيها حلف شمال الأطلسي ظاهرياً مرحلة البحث عن وظائف جديدة أبرزها الحرب ضد الإرهاب، وبالذات ما أسموه بـ "الإرهاب الإسلامي" كعدو جرى تخليقه بعد انفجارات 11 سبتمبر 2001 في واشنطن ونيويورك، لكنه واقعياً كان يحمى الإمبراطورية الأمريكية وفرض أحادية النظام العالمي بقيادة واشنطن على أنقاض النظام العالمي ثنائي القطبية في ظل وجود الاتحاد السوفييتي، وكان يحمى بالتحديد فرض هيمنة ديكتاتورية العولمة التكنو رأسمالية على العالم كله: فرض ديكتاتورية النظام والمؤسسات لكن الأهم هو فرض "ديكتاتورية القيم والأفكار والأخلاق الجديدة" لهذا النظام وعولمتها، أي جعلها عالمية تسيطر على كل العالم.

تظاهرة مدريد التي استبقت انعقاد قمة حلف شمال الأطلسي، الذي أضحى يمثل الذراع العسكري لتحالف عولمة التكنو رأسمالية، قالت "لا" لكل ذلك، وكشفت أن الشق الأكبر والأضخم من المجتمعات الغربية، التي تدفع الأثمان غالية لديكتاتورية تلك العولمة التكنو رأسمالية، ما زال في مقدورها أن تقول لا، وأنها بمقدورها أن ترفض منظومة قيم تلك العولمة وتطالب بسقوطها وسقوط رموزها وعلى رأسها أدائها العسكري أي حلف شمال الأطلسي.

من أبرز الشعارات التي رددها المتظاهرون في تظاهرة مدريد "لا للحرب.. لا للناتو" و"اصنعوا السلام وليس الحرب" و"أوقفوا الإنفاق العسكري.. قدموا للمدارس والمستشفيات". المشاركون في تلك التظاهرة رفعوا هتافات رافضة لاستضافة عاصمة بلادهم لقمة هذا الحلف وزعمائه وسياساته ومشروعاته العسكرية وحروبه، واتهموا الحلف بأنه "يروج للحرب وتجارة الأسلحة"، واعتبروا أن قمة مدريد الأطلسية ليست إلا قمة "المال والسلاح والموت".

هذه التظاهرة حملت مؤشرات رمزية كاشفة لجوهر الصراع الاجتماعي – السياسي في المجتمعات الغربية التي يجرى استنزافها تحت سيطرة تحالف "النيوليبرالية – التكنولوجية" وهول مخرجات هذا التحالف، الذى أخذ يفرض نفسه في ظل هيمنة العولمة وأدواتها الجهنمية على العالم كله، بعد أن وصلت تلك المخرجات إلى ما يمكن تسميته بـ "اللا معقول"، في ظل تنامى خطر ما يعرف بـ "الأتمتة" والذكاء الاصطناعي والتدهور البيئي، عبر تحويل العلم والتكنولوجيا من حلم رائع للبشرية إلى كابوس مفجع أخذ يمتد إلى تغيير الطبيعة البشرية نفسها، وربما القضاء عليها، ومعها كل ما له علاقة من قريب أو بعيد بمعنى الوجود والضمير والأخلاق السامية، مع الاندفاع في ما يعرف بـ "الثورة الجينية" التي يتحكمون بها في خصائص الأجنة التي يريدونها.

تطورات خطيرة أخذت تفرض منظومتها القيمية فضلاً عن منظوماتها في سوق العمل والمعرفة مع كل توسع في صنع "الإنسان الآلي" (الريبوت) الذى أخذ ينافس الإنسان في فرص العمل في مختلف المجالات، ويهدد الجنس البشرى بتقليص فرص العمل أمام الطبقات العمالية وغيرها.

هل هذه المنظومة المتكاملة من ديكتاتورية عولمة التكنو رأسمالية (تحالف التكنولوجيا مع الرأسمالية) إلى تقدم أم إلى انحسار؟

السؤال مهم وإجابته تقودنا إلى الصراع الراهن على قمة النظام العالمي بين المسعى الأمريكي للاستمرار في فرض النظام الأحادي القطبية الذي تقوده واشنطن مسنودة بتحالف الأطلسي وبين المسعيان الروسي والصيني لإسقاط هذا النظام وفرض نظام عالمي بديل متعدد الأقطاب.

نستطيع أن نعرض لفرضية تقول أن نجاح فرص موسكو وبكين في إسقاط النظام العالمي أحادي القطبية الذى تحكمه العولمة التكنو رأسمالية، وفرض نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب يمكن أن يقود إلى إنهاء تفرد سيطرة عولمة التكنو رأسمالية وأذرعتها المالية والعسكرية لصالح منظومات قيمية جديدة تعكس التراث الفكري والثقافي للأقطاب العالمية الجديدة.

إذا حدث ذلك فهذا معناه أن العالم سيكون أمام منظومات قيمية جديدة وأفكار جديدة، تعكس من ناحية الثقافة الآسيوية وعلى وجه الخصوص الثقافتين الصينية والهندية، وتعكس من ناحية أخرى الثقافة الروسية.

رغم أهمية هذا الاستنتاج، فإن العالم كله، وخاصة دول العالم الثالث، سيكون أمام منظومات قيمية وثقافية، وأخلاقيات ومفاهيم جديدة، ليس شرطاً أن تكون محققة أو متجانسة مع قيم باقي مجتمعات وحضارات وثقافات العالم الأخرى، فأين نحن أبناء الحضارة والثقافة العربية – الإسلامية من مثل هذه الاحتمالات والتطورات؟ هل في مقدورنا امتلاك نموذجنا الحضاري الثقافي العربي – الإسلامي في ظل الصراع القادم بين الثقافات والحضارات وأفول عصر العولمة المحتمل؟ هذا هو سؤال التحدي المصيري.