طالما رأينا في تاريخ الفكر والفقه الإسلامي مفكرين يجدون في الرسالات السماوية وحدة التجلي الإلهي ناطقة بكل اللغات وبكل البشر وبالطبيعة، والنماء والزوال. كتب عبد الحميد جودة السحار عن السيد المسيح، وكتب العقاد عن عبقريته، وغير ذلك كثير، ولم يقل لهما أحد لماذا تمتدحون المسيحية، إلا أننا في الوقت ذاته كنا شهودًا على شيوخ ومفكرين يجدون أن الدفاع الوحيد عن الإسلام هو الهجوم على الرسالات الأخرى، مثلما تفضل د. عطية الشهير باستنكار إعجاب البعض بموعظة الجبل التي ألقاها السيد المسيح وبلغ به الأمر أن يقول: "بلا السيد المسيح.. بلا السيد المريخ"! وقد حاول عطية التراجع بقوله: "إنني لا أذكر أنني قلت ذلك"! فهل يمكن لهذه العبارة أن تفلت سهوًا وتُنسى؟ أم أنها تعبير صادق عن فكر وموقف الأستاذ الشهير؟ فهل ينتقص الإعجاب بموعظة الجبل شيئًا من عظمة القرآن الكريم؟
لكن القضية أبعد من أن تكون قضية دينية يستهين فيها عطية بمشاعر أخوتنا الأقباط، فهي قضية وحدة وطنية طالما حرصنا على تقديسها وعدم المساس بها. ومثلما أن لدينا في الأسواق مزيلًا للروائح، فإن لدينا مزيلًا للروائع! وأقصد بالروائع صفحات الوحدة الوطنية المصرية التي امتدت وتجلت في كل زقاق، وكل قلب، بدءًا من العسكرية التي ضمت عبد المنعم رياض وباقي زكي يوسف، ومرورًا بالفكر بدءًا من لويس عوض ومحمد مندور، وانتهاء بالإبداع مع يوسف شاهين وصلاح أبو سيف، ويوسف إدريس ويوسف الشاروني، هذه هي روائع الوحدة الوطنية المصرية التي يحاول د. عطية أن يزيلها فلا يزيد عن أنه "يعطن" الجو! وإني لأتساءل: ماذا كان سيحدث لو أن مواطنًا مسيحيًا قال لا قدر الله: "بلا سيدنا محمد.. بلا.. كذا أو كيت".
في ثورة يناير 2011 كنت أقف مع أخي اسحق حنا، أهتف ويردد من بعدي: "يا أحمد روح قول لحنا.. بكره بلدنا ح تصبح جنه"، وفي يونيو وقفت مع أخي حسام عند قصر الاتحادية نرفع شعار "ارحل"، وكل محاولة لتجريح الأقباط هي محاولة لتجريح الوحدة الوطنية والنيل من هذه الصخرة التي تحفظ ل مصر بطولتها وريادتها وتقدمها إلى الأمام رغم كل الصعاب. لقد فتحت عينيَّ شخصيًا على كتب سلامة موسى، هو الذي علمني حب العدالة، وفتحت قلبي على أغنيات فيروز والرحبانية، وعلى ضحكات ماري منيب مع إسماعيل يس، وعلى شعر خليل مطران وحافظ إبراهيم، وحين نتهكم بسخافة على موعظة الجبل أو السيد المسيح، فإننا لا نفعل سوى تمكين المتربصين بمصر من مستقبلنا وحاضرنا. ولن يفلح د. عطية مزيل الروائع في إزالة روائع الوحدة الوطنية، ولا تبديد المحبة التي تجعل الأقباط يوزعون إفطار رمضان على أخوتهم في الشوارع، وقد جرب الكثيرون من قبل أن يكونوا "أنبوبة" معبأة بالكراهية لإزالة المحبة فلم يفلحوا.
ستبقى مصر أقوى من كل تلك السلع الرخيصة، وأرحب صدرًا، وأكثر حنانًا على الوطن، وأما أنابيب الكراهية فمصيرها إلى زوال مثل كل السلع الرخيصة.