Menu

الانتخابات الكويتية والوثيقة البديلة

د. محمد السعيد إدريس

كشفت نتائج الانتخابات البرلمانية الكويت ية التي أجريت يوم الخميس الفائت (29/9/2022) عن حقيقة مهمة هي أن المجتمع الكويتي بمكوناته المختلفة القبلية والسياسية والطائفية، لم ينصت بما فيه الكفاية للرسالة التي أرادها من صاغوا ما أسموه بـ "وثيقة القيم" قبل أيام معدودات من موعد إجراء تلك الانتخابات. كانوا يأملون قبولاً واسعاً من المرشحين للانتخابات، لهذه الوثيقة، وكانوا يأملون أن يصوت الشعب الكويتي لصالح هذه الوثيقة، أي لمن وقع عليها من المرشحين، من منظور أنها تؤسس لمنظور قيمي يقدر له أن يكون ضابطاً ومحدداً للهوية الوطنية الكويتية.

جاءت الانتخابات، وأعلنت النتائج، وبدت تلك الوثيقة كأنها لم تكن. لم تضف نتائج الانتخابات جديداً لحصة الإسلاميين في مجلس الأمة الكويتي، لكنها لم تنتقص أيضاً من حصتهم، وهذا معناه أن كتلة الناخبين المؤيدة للإسلاميين من سلف وإخوان لم يحدث لها أي تغيير لا بالزيادة ولا بالنقصان، ما يعنى أن وثيقة القيم لم تحدث أي تغيير في الكتلة الانتخابية المؤيدة للتيار الإسلامي. فمن بين عدد نواب مجلس الأمة الكويتي الـ 50 مقعداً حصل الإسلاميون على حصتهم السابقة في المجلس السابق وهي 10 مقاعد، حيث فازت كتلة الإخوان المسلمين وذراعها السياسي (الحركة الدستورية الإسلامية) على أربعة مقاعد حافظت عليها من المجلس السابق، إضافة إلى معقد خامس لأحد المقربين من الإخوان، أما التيار السلفي فقد حاز هو الآخر على خمسة مقاعد.

في المقابل فاز نواب الشيعة بـ 9 مقاعد توزعوا على معظم الدوائر الخمس، إضافة إلى نائبين مستقلين من الشيعة منهما الوزيرة السابقة جنان بوشهري. وهذا يعنى أن المجتمع الكويتي بات يشهد "تعددية طائفية" تغذيها بكل أسف الصراعات السياسية المحيطة بالكويت من كل جانب، وجعلته عرضة للصراع الطائفي المتفجر بعنف داخل العراق. كما يعايش الكويت الأحداث الإيرانية بكل تطوراتها الداخلية والإقليمية، وخاصة التوترات بين دول عربية خليجية وإيران. وهكذا أخذت تأثيرات الفرز الطائفي تصل إلى المجتمع الكويتي، وسبقه في ذلك المجتمع البحرين ي، حيث باتت الطائفية تسابق الوطنية في الصراع المجتمعي بين من هم محسوبون على الطائفة الشيعية ومن هم محسوبون على الطائفة السنية، لدرجة أن ما كان يعرف بـ "نادى العروبة" البحريني قبل أقل من عقدين مضيا، وكان يضم في عضويته صفوة العروبيين الوحدويين البحرينيين وأغلبهم كانوا من الطائفة الشيعية، يعانى الآن من "الانزواء المعنوي" في ظل سطوة "الطائفية السياسية"، وهى السطوة التي أخذت تنافس بحدة في التأثير على الهوية الوطنية.

لكن رغم ذلك، فإن ثقل وسطوة هذه الطائفية السياسية ما زال محدوداً في الكويت، فنتائج الانتخابات، وإن كانت قد كشفت عن غياب أي تأثير لـ "وثيقة القيم" فإنها جاءت بنتائج تؤكد تفوق القوى الوطنية الكويتية من معارضة وموالاة، ولكن بتفوق ملحوظ للمعارضة التي تفوقت على النواب المؤيدين للحكومة في البرلمان السابق. فقد حصلت المعارضة على 28 مقعداً من إجمالي مقاعد مجلس النواب التي يبلغ عددها 50 مقعداً، وخسر 20 نائباً سابقاً مقاعدهم من ثلاثة وزراء سابقين، ناهيك عن خسارة النائبة السابقة فجر السعيد "داعية التطبيع" مع كيان الاحتلال الإسرائيلي في "تصويت عقابي" نفذه الشعب الكويتي. ولم يستطع أكثر من 12 نائباً سابقاً المحافظة على عضويتهم، ما أدى إلى أن نسبة التغيير في العضوية بالمجلس الجديد بلغت نحو 54%.

نتائج أقل ما يمكن أن توصف به أنها "نتائج مبهرة"، أهم ما أكدته هو أولاً: حيوية المجتمع الكويتي ووعيه السياسي المرتفع. فالناخب الكويتي أضحى مدرباً على فرز الغث من السمين، وبات واعياً بالأولويات الوطنية المطلوبة، وأكثر منعة في التصدي للدعايات المزيفة وشراء الأصوات. وساعدت الحكومة الكويتية بقراراتها الجديدة على تحقيق هذا الانجاز الذي تحقق في هذه الانتخابات، أو بتحديد أكثر تحقيق قدر كبير منه، بما أظهرته من حزم في معالجة الملفات المتعلقة بالانتخابات ومن أبرزها عمليات نقل الأصوات بين الدوائر الانتخابية، والتلاعب في سجلات الناخبين، وشراء الأصوات بالمال السياسي، فضلاً عن المشكلة الأبرز وهي محاربة تنظيم القبائل لانتخابات داخلها حرصاً منها على حصر الفائزين في دوائرها ليكونوا من أبنائها. فالقبائل التي ظلت حريصة على أن تكون موجودة بقوة داخل مجلس الأمة، كانت تقوم بعمل انتخابات فرعية داخلها بين أبنائها الراغبين في الترشح في انتخابات مجلس الأمة، ويتم التصويت داخل القبيلة على هؤلاء المرشحين والفائز منهم تقف القبيلة كلها من خلفه لإنجاحه بعد أن تكون قد نجحت في منع حدوث أي منافسة انتخابية بين أبنائها.

هذه الأدوار الحكومية لعبت دوراً مهماً في تمكين الشباب والمرأة والقوى الحديثة في المجتمع الكويتي أن يكون لها أدواراً فاعلة، وهذا تطور مهم يخدم دعوة تحديث المجتمع الكويتي، وإعلاء الولاء الوطني على الولاء القبلي.

من النتائج المهمة أيضاً في هذه الانتخابات أنها كشفت، بما لا يدع مجالاً للشك، أنه في ظل تعدد القوى والاتجاهات السياسية والدينية في أي مجتمع من المجتمعات لن يكون في مقدوره أي من هذه الاتجاهات والتيارات أو أي من المكونات العرقية أو الطائفية أن يعطى لنفسه منفرداً القدرة على بلورة الهوية الوطنية للمجتمع. فالهوية الوطنية هي بمثابة "سبيكة" شديدة التعقيد تجمع كل ما يربط كل هذه المكونات والاتجاهات والتيارات من جوامع مشتركة صاغها التاريخ المشترك، وانتجتها الجغرافيا السياسية، وحددت معالمها مجمل تفاعلات الوطن مع جواره الإقليمي وعلاقاته الدولية، وهذا ما لم يستطع، بكل أسف، من صاغوا وثيقة القيم في الكويت الذين لم يكترثوا بالأولويات الوطنية التي تشغل المواطن الكويتي. فالمجتمع الكويتي مفعم بالكثير من الهموم السياسية والاقتصادية والأمنية. تشغله التركيبة السكانية المثلى، وتزعجه المخاوف من أي اختلال يحدث في هذه التركيبة، يشغله كيف يمكن التحول من الاقتصاد الرجعى المعتمد على النفط إلى الاقتصاد الحديث الذي يجعل "المعرفة" المنتج الأساسي للثروة، يشغله الانتقال بالمجتمع الكويتي من مجتمع تقليدي – قبلي – محافظ إلى مجتمع عصري يعيش ويعرف ويمارس التعددية السياسية، ويمارس أهم ما يميز الديمقراطية كنظام للحكم وهو "تداول السلطة" بين القوى والتيارات السياسية. يشغله الأمن الوطني ومخاطره في ظل كثافة ما يواجه من تهديدات إقليمية ودولية. يشغله ترشيد السلطة وإكسابها الفاعلية المطلوبة لتقوم بأداء الوظائف والأدوار المنوطة بها، ووضع حد للصراع المحتدم بين مجلس الأمة والحكومة وتحقيق القدر الأكبر من الاستقرار السياسي والأمن الاجتماعي.

هذا ما يشغل الشعب الكويتي، وهذا ما لم يشغل فكر وعقل من صاغوا ما أسموه بـ "وثيقة القيم"، لذلك لم يصوت الكويتيون لهذه الوثيقة، صوتوا لوثيقة أخرى تشغلهم بقدر عشقهم وحبهم للكويت، وثيقة لم تتبلور معالمها بعد.