في ضوء هذه الهجمات العسكرية والاستخباراتية والاستيطاني المسعورة التي يشنها الاحتلال على القدس والأقصى في الآونة الأخيرة، دعونا نقرأ بعض الخلفيات وشيئا من الأدبيات الصهيونية المتعلقة باختطاف المدينة المقدسة وتهويدها، فالقصة في المدينة المقدسة، ليست في الحقيقة الصراع على المسجد الاقصى أو الصلاة فيه، وليست كذلك قصة البوابات الالكترونية التي أجبرت هبة الأقصى حكومة نتنياهو على إزالتها، أو قصة انتهاكات واقتحامات يومية للحرم والاقصى، وإنما هي قصة صراع شامل وجذري ووجودي على الرواية والتاريخ والهوية والسيادة والمستقبل، فهم -أي بني صهيون- يسعون منذ بدايات مشروعهم من أجل اختطاف القدس وتسويقها "مدينة يهودية عاصمة لإسرائيل إلى الأبد"، وكان نبيهم مؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هرتزل قد عبر عن هذا الجوهر في إحدى خطبه في المؤتمر الصهيوني الأول [ 29 – 31/ أغسطس – آب/ 1897 ] حيث قال: "إذا حصلنا يوماً على القدس وكنت لا أزال حياً وقادراً على القيام بأي شيء.. فسوف أزيل كل شيء ليس مقدساً لدى اليهود فيها، وسأحرق الآثار -ويقصد العربية الاسلامية طبعا- التي مرت عليها قرون".
ولم تتوقف الحكاية عند هرتزل، وإنما تواصلت عبر العقود والساسة والحاخامات اليهود، ومن هرتزل الى بن غوريون، إلى بيغن، إلى بيريز، إلى شامير، إلى رابين، فشارون فباراك فأولمرت فنتنياهو، ثم جاء الرئيس الأمريكي ترامب ليتوج المشروع الصهيوني التهويدي للقدس باعترافه ومنحه "القدس عاصمة لإسرائيل"، ثم جاء بينيت فلابيد، وهم يؤدلجون هجومهم التهويدي بنصوص توراتية مزيفة...؟!
واليوم، وما بين زمن هرتزل وبعد نحو قرن وعشرين عاما، فإن العنوان الذي يسود المشهد المقدسي:
إن الصراع على القدس والمقدسات بات واضحا تماما إنه صراع على الرواية والهوية والسيادة والمستقبل في ظل موجات متلاحقة من الهجمات الاحتلالية التهويدية التزييفية التي تهدف الى تغيير معالمها التاريخية والحضارية والدينية والتراثية... الخ. فمن هرتزل، وفور احتلال شطر القدس الشـرقي، بعدوان 1967، بادر عدد من كبار المسؤولين الإسرائيليين إلى إعلان عزم حكومتهم ضمّه إلى سابقه المحتل منذ عام 1948، وتوحيد المدينة تحت السيطرة الإسرائيلية. وكانت ذريعتهم في تسويغ ذلك الضم زعمهم (أن القدس، بقسميها، كانت "مدينة يهودية"، منذ أقدم العصور، وينبغي أن تعود كذلك). وبالفعل، ضَمَّن عددٌ من "قادة إسرائيل الأوائل" هذا الزعم في تصريحاتهم التي أعقبت عدوان 1967 مباشرة. فعلى سبيل المثال، بدا هذا الزعم التسويغي واضحاً في التصريح الذي أدلى به ديفيد بن غوريون، يوم 12/6/1967، قائلاً: "إن اليهود قرروا، بشكل نهائي، دمج قطاعي القدس في دولة إسرائيل، وتحويل القدس وضواحيها، عملياً، إلى مدينة يهودية إسرائيلية، إلى أبد الآبدين... تلك المدينة العاصمة الأبدية لشعب خالد، منذ أيام داوود الملك، حتى نهاية جميع الأجيال، إذا وجدت مثل هذه النهاية". وجاء في قول آخر لبن غوريون: "لا معنى لإسرائيل من دون القدس، ولا معنى للقدس من دون الهيكل".
ولا يكاد يختلف تصريح ليفي أشكول أحد رؤساء وزراء إسرائيل السابقين، عما قاله بن غوريون، في نفس جلسة الكنيست التي انعقدت يوم 12/6/1967، فقد قال أشكول: القدس وُحِّدت، وهذه هي المرة الأولى، منذ قيام الدولة، التي يصلي فيها اليهود بجوار حائط المبكى/بقايا دار قدسنا وماضينا التاريخي، وكذلك يصلون عند قبر أمنا راحيل)... وبنفس المعنى والصياغة تقريباً، صرح موشيه دايان، في 7/6/1967، أمام (حائط المبكى) قائلاً: لقد أعدنا توحيد المدينة المقدسة، وعدنا إلى أكثر أماكننا قدسية، ولن نبارحها أبدا). وقال مناحيم بيغن -رئيس وزراء إسرائيل سابقا-: "آمل أن يعاد بناء المعبد –الهيكل- في أقرب وقت، وخلال فترة حياة هذا الجيل"، وفي حفل تأبين أحد جنود اليهود الذي قتل في حرب لبنان عام 1982، وهو (يكوتئيل آدم) قال مناحيم بيغن:- "لقد ذهبت إلى لبنان من أجل إحضار خشب الأرز لبناء الهيكل"/ ثم قال إسحاق رابين- رئيس وزراء سابق-: كتب في مذكراته وهو يصف لحظة دخول القدس عام 1967م: "كان صبرنا قصيراً.. كان يجب أن لا نضيّع الفرصة التاريخية، كنّا كلمّا اقتربنا من حائط المبكى ازداد الانفعال.. حائط المبكى الذي يميز إسرائيل، لقد كنت أحلم دوماً بأن أكون شريكاً.. ليس فقط في تحقيق قيام إسرائيل، وإنما في العودة إلى القدس وإعادة أرض حائط المبكى إلى السيطرة اليهودية.. والآن عندما تحقق هذا الحلم تعجبت: كيف أصبح هذا ملك يدي وشعرت بأننّي لن أصل إلى مثل هذا السمو طيلة حياتي"، ثم جاء إيهود باراك ليعلن أنه: "لا ينوي التوقيع على وثيقة تنص على نقل السيادة على (الحرم القدسي) الذي أعتبره (قلب هويتنا) إلى الفلسطينيين"، وذكرت صحيفة يديعوت أحرونوت قول وزير رفيع المستوى في حكومة براك: "لقد تأخرنا في السيطرة على جبل الهيكل"، وصولا إلى بنيامين نتنياهو الذي "قدّم هدية إلى رئيس الكنيسة اليونانية المطران مكسيموس سلوم في 29/12/1996م وهي عبارة عن مجسّم من الفضة للقدس القديمة لا يظهر فيه المسجد الأقصى نهائياً بل استبدل مكانه برسم مجسّم للهيكل". وكان نتنياهو قد أعلن حينما افتتح النفق في/26/3/1996 قائلاً: "أن إسرائيل قد اكتشفت حجر الأساس للوجود اليهودي في القدس". بينما كان شارون قد أعلن - "أنّ المعركة من أجل القدس قد بدأت" في إشارة إلى بسط السيطرة الاسرائيلية على المسجد الأقصى المبارك. أما أفيغدور ليبرمان فقد وصل إلى حد أن: طالب المسلمين بأن يتقدموا بالشكر لإسرائيل، لأنها تسمح لهم بالصلاة في المسجد الأقصى وقال "إنّه يجب على المسلمين أن يتفهّموا قوانين اللعبة بشكل أفضل، فهذا المكان (الأقصى) لليهود، ونحن نسمح لهم بالصلاة في مكان نحن نعرف أنّه لا يحق لهم أن تطأه أقدامهم"، ويواصل ليبرمان التنظير لمنطقه العنصري قائلا: "إنّ دولة إسرائيل هي دولة الشعب اليهودي وقد قامت لكي يستطيع اليهود في كل أنحاء العالم أن يتعبّدوا بحريّة في أماكنهم المقدسة، وأهم هذه الأمكنة هو هذا المكان".
وقال إسحق رابين بعد توقيع اتفاق أوسلو بين عرفات والكيان الصهيوني، "إن السيادة على القدس غير قابلة للتفاوض لا الآن ولا غداً لأنها تمثل القلب والروح للشعب اليهودي". ولم يشذ آرييل شارون عن هذا النهج، بل إنه منسجم مع قناعاته الأيديولوجية التوراتية العنصرية، إذ أكد مراراً عزمه على تعزيز تجمعات المستوطنات في الضفة الغربية، وفي الثالث من مارس/ آذار أعلن شارون أمام اللجنة المركزية لحزب الليكود: "سنتمكن بفضل الاستيطان من الاحتفاظ إلى الأبد بمواقع مهمة وأساسية لوجودنا في القدس عاصمتنا الأبدية الموحدة وبمجموعة المستعمرات التي توجد في أكثر الأماكن قدسية في تاريخنا وبمناطق أمنية مهمة لدفاعنا". وأوضح: "أن معاليه أدوميم ستتيح لنا خلفية استراتيجية للجانب الشرقي من القدس لمنع تسلل المقاومين الأمر الذي لن يمنع التواصل الجغرافي لدولتهم المستقبلية بفضل طريق يربط بيت لحم برام الله حول أدوميم".
يضاف الى ذلك سلسلة تصريحات جاءت على لسان كبار الحاخامات حول هدم الاقصى وبناء الهيكل المزعوم، وكلها تستند الى اساطير توراتية مزيفة.
لقد وصل هذا الفكر والنهج الصهيوني التدميري الإلغائي في هذه الايام ذروته بالإعلان عن مخطط تهويد واختطاف للمدينة بإعلانها "عاصمة للشعب اليهودي"، من جهة، وبوعد ترامب البلفوري من جهة أخرى.
وما بين زمن هرتزل، واليوم، يعتلي نتنياهو المنبر السياسي الأيديولوجي الصهيوني ليعلن تباعا: "اليوم لن اتحدث عن فك الارتباط، وإنما عن الارتباط بتراثنا وبالصهيونية وبماضينا وعن مستقبلنا هنا في أرض أجدادنا التي هي أرض أبنائنا وأحفادنا، ومن أجل أن نواصل السيطرة على مصيرنا يجب أن نؤسس قدراتنا الشاملة في الأمن والاقتصاد والثقافة والتعليم، وإذا أردنا أن نتحدث عن شيء أكثر أساسية، فأنني سأتحدث عن ثقافة قيم الهوية والتراث، ثقافة معرفة جذور شعبنا، ثقافة تعميق ارتباطاتنا الواحد مع الآخر في هذا المكان، وأعتقد أن الثقافة تبدأ أولا في التناخ، لدينا حوال 30 ألف معلم تاريخي يهودي يجب أن نحييها من جديد، أن شعبا لا يتذكر ماضيه، فإن حاضره ومتقبله يبقى ضبابيا/ نتنياهو أمام هرتسليا".
وليواصل بعد ذلك مسلسل تصريحاته التي تحمل في أحشائها موقفا صريحا يخلد الاحتلال ويزيف الرواية والحقائق التاريخية، فيقول على سبيل المثال: "أن القدس الموحدة هي عاصمة إسرائيل وليست مستوطنة"، زاعما في كلمة أمام اجتماع لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية ما يسمى "إيباك" إن "الشعب اليهودي بنى القدس منذ ثلاثة آلاف سنة، وهو يبني القدس اليوم". ثم يضيف لاحقا في خطاب ألقاه من على (تلة الذخائر) في حي الشيخ جراح التي شهدت معارك شرسة في حزيران/ 1967 قبيل احتلال شرقي القدس بأن "الروابط القائمة بين الشعب اليهودي والقدس اقوى من أي روابط تقيمها شعوب أخرى، بهذه المدينة وقد صمدت على مدى آلاف السنين"، مستندا إلى التوراة ليحدد مزاعم الدولة اليهودية بشأن المدينة المقدسة، مزيفا للحقائق قائلا: "أن القدس واسمها العبري البديل "صهيون" وردت 850 مرة في العهد القديم او التوراة، أما بالنسبة لعدد المرات التي وردت فيها القدس في الكتب المقدسة للأديان الأخرى أوصيكم بأن تراجعوا هذا"، مضيفا: "أن القدس ذكرت 142 مرة في العهد الجديد ولم يرد في القرآن اسم واحد من بين 16 اسما عربيا للقدس"، مؤكدا:" لن نتنازل عن البناء في القدس حشاشة قلبنا"...
إلى ذلك، فإن المتتبع لتصريحات الحاخامات اليهود والساسة الإسرائيليين منذ احتلال المسجد الأقصى عام 1967 وحتى الآن، يخلص إلى نتيجة واضحة وهي "أن هناك إجماعا قوميا دينيا وعقائديا، رسميا حكوميا، حزبيا وشعبيا في المجتمع الإسرائيلي يبين إصرارهم وسعيهم الحثيث لبناء الهيكل الثالث المزعوم، في الوقت الذي يرونه مناسباً على حساب المسجد الأقصى.
ولكن التطور الأخطر في حكاية القدس جاء من قبل الرئيس الأمريكي ترامب الذي أعلن الأربعاء الاعتراف ب"القدس عاصمة لإسرائيل- واشنطن (أ ف ب) – December 6, 2017" في قرار تاريخي يطوي صفحة عقود من السياسة الاميركية، ما يمكن أن يؤدي إلى موجة جديدة من أعمال العنف في الشرق الأوسط. وقال ترامب في كلمة من البيت الأبيض “قررت أنه آلان الأوان للاعتراف رسميا بالقدس عاصمة لإسرائيل”. مضيفا: "القدس هي مقر الحكومة الإٍسرائيلية والكنيست والمحكمة العليا"، وليس ذلك فحسب، ولكن هذا القرار الترامبي يحظى كذلك بأجماع الحزبين الأمريكيين وراء تهويد القدس وفلسطين، فقد جاء في تقرير إعلامي:" ان إعلان الرئيس دونالد ترامب إخراج القدس، وما تمثله من كيانية وهوية وتاريخ، من معادلة "التفاوض،" راهناً ومستقبلاً هو تسليم بالسردية الاسرائيلية ومزاعمها التي لا تسندها الحقائق التاريخية، ناهيك عن الأبعاد السياسية والجغرافية، في جزئية بسيطة لم ينطق الإعلان باعتراف "رسمي" لضم السلطات الاسرائيلية الجزء الشرقي من القدس المحتلة، التي لا زالت مصنفة أرضا محتلة في الأدبيات الأميركية حتى اللحظة -الميادين نت-مكتب واشنطن بالتعاون مع مركز الدراسات الأميركية والعربية-2017-12-09". وجاء في التقرير "أن الإعلان حظي بدعم وتأييد أركان المؤسسة السياسية الحاكمة، وشبه إجماع من الحزبين وواكبه بعض التحفظات من داخل المؤسسة عينها".
وهكذا- كما نتابع، فهناك من جهة أولى إجماع أيديولوجي ديني وسياسي واستراتيجي ما بين السياسيين والحاخامات اليهود، يضاف إليهم كذلك الأكاديميون والإعلاميون وغيرهم، على "أن القدس عاصمة إسرائيل إلى الأبد" وعلى "أنه لا بد من هدم الأقصى وبناء الهيكل مكانه".
وهناك من جهة ثانية شبه إجماع سياسي واستراتيجي وأيديولوجي أمريكي كذلك وراء قرار ترامب بمنح "القدس عاصمة أبدية لإسرائيل".
لنجد أنفسنا في الحاصل الاستراتيجي كشعب عربي فلسطيني وكأمة عربية، أمام تحالف شيطاني يمتد من هرتزل الصهيوني ويمر عبر نحو قرن وخمسة وعشرين عاما من الزمن، وعبر الإدارات الأمريكية المتتابعة وعبر الرؤساء الأمريكان المتتابعين، وكذلك عبر حكومات وإدارات ورؤساء الاحتلال الصهيوني من بن غوريون إلى لابيد، وصولا إلى الرئيس ترامب فالرئيس بايدن، كلهم يجمعون على اختطاف وتهويد فلسطين والقدس العربية لصالح المشروع الصهيوني الاستعماري الاقتلاعي الاحلالي...
ما يجعلنا نوثق أولا أن الصراع على المدينة المقدسة هو صراع على الوجود، وعلى الرواية والهوية والسيادة والمستقبل... وما يستدعي ثانيا من الجميع فلسطينيا وعربيا إعادة ترتيب الأوراق والأولويات والحسابات كلها، لتعود الأمور إلى بداياتها، باعتبار أن الصراع صراع وجودي وجذري مع المشروع الصهيوني ومن يقف معه من الغرب الاستعماري.