نتابع في الآونة الأخيرة تطورات دراماتيكية كبيرة على مستوى الميدان الفلسطيني وتفاقم المأزق الصهيوني الحقيقي في ملحمة المقاومة والكفاح الفلسطيني، فهناك الاشتباكات المتصاعدة ما بين الاحتلال والشباب الفلسطيني، وخاصة على مستوى المعارك المسلحة المتنقلة في أنحاء الضفة، ولذلك نعود هنا مرة أخرى وثانية وثالثة لنذكر: برغم الخناجر العربية -من تهافت على التطبيع ومن ذل وإذعان وهوان وتخلٍ عن القضية والشعب- التي تغرس في ظهر الشعب الفلسطيني، خنجرا تلو الآخر والقادم من المطبعين العرب ربما يكون أشد قسوة وخطرا، إلا أن الفلسطينيين باقون صامدون هناك على الأرض في وجه عسكر ومستعمري الاحتلال، ففي ظل المشهد الفلسطيني الراهن وفي ضوء الجبهات التي يفتحها العدو الصهيوني على كل العناوين والملفات الفلسطينية، وبينما تتمادى قيادات الكيان ومؤسسته الأمنية والسياسية وترعد وتزبد وتعربد وتقتل وتتغطرس وتهدد وتجتاح وتغتال، وبينما تحظى بدعم وغطاء أعتى قوة دولية تقف وراءها، إلا أن تلك القيادات وتلك المؤسسة في حالة قلق دائم، بل إنها ما تزال تخشى الوجود والحضور الفلسطيني بكل عناوينه ومضامينه وتسمياته، فهي تخشى التكاثر العربي الفلسطيني، والتواجد على امتداد مساحة فلسطين، وتخشى انتشار المدارس والجامعات الفلسطينية، والعلم والتعليم والأجيال المتعلمة والتطور التكنولوجي، وتخشى المعرفة الفلسطينية، بل وتخشى حتى الطفل الفلسطيني وهو في بطن أمه، وتخشى القائد والسياسي والعسكري والخبير والمفكر والفنان والصحفي والباحث، وربما أكثر ما تخشاه المؤسسة الصهيونية هو هذا الحضور الفلسطيني في كل مكان في المنابر الأممية والدولية وفي الفعل الشعبي وفي حملة المقاطعة الدولية، وتخشى المسيرات والاعتصامات والمواجهات والتضحيات، فهي تخشى الرواية العربية الفلسطينية ونشر الحقيقة التي من شأنها تراكميا أن تسقط الرواية الصهيونية. فالفلسطينيون في كل الحسابات باقون ولن يذهبوا إلى أي مكان، ولا يمكن هزيمتهم باعترافات كبار محلليهم وباحثيهم، والرعب الصهيوني من صمودهم وحضورهم يتفاقم...؟ وهذا هو المأزق الصهيوني الحقيقي، هكذا هي الخلاصة المكثفة المفيدة في المشهد الفلسطيني الراهن، شاء من شاء وأبى من أبى...!
فهم في الكيان يعملون منذ البدايات على "اختراع وشرعنة إسرائيل وإسكات الزمن العربي الفلسطيني بكل معانيه ورموزه ومعالمه ومضامينه التاريخية والحضارية، لأنهم يدركون تماما أن المعركة ما بيننا وبينهم هي في الحاصل "إما نكون أو لا نكون"، وهم يتصرفون على هذا الأساس، في الوقت الذي تنهار فيه اللاءات العربية –الرسمية- التي كان حملها الراحل الخالد عبد الناصر الذي أكد في أحد خطاباته: "إما أن تكون الأمة أو لا تكون في صراعها مع العدو".
وفي هذا السياق مفيد دائما متابعة الأفكار والمواقف والاعترافات الإسرائيلية المتعلقة بتطورات وأحداث المشهد الفلسطيني والصراع المحتدم على امتداد مساحة فلسطين بين الشعب العربي الفلسطيني وكيان الاحتلال، وفي هذه الاعترافات –الشهادات فليس صدفة أن يتنبأ من يطلقون عليهم "أنبياء الغضب الصهيوني" بزوال "إسرائيل"، وليس صدفة أن يحذر كبير المحللين العسكريين لديهم رون بن يشاي مبكرا في صحيفة يديعوت أحرنوت العبرية 1/7/2019 قائلا: "إن أي جولة حربية تكون نتائجها غير حاسمة لصالح "إسرائيل"، تُعتبر بمثابة مسمار آخر في نعش "إسرائيل"، مضيفا "أن المجتمع الإسرائيلي سوف ينهار من تلقاء نفسه، واليهود المتعطشون للحياة سوف ينتشرون في العالم للبحث عن مكان أكثر هدوءًا وأمانًا تحت الشمس"، مؤكدا: "إذا لم يحدث هذا الانهيار بعد الجولة الحالية، فسيأتي الانهيار الإسرائيلي بعد الجولة التالية أو التي بعدها"، بينما كان الكاتب الإسرائيلي ارييه شبيط كتب مقالة هامة جدا وانتشرت على نطاق واسع وكانت بعنوان: "إن إسرائيل تلفظ أنفاسها الأخيرة".
إلى كل ذلك، يقول الكاتب الإسرائيلي المناهض لسياسات الاحتلال جدعون ليفي في هآرتس: أن غزة على حق، وستبقى تقاتل، وحصارها أكبر جريمة في التاريخ. ويقول الكاتب الصحفي بن كسبيت في "معاريف" أنه بالرغم من الإنجازات ومن نجاحات الجيش الإسرائيلي، فإن الأخبار السيئة هي أن الفلسطينيين ما زالوا هنا، لن يذهبوا إلى أي مكان آخر، سينهضون في صباح اليوم التالي، كما يقول، حتى لو كانوا أكثر يأسا بقليل من اليوم الذي سبقه". أما الدبلوماسي الإسرائيلي المعروف أوري سبير، فاختار "أن يضع دبوسا في البالون المنتفخ، ليخرج الإسرائيليين من حالة "النشوة" التي أصابتهم في أعقاب النجاحات التي حققها نتنياهو -في عهده- المتكئ على ترامب في قضيتي القدس ، وإيران بشكل خاص"، بعد الهبوط إلى أرض الواقع، يقرر سبير بثقة كاملة "أن إسرائيل تمتلك من القوة ما يجعلها قادرة على الانتصار على جميع الدول العربية، وعلى إيران، ولكن ليس على الفلسطينيين-معاريف -، بينما تتساءل الكاتبة مايا روزنفيلد في هآرتس: ما الذي تخاف منه إسرائيل؟ فتجيب هي قائلة: "إن أكثر ما تخشاه هو انتفاضة شعبية فلسطينية مدنية لأنها ستحرجها في التعامل معها أمام العالم...". ويذهب المؤرخ المعروف بيني موريس في تحليل موسع له إلى أبعد من ذلك قائلا: "الفلسطينيون سيتغلبون على اليهود الذين سيهربون للغرب"، وأضاف موريس في مقابلة أجرتها معه صحيفة "هآرتس" أن الفلسطينيين لن يوافقوا على التنازل عن مطلبهم الأصلي "بالحصول على أرض إسرائيل كلها بملكيتهم وسيادتهم، لن تكون هناك تسوية إقليمية، لن يكون سلام على أساس تقسيم البلاد، وهذا نابع بالأساس من أن الفلسطينيين متمسكون برغبتهم في السيطرة على أرض إسرائيل كلها واجتثاث الصهيونية".
وهناك الكثير الكثير من مثل هذه الشهادات والاعترافات الإسرائيلية التي تؤكد بمجملها على "أن الصراع مفتوح وأن الشعب الفلسطيني باق على أرضه وفي وطنه"، مما يعيدنا لنؤكد ثانية وثالثة... في ظل وطأة الاحوال الفلسطينية والعربية الراهنة التي لا خلاف على أنها تصب استراتيجيا لصالح مشروع الاحتلال الصهيوني، بأن خلاصة المشهد الصراعي مع هذا المشروع الصهيوني: طالما أن الصراع صراع وجودي وجذري واستراتيجي لا يستوي ولا ينفع فيه مفاوضات أو تسوية أو تعايش أو تطبيع أو استسلام بفعل موازين القوى، فإنه يصبح بالتالي صراعا مفتوحا حتى هزيمة المشروع الصهيوني وتحرير الوطن بالكامل، ولذلك يجب أن تنتقل رسالة الوعي والصراع والتحرير عبر الأجيال: من الأجداد إلى الأبناء إلى الأحفاد فالأحفاد، وهذه مهمة كل القوى الوطنية الحية مجتمعة... فالمعركة شاقة وطويلة وتحتاج إلى تواصل الأجيال فيها... إنه صراع عابر للأجيال...!