Menu

مشاهد عربية ملتبسة

د. محمد السعيد إدريس

في تقديمه لكتاب "أزمة العالم الحديث" لمؤلفه العلامة الفرنسي "رينيه جينو"، الذى كان لإشهار إسلامه دوي هائل في أوروبا كلها وليس في فرنسا وحدها، ينقل أستاذنا الجليل الدكتور محمد مهنا عن جينو الذى بات يعرف باسم الشيخ عبد الواحد يحيى قوله: "إذا قيل أن العالم الحديث تعتريه أزمة فإن ذلك يعنى أنه بلغ نقطة حرجة، أو بعبارة أخرى، أن تغيراً عميقاً بدرجة أو بأخرى بات وشيكاً، وأن تحولاً في الاتجاه واقع لا محالة طوعاً أو كرهاً، سواء كان ذلك بغتة أو على مهل، في ظل كارثة أو بدونها"، ويعلق الدكتور مهنا على هذا الاستنتاج التحليلي لما كان يموج في أوروبا من تفاعلات فكرية مصاحبة لتحولات سياسية- اقتصادية وأخرى اجتماعية في أواخر عشرينيات القرن الماضي، وقت أن دون "رينيه جينو" مؤلفه المشار إليه، أي منذ ما يقرب من مائة عام الآن، فيقول مستقرئاً لفكر "رينيه جينو" أنه "في الوقت الذى يعتقد فيه الغرب أنه ليس هناك نمط من الحضارات سوى حضارة واحدة هي حضارته الغربية الحديثة فقط يدعمها تقدم متسارع في كافة مناحي الحياة، يفاجئه "رينيه جينو" بأنه يعيش أزمة حقيقية تقوده إلى كارثة محققة، بغتة أو على مهل، إن لم يسرع الخطى لتفاديها، وأن حضارته الحديثة ليست كما يعتقد هي النمط الوحيد للحضارات، بل سبقتها حضارات أعظم شأناً، بل لم تقم حضارته هذه إلا على أنقاض ما تناثر من بقايا تلك الحضارات السابقة ليبني عليها تقدمه الذى يغترُ به على الآخرين".

الملفت في كتاب "أزمة العالم الحديث" أن مؤلفه "رينيه جينو" أو الشيخ عبد الواحد يحيى الذى أصبح علماً من أبرز علماء التصوف الإسلامي أنه، ورغم أنه كان يكتب عن الغرب قبل مائة عام تقريباً من الآن، ركز على فكرة "نهاية العالم" التي أفاض في الحديث عنها والتحذير منها وكأنه يدق "ناقوس الخطر" محذراً الغرب من "السقوط"، لكنه في ذات الوقت كان حريصاً على التمييز بين الغرب وحضارته وبين بقية العالم وحضاراته، مشيراً إلى أن "السقوط" إن حدث سيكون قاصراً على الحضارة الغربية دون سواها، لأنها لم تكن ولن تكون حضارة العالم، وهنا يقول: "إذا كان من المقدر أن تكون هذه النهاية هي مصير الحضارة الغربية بشكلها الراهن، فإنه من المفهوم حينئذ أن يعتقد الذين تعودوا ألا يلتفتوا إلى شيء سواها، ويرون أنها هي (الحضارة الوحيدة) أن كل شيء سينتهى معها، وأنها إذا زالت من الوجود فسيكون ذلك إيذاناً بـ "نهاية العالم".

ويستخلص "رينيه جينو" من مؤلفه الذي أفاض فيه في تحليل أهم مرتكزات الحضارة الغربية ومعالم أفولها، وتحدث باستفاضة عن "النزعة الفردية المستحكمة بفلسفة هذه الحضارة، إلى جانب ماديتها المفرطة، وما نتج عنها من "فوضى اجتماعية" أنها أمام خيارين: إما التجديد الذي يأخذ في اعتباره أسباب التداعي المتسارع وإما الأفول والسقوط وتقبل النهاية".

هذا الاستنتاج يجب أن يكون داعماً لما سبق أن تحدثنا عنه من "مؤشرات سقوط النموذج الأمريكي خاصة والغربي عامة، سقوط قد يبدأ سياسياً واقتصادياً لكن الأخطر أن يصبح ثقافياً واجتماعياً وما يتضمنه المشروع أو النموذج الثقافي للحضارة الغربية من قيم ومبادئ وأخلاقيات وأفكار، كما أنه يجب أن يكون داعماً للعقل العربي وهو يتابع ما يموج في العالم من تحولات وبالذات عالم ما بعد أزمة أوكرانيا، التي يمكن أن تكون علامة فارقة بين عالم ينتهي وعالم آخر بدأت تتشكل معالمه".

يوم الأربعاء الماضي (20/7/2022) قد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عرضاً مهماً لتلك المعالم في محاضرة ألقاها أمام منتدى حوارى في موسكو حمل اسم "أفكار للعصر الجديد"، حيث أكد بقوة على "النموذج الغربي" في إدارة العالم، وقال أن هذا النموذج "قام على نهب ثروات الشعوب" وأنه "فشل في تقديم بدائل للنظام الدولي الحالي المتداعي"، وأعرب عن قناعته بأن العالم "يقف على أبواب مرحلة جديدة من تاريخه" وقال أن "الدول صاحبة السيادة الحقيقية (أي التي تملك إرادة التغيير) سوف تبلور ملامح هذه المرحلة الجديدة وتصوغ معاييرها".

في محاضرته تلك كان بوتين حريصاً على إظهار أن المواجهة القتالية الحالية مع الغرب ليست مرتبطة فقط بالوضع حول أوكرانيا، "لكنها صراع بين نموذجين لإدارة العالم"، مشيراً إلى أن "تاريخ البشرية ينتقل إلى مرحلة جديدة، حيث يمكن للدول ذات السيادة الحقيقية فقط إظهار ديناميكيات نمو عالمية، وأن تصبح مثالاً للآخرين في معايير ونوعية الحياة، وحماية القيم والمثل الإنسانية العليا، ونماذج التنمية التي لا يتحول فيها الإنسان إلى وسيلة بل يصبح الهدف الأعلى". محاضرة بوتين مهمة لأنها ربما تقدم للمرة الأولى معالم جديدة لعالم جديد آخذ في فرض نفسه، بديلاً للعالم الراهن أحادي القطبية الذي تقوده وتسيطر عليه الولايات المتحدة الأمريكية متحالفة مع أوروبا باسم الحضارة الغربية.

كان بوتين حريصاً على أن يؤكد أن بلاده تلعب دوراً أساسياً في التغييرات الراهنة التي يشهدها العالم، وأن يؤكد أنه "لا رجعة في هذه التغييرات الهائلة على الصعيدين الوطني والعالمي، حيث يتم تطوير أسس ومبادئ نظام عالمي متناغم وأكثر إنصافاً، وبتوجه اجتماعي وآمن، كبديل للنظام الحالي، أو النظام العالمي أحادي القطبية الذي كان قائماً حتى الآن، والذي أضحى، بطبيعته، عائقاً لتطور الحضارة".

ما فرص تحقيق هذا العالم الجديد؟.. بقدر أهمية هذا السؤال، هناك أسئلة أخرى لا تقل أهمية، منها مثلاً مآل الحضارة الغربية في حال سقوط النظام أحادي القطبية هل السقوط السياسي- الاستراتيجي يعنى حتماً سقوط حضاري؟ أم أن العكس هو الذي يمكن أن يحدث، بمعنى أن سقوط النظام أحادي القطبية يمكن أن يفرض على الغرب خيار التجدد الحضاري؟

أسئلة مهمة، لأن الصراع السياسي الراهن سيكون مصحوباً حتماً بصراع ثقافي حضاري بين الثقافات والحضارات. إذا كان الأمر كذلك أين نحن (الأمة العربية - الإسلامية) من كل هذه التفاعلات والتحولات؟

هل سنبقى ننتظر من ينتصر من المتصارعين كي نتبعه؟ هل سنبقى مدمنين لخيار "التبعية" أم يجب أن نسلك خيار "التحرر" وأن نخوض معركة تاريخية مع أنفسنا لإعادة إحياء وتجديد حضارتنا العربية – الإسلامية؟

حتى الآن نحن ما زلنا أمام مشاهد مستقبلية ملتبسة، لكن علينا الاختيار بين مشهد النهوض والتجديد والتحرر، أو نبقى أسرى لمشهد وخيار التبعية، دون أن نعى مستقبلاً لمن ستكون هذه التبعية في عالم جديد يموج بصراع الثقافات والحضارات.