يقولُ العلّامة الرياديّ في القانون الدوليّ والمثقّف الجماهيريّ والمقرّر الأسبق للأمم المتّحدة في فلسطين البروفيسور ريتشارد فولك (٩٢ عامًا)، في حوارٍ استضافته فيه “مبادرة فلسطين ١٠٠”، تحت رعاية “مركز كيمبريدج لدراسات فلسطين - ومديره الأستاذ الدكتور مكرم خوري - مخول لندن –19/8/2022: "إنّ الانتهاكات الإسرائيليّة الصارخة للقانون الدولي – في ضوء اقتحام مؤسّسات المجتمع الأهليّ الفلسطينيّ الإسرائيلي (صباح يوم ١٨ آب ٢٠٢٢) على يدّ قوّات الاحتلال- تأتي في إطار الحرب على السرديّة الفلسطينيّة"، كما أنّ هذا الهجوم الصهيونيّ الأمريكيّ الألمانيّ على الرئيس الفلسطينيّ أبو مازن بعد إعلانه عن "50 مذبحة=50 هولوكوست"؛ اقترفت بحقّ الشعب الفلسطينيّ يأتي أيضًا في سياق الهجوم الصهيونيّ المرعب على الرواية - السرديّة الفلسطينيّة؛ فما أعلنه الرئيس هو جزءٌ من الرواية الوطنيّة الفلسطينيّة عمّا جرى ويجري في فلسطين. يضافُ إلى ذلك؛ سلسلةٌ كبيرةٌ من الهجمات والاقتحامات الاحتلاليّة ضدّ مؤسّساتٍ فلسطينيّةٍ في القدس وغيرها، هدفُها قمعُ أيّ نشاطاتٍ ثقافيّةٍ أو اجتماعيّةٍ فلسطينيّة؛ تأتي في سياق السرديّة والثقافة الوطنيّة الفلسطينيّة.
ولذلك نعودُ مرّةً ثانيةً وثالثةً ورابعةً لنوثّقَ كي لا ننسى ما يجري هناك على امتداد فلسطين المحتلّة:
في ظلِّ المشهدِ الفلسطينيّ الراهن، وفي ضوء الجبهات التي يفتحها العدو الصهيوني على كل العناوين والملفات الفلسطينية، وبينما تتمادى قيادات الكيان ومؤسسته الأمنية والسياسية وترغد وتزبد وتعربد وتقتل وتتغطرس وتهدد وتجتاح وتغتال، وبينما تحظى بدعم وغطاء أعتى قوة دولية تقف وراءها، إلا أن تلك القيادات وتلك المؤسسة في حالة قلق دائم، بل إنها ما تزال تخشى الوجود والحضور الفلسطيني بكل عناوينه ومضامينه وتسمياته؛ فهي تخشى التكاثر العربي الفلسطيني والتواجد على امتداد مساحة فلسطين، وتخشى انتشار المدارس والجامعات الفلسطينية، والعلم والتعليم والأجيال المتعلمة والتطور التكنولوجي، وتخشى المعرفة الفلسطينية، بل وتخشى حتى الطفل الفلسطيني وهو في بطن أمه، وتخشى القائد والسياسي والعسكري والخبير والمفكر والفنان والصحفي والباحث، وربما أكثر ما تخشاه المؤسسة الصهيونية هو هذا الحضور الفلسطيني في كل مكان؛ في المنابر الأممية والدولية، وفي الفعل الشعبي، وفي حملة المقاطعة الدولية، وتخشى المسيرات والاعتصامات والمواجهات والتضحيات؛ فهي تخشى الرواية العربية الفلسطينية ونشر الحقيقة التي من شأنها تراكميا أن تسقط الرواية الصهيونية.
الكاتب الإسرائيلي المعروف بمناهضته لسياسات الاحتلال جدعون ليفي، كتب في هآرتس العبرية عن هواجس الخوف الصهيوني الكامن من النكبة والرواية الفلسطينية، فقال: "150 موقعاً تراثياً على الانترنت وأكذوبة قديمة كبيرة، هي: شعب بلا أرض أتى أرضاً بلا شعب، فبعد أكثر من 100 سنة من الصهيونية وأكثر من 70 سنة من وجود الدولة ما تزال إسرائيل تحتاج إلى الإخفاء، والتنكر، والطمس على الحقائق والتغطية عليها، من أجل تسويغ وجودها، لا يوجد برهان أكبر من ذلك على عدم ثقتها بعدالتها، ليس هذا يوم عيد للمؤمنين بما بعد الصهيونية؛ دولة طمست بخراج (الكيرن كيميت) 416 قرية ضائعة وجدت في البلاد مئات السنين، ولا تترك علامة تدل عليها ولا حتى لافتة، يجب في آخر الأمر أن تعطي لمواطنيها التاريخ كله لا فصولاً مختارة فقط منه".
ويضيف: الرواية الفلسطينية، وهي لا تقل صدقاً وأصالة عن روايتنا (الرواية الصهيونية المزيفة المبنية على الأساطير والأكاذيب المخادعة)، ما تزال تعد مبنى خطراً في نظرنا... لماذا؟ إذا كان كل شيء عدلاً في العام 1948، فلماذا نخفي ونهمل ونحيط بجدار ونحذر؟ لماذا لا نرمم، في إطار خطة التراث، وأن نحكي لأبناء زخاريا الحقيقة عن الأرض التي يسكنون فوقه؟ لماذا يعد من "ما بعد الصهيونية" المعيبة أن نقول إنه كانت هناك قرية، قامت منذ أيام الرومان والبيزنطيين، وسكنها في القرن السادس عشر 259 نسمة، وسكن في العام 1948 في بيوتها الـ 181/ألف ومائة وثمانون ساكناً عربياً، ويجوز أيضاً أن نتحدث عن نهاية القرية، وأن نروي كيف أنه في آذار 1949، بعد إقامة الدولة وانقضاء الحرب، في الوقت الذي كانت فيه القرية ما تزال آهلة. كتب المسؤول عن الإقليم في وزارة الداخلية أنه يوجد "في القرية بيوت جيدة كثيرة، وسيكون من الممكن أن نُسكن فيها عدة مئات من المهاجرين الجدد"، وكيف التقى بن غوريون أثناء عطلته في طبريا، موشيه شريت وطائفة من الموظفين، وقرر طرد سكان القرية، وكيف طردوا في صيف 1950 إلى الأبد، أليس هذا لذيذاً؟ لكن يجب أن نعلم، فهذا أيضاً جزء من تاريخنا.
هكذا هي الحقيقة أيضا؛ صراع جذري شرس ما بين الرواية الصهيونية المزيفة وما بين الرواية الفلسطينية المستندة إلى معطيات وحقائق التاريخ والحضارة والوجود، فهم في الكيان يعملون منذ البدايات على "اختراع وشرعنة إسرائيل وإسكات الزمن العربي الفلسطيني؛ بكل معانيه ورموزه ومعالمه ومضامينه التاريخية والحضارية، لأنهم يدركون تماما أن المعركة ما بيننا وبينهم هي في الحاصل: "إما نكون أو لا نكون"، وهم يتصرفون على هذا الأساس، في الوقت الذي تنهار فيه اللاءات العربية – الرسمية - التي كان حملها الراحل الخالد عبد الناصر الذي أكد في أحد خطاباته: "إما أن تكون الأمة أو لا تكون في صراعها مع العدو".
وتبقى الحقيقة الكبيرة في ضوء كل ذلك: أن فلسطين ستبقى عصية على الانكسار وأن قيادات العدو ستبقى تخشى الوجود والحضور الفلسطيني، وأن الشعب العربي الفلسطيني في حالة اشتباك تاريخي ووجودي وجذري مع المشروع الصهيوني، وبالتالي تحتاج فلسطين والقدس والقضية كما يحتاج الانتصار إلى عودة العمق والموقف والدعم العربي الحقيقي.