Menu

شرحُ التضليلِ الإسرائيليّ والأكاذيب حولَ العدوانِ الأخير على قطاع غزّة

محمد أبو شريفة

نشر هذا المقال في العدد 41 من مجلة الهدف الإلكترونية

ليست الجولةُ الأولى من المعارك التي خاضتها حركةُ الجهاد الإسلامي في مواجهة إسرائيل منفردةً ومعها قوى مقاومة، لكنّها الجولةُ التي حضّر لها الإسرائيليّ جيّدًا؛ مستفيدًا من الدروس والعبر وتراكم الخبرات التي استطاع من خلالها إدارة المعركة وَفْقَ متطلباتِهِ السياسيّةِ والأمنيّة، ولسان حاله يقول: إنّ العدوان الأخير "الفجر الزائف" هو بمثابة ردٍّ وهجومٍ مضادٍّ ومعاكسٍ على "سيف القدس " التي حصلت قبل خمسة عشر شهرًا. فمنذ عام 2005، تسيطرُ إسرائيلُ على ربع القطاع، خاصّةً بعد نشوء حالة "إعادة انتشار" قوّات الاحتلال، ما يضعُ القطاع في دائرة الرصد السياسيّ والقانونيّ، بالإضافة إلى الاستراتيجيّة الإسرائيليّة آنذاك، التي أسهمت في تظهير السلوك الإسرائيليّ تجاهَ غزة ومعاناتها جرّاءَ تعمّق الأزمات الفلسطينيّة، التي نشأت على إثر الخلاف الدائر بين حركتي فتح وحماس؛ الأمرُ الذي يرسم ملامح المشهد الحالي في غزّة، الذي يدورُ حول التهدئة مقابلَ تخفيف الحصار وتحسين شروط الحياة، ولا يختلف هذا المشهد في مضمونه الاستراتيجي عن المشهد في الضفّة الغربيّة، الذي يقضي بالتنسيق والتعاون الأمنيّ مقابل البقاء.

من الطبيعي أن يتحدّث الإسرائيلي عن إنجاز يحمل بعدًا استراتيجيًّا وليس تكتيكيًّا؛ فالمعادلةُ العسكريّةُ والأمنيّةُ التي فرضها في المواجهة الأخيرة أخرج فيها مدنيّوه وعسكريّوه من دائرة الاستهداف وأبقى حدود خسائره في استهلاك مخزونه العسكري والأضرار التي خلفتها صواريخ المقاومة في المباني على غلاف غزة. وعلى الرغم من هذه الإنجازات التي تحققت في هذه المواجهة إلا أن هناك ثمة إشارات وعلامات مهمة برزت تشير إلى أن هذه الحرب كرست عنوانا ثابتا وهو إخراج القوات البرية لجيش الاحتلال من المشاركة في المعركة، لأن الإسرائيلي يدرك أن أي مواجهة برية ستسفر عن خسائر بشرية في صفوفه، وهي معادلة قد ترتد عليه مستقبلا سواء في الجنوب أو في الشمال. ولأن أي حرب يخوضها جيش الاحتلال دون مواجهة برية لا يمكن أن ينتصر بها، والإعلام الإسرائيلي عبر محلليه العسكريين والأمنيين؛ كشفوا النقاب عن التقارير التي قدمت تحليلا عن هذه الحرب وجميعها تصب في عنوانين أساسيين الأول: أن المعركة خيضت ضد فصيل فلسطيني بعينه وهو الجهاد الإسلامي والذي يحاول منذ أشهر بناء معادلة عسكرية وسياسية تقوم على وحدة الساحات بين غزة الضفة؛ علما أنها ليست المعركة الأولى التي يخوض فيها مواجهة بمفرده، حيث خاضت حركة الجهاد الإسلامي عام 2019، معركة امتدت لخمسة أيام على خلفية اغتيال القيادي بهاء أبو العطا. والعنوان الثاني: هو عنوان سياسي إسرائيلي داخلي يتعلق بالانتخابات القادمة ويبدو أن هناك تقاطع إقليمي ودولي على استبعاد نتنياهو من تولي الحكم في كيان الاحتلال؛ فبعد الحرب مباشرة أكدت استطلاعات الرأي المختلفة تراجع حظوظ نتنياهو في الانتخابات القادمة بعد أن كان متقدما على لبيد وغنتس، لكن مجمل هذه الحقائق سابقة لأوانها والتأكد من مصداقيتها والوجهة الأساسية التي سيمضي بها لبيد وغينتس؛ فالحديث يدور عن حزمة من التسهيلات لقطاع غزة مباشرة بعد انتهاء الحرب، ومن الواضح أن عنوان هذه الحزمة هو تسهيلات مرتبطة بتفاهمات إقليمية مع الاحتلال قد تفضي في النهاية إلى رسم معالم وتصورات لواقع غزة بالمجمل، وهنا تتعلق جميعها بموقف القوى والفصائل من هذه الترتيبات الجديدة، خاصة أن الحرب أعطت امتعاضا كبيرا، بأن هناك شرخ فعلي حاصل بين قوى المقاومة لا يمكن لكل التصريحات المنسوبة لقوى المقاومة أن تتخطاها.

لقد أكدت المواجهة الأخيرة على قدرة المقاومة الفلسطينية بإقحام إسرائيل في أتون معركة مسلحة شاملة وإرباك القيادة الإسرائيلية بالتعامل مع واقع المواجهة، من حيث تحقيق الأهداف والتناقض بالأقوال والتصريحات حول مستوى الحسم النهائي لمجريات المعركة؛ الأمر الذي يعني وقوع إسرائيل في فخ "حرب الاستنزاف" والذي أتقنته فصائل المقاومة في العقد الأخير من المواجهات والمعارك وألحقت بها تكلفة باهظة، من حيث إفشالها الأهداف الاستراتيجية للعدوان وعجزها عن قتل إرادة الصمود والمقاومة لدى الفلسطينيين، وبالمحصلة اتسعت رقعة صواريخ المقاومة واستطاعت الوصول إلى عمق كيان الاحتلال، ونجحت في ضرب منظومة الاستقرار والأمان وبث الرعب لدى المستوى القيادي الإسرائيلي ولدى الناس ومجموعات المستوطنين، وبالتالي إسرائيل تكذب جهارا نهارا عندما تقول إنها حققت أهدافها وذلك باغتيال قيادات بارزة في حركة الجهاد الإسلامي "تيسيرالجعبري وخالد منصور" وتحييد حماس عن المواجهة ومحاولة شق صف المقاومة الفلسطينية، حيث ترى القيادة الصهيونية أن المتغير الرئيسي في المواجهة الأخيرة كان حركة حماس ، ومحاولة ضرب وحدة الساحات والفصل فيما بينها. ويبدو أن الرؤية الإسرائيلية تدفع باتجاه التنسيق والتعامل مع حركة حماس مهما بدا مستوى وحجم هذا التنسيق؛ فالحروب العدوانية الستة (2008، 2012، 2014، 2018، 2021، 2022) التي شنتها قوات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة وما أدت إليه من نتائج كارثية على الغزيين المحاصرين تشي بالرضى والقبول لدى القيادة الإسرائيلية، حيث تتلمس جانبا من التعاون لدى حماس فيما تقدمه إسرائيل من بعض التسهيلات لقطاع غزة تتعلق بتمرير الأموال لتغطية رواتبها، وزيادة أعداد العاملين في مناطق 48 من قطاع غزة، والسماح بإدخال كميات محدودة من مشتقات النفط والكهرباء، بهدف تحسين أحوال أهل القطاع المحاصر؛ فالتخطيط الإسرائيلي يرمي في نهاية المطاف إلى تعميق هوة الانقسام وتكريس العزلة بين قطاع غزة وباقي المناطق الفلسطينية، وتعزيز سيطرة حماس واستفرادها حتى تصبح غزة مستقلة سياسيا وإداريا وماليا، وهو توجه بحسب الرؤية الإسرائيلية يستجيب مع رغبات حماس بالتفرد والسيطرة الكاملة على قطاع غزة.

لم تتوقف آلة الدعاية الإسرائيلية عن بث الأكاذيب والأوهام والتضليل الإعلامي في المعركة من قبيل زعمها بأن المواجهة جاءت "للدفاع عن النفس"، وذلك لكي الوعي الفلسطيني والعربي في سياق الحرب النفسية والتأثير على المعنويات وإرباكها بنقائص الهزيمة، حيث زعمت قبل المعركة أنها تملك معلومات مؤكدة حول توجيه ضربة قاسية للجنوب وستنفذها حركة الجهاد الإسلامي الأمر الذي كان نقيضا للواقع؛ فالاحتلال هو الذي بدأ وشن العدوان الغاشم وأوقع المئات بين قتيل وجريح غالبيتهم من الأطفال والنساء والمدنيين.

وفي هذا الصدد ذكرت مجلة الإيكونيميست البريطانية بأنه (رغم النجاحات الاسرائيلية العسكرية في استهداف قيادات في المقاومة، وأن دفاعاتها الجوية استطاعت أن تسقط أغلب الصواريخ التي أطلقتها المقاومة، إلا أن الحقيقة المهمة تظل تقول: إن غزة، هذه المقاطعة الصغيرة المحاطة من كل جانب بأراضي فلسطينية محتلة إسرائيليا؛ استطاعت وتستطيع دائما أن تسحب القيادات الإسرائيلية إلى التورط في عمليات تجلب للأراضي المحتلة وللحكومات الإسرائيلية الاضطرابات).

لا شك بأن المعركة جاءت تعبيرا عن جوهر سلوك الاحتلال العدواني في ممارسته القتل والتدمير بحق الشعب الفلسطيني وأيضا تعبيرا عن الأزمات العديدة التي يعيشها كيان الاحتلال ومن بينها احتدام المعركة الانتخابية المقرر إجراءها في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) القادم؛ فالسيرة الذاتية لرئيس الحكومة الحالي يائير لبيد، الذي شن العدوان على غزة تقول: بأنه لم يكن سوى مراسل صحفي في جيش الاحتلال يطمح لاكتساب تجربة أمنية يسجلها في رصيده الإجرامي، لرفع أسهمه الانتخابية في مقابل رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو الذي يتقدم ب 13 مقعدا عن لبيد، وفقا لاستطلاعات الرأي. وأشار محلل الشؤون العسكرية في صحيفة (يديعوت أحرونوت) بهذا الصدد موضحا بأن "الإيرانيون يمارسون الضغوطات في جبهة لبنان وجبهة غزة، ويفحصون كيفية تصرف رئيس الوزراء يائير لبيد، الذي تتلخص تجربته الأمنية بالعضوية في المجلس الوزاري المصغر للشؤون السياسية والأمنية"؛ لذا أقدم لبيد على مغامرة العدوان لرفع رصيده العسكري والأمني أمام خصومه، ومحاولة زيادة شعبيته، ودفع الشعب الفلسطيني الضريبة بدمه ولحمه. وأوضح استطلاع رأي أجرته القناة 12 الإسرائيلية أن 68% من المستطلعة آرائهم؛ عبروا عن رضاهم عن أداء لبيد خلال جولة التصعيد الأخيرة. واعتبر 73% من المشاركين في الاستطلاع أن غانتس أظهر أداء جيدا خلال العدوان على غزة. وبالرغم من التأييد الإسرائيلي الواسع للعدوان على غزة إلا أن ذلك لا ينعكس بالضرورة على نتائج الانتخابات الإسرائيلية؛ إذ يفشل معسكر رئيس المعارضة بنيامين نتنياهو في الحصول على أغلبية تمكنه من تشكيل حكومة؛ الأمر الذي ينسحب على أحزاب الائتلاف الحالي.

من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن ضخامة الجيش الإسرائيلي، من حيث العدة والعتاد والجاهزية لم ينجح في كبح أداء حركة مقاومة صغيرة سببت له الخسائر بالممتلكات والأرواح وتحدث المحلل في صحيفة (هآرتس) روغل ألفر حول هذا الشأن بالقول: "منذ بدء الـ(عملية)، استمر سكان الجنوب في الحياة تحت الإغلاق، ولكن بالمقابل أطلقت الصواريخ باتجاه مستوطنات (غلاف غزة)، وليس فقط هناك، بل وصلت الصواريخ إلى عسقلان، أسدود، بات يام، ريشون لتصيون وتل أبيب، وبتلخيص غير نهائي، فإنه خلال (العملية العسكرية) تعرضت إسرائيل لمئات الصواريخ، على الرغم من أن سكان الجنوب كانوا تحت الإغلاق التام". لذلك، فإن التساؤل حول من حقق الأهداف، ومن انتصر في المعركة الأخيرة هو تساؤل فضفاض، لأن المواجهة لم تكن متكافئة بين جيش كبير مدعوم من كبريات دول العالم وبين فصيل مقاوم محاصر ومحدود الإمكانيات، وبالرغم من ذلك إلا أنه استطاع توجيه أكثر من ألف صاروخ نحو قلب الاحتلال وخاصرته ونقاطه الحيوية طوال الخمسين ساعة من القصف المتبادل.