Menu

الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.. من موقع المسؤولية التاريخية

د. وسام الفقعاوي

 

شكلت انطلاقة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بعد هزيمة حزيران 1967، إضافة نوعية جديدة للنضال الوطني الفلسطيني، ليس كون تأسيسها جاء رداً على تلك الهزيمة أو كونه أحد افرازاتها الفكرية والسياسية والتنظيمية فقط، بل بما عبرت عنه منذ تأسيسها من رؤى ومنطلقات وأفكار وأهداف وطموحات وطنية واجتماعية، جعل تمايزها عن الفصائل والتنظيمات التي كانت موجودة في الساحة الفلسطينية آنذاك مسألة أساسية، انعكس ذلك على وزنها ووجودها وفعلها وممارستها حيث أخذت موقعاً ومكاناً متقدماً بين تلك الفصائل والتنظيمات جعلها تقف بين ترتيب الأول والثاني سواء قبل وجودها في مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية أو بعد فترات متقدمة من ذلك الوجود.

لم تكن الجبهة لتحظى بالمكانة المتقدمة في الأوساط الشعبية الفلسطينية والعربية، لولا أن هذه الأوساط رأت في الجبهة أحلامها وطموحاتها وآمالها والقدرة بالتالي على التعبير عن أهدافها في الحرية والاستقلال والعودة والانعتاق من كل أشكال ومظاهر القهر والظلم الوطني والطبقي.

إن كِبر حجم المكانة والدور عدا عن انه مرتبط بظروف موضوعية وذاتية لها شروطها ومحدداتها في الواقع المحقق في حالة الجبهة الشعبية سابقاً، فانه أيضاً مرتبط بكونها تمثل استمراراً تاريخياً لإرث وتجربة الحركة الأم (حركة القوميين العرب)، سواء على صعيد الرؤية أو البنية أو اتساع مساحة الوجود وقدرة الفعل التي وضعت الجبهة في مكان متقدم.

وإذا ما أمعنا الفكر والنظر في المشترك بين الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والحركة الأم (حركة القوميين العرب) عدا الرؤية والبنية ومساحة الوجود والفعل والاستمرارية التاريخية، سنجد أن تأسيسهما وانطلاقهما كان نتاج هزيمتين مُني بهما العرب والفلسطينيين، سواء هزيمة/نكبة 1948، التي أعقبها تأسيس حركة القوميين العرب بداية الخمسينيات من القرن المنصرم، أو هزيمة/نكسة حزيران 1967، التي شهدنا بعدها بستة أشهر تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. بمعنى أن تأسيس وانطلاق الحركة ومن ثم الجبهة جاء في سياقات الرد على الهزائم التي مُنينا بها، وفي البعد الأعمق والأشمل الرد على المشروع الصهيوني وكل ما يمثله من مخاطر وتحديات حقيقية على تاريخ ومستقبل كل الوطن العربي وليس فلسطين فقط.   

بهذا المعنى، فإن مفهوم المسؤولية التاريخية ينطبق على الجبهة أكثر من غيرها، انطلاقاً من كونها تمثل عنواناً للاستمرارية التاريخية، التي بحساب الإدراك والوعي وخصوصية التجربة تختصر ما يزيد عن مائة عام من الصراع في ثمانية وأربعون عاماً من الزمن الفعلي من عمر الجبهة الشعبية، وعليه لم يكن هذا الزمن سوى استمراراً للاشتباك مع العدو الصهيوني ومشروعه القائم على الإرهاب والاقتلاع والإحلال والاستيطان والهيمنة والسيطرة وإدامة الاحتلال.

من هنا فإن مفهوم المسؤولية التاريخية، هو تأكيد على المسار الجديد والنوعي الذي شقته الجبهة الشعبية، وعلى التضحيات الكبيرة التي قدمتها، وعلى الرؤى والتطلعات العميقة التي عبرت عنها، وعلى الأخلاق الثورية التي جسدتها، وعلى التجارب والمآثر التي تنهل منها، وعلى احترامها الواسع بين قطاعات كبيرة من شعبها، وعلى سؤال حارق في ضوء كل ما سبق: هل يمكن للتاريخ أن يبقى محتفظاً بما سبق إن لم يزكيه استمرار الوجود الفاعل والمؤثر في الواقع الراهن؟!

فالتاريخ لا يمكن أن يبقى إمتيازاً حصرياً لأحد إلا إذا استمر حاضراً فيه ومعه، وفاعلاً ومؤثراً وقادراً على ترجمة رؤاه وسياساته وبرامجه إلى واقع محقق، يجعل من شرط الاستمرارية مقابلاً للإرتقاء والتقدم المستمر، الذي يبدأ من وعي الدور والمكانة ارتباطاً بمستوى وعي الوظيفة الوطنية والاجتماعية وثقلها من موقع وعي المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقه، وهنا بالضبط موقع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي عبرت عنها منذ تأسيسها.

وتزداد المسؤولية التاريخية وموقع الجبهة في قلبها، في ضوء استمراء القيادة الرسمية الفلسطينية لنهج التفاوض، رغم سقوط كل الأوهام التي نُسجت حول نهج التسوية، حيث ثبت فعلياً بؤس هذه القيادة وسياساتها.

وتزداد المسؤولية التاريخية وموقع الجبهة في قلبها، في ضوء ما وصله واقع الحال الفلسطيني من انقسام وتشتت ضرب في العمق النسيج الوطني والاجتماعي الفلسطيني، وأبرز أن طرفي الانقسام لم يعودا يمثلان فعلياً سوى مصالحهما الخاصة البعيدة كل البعد عن المصلحة الوطنية الفلسطينية العليا.

وتزداد المسؤولية التاريخية وموقع الجبهة في قلبها، في ضوء استمرار الفعل الانتفاضي الإبداعي الفلسطيني في الضفة الفلسطينية الذي يقترب من دخول شهره الثالث، بحيث ثبت أن شعبنا رغم كل محاولات تدجينه وتزييف وعيه وتشتيت قواه وتمزيق نسيجه، إلا إنه قادر على الحفاظ على اتجاه بوصلته الوطنية.

وتزداد المسؤولية التاريخية وموقع الجبهة في قلبها، في ضوء ما تعيشه المخيمات الفلسطينية في مواقع اللجوء وبالتالي جوهر القضية الفلسطينية (قضية اللاجئين) من استهداف وتدمير واحتواء وتشريد وتشتيت جديد.

تزداد المسؤولية التاريخية وموقع الجبهة في قلبها، فيما وصلت إلية الأداة الكفاحية للشعب الفلسطيني "منظمة التحرير الفلسطينية"، والتي تحت رايتها ناضل الشعب الفلسطيني، واستمر  كفاحه الوطني، إلى أن هبطت بها "القيادة المهيمنة" من كونها أداة وطنية تعبر مادياً ومعنوياً عن المصالح الوطنية الفلسطينية العليا إلى أداة استخدمت في تبرير استسلام تلك القيادة للإرادة الأمريكية – الإسرائيلية وشروطها للتسوية وفي المقدمة منها الاعتراف بحق "إسرائيل" في الوجود، الذي لم يسبق أن قدمته قيادة شعب محتل في التاريخ الحديث والمعاصر ينشد الحرية والاستقلال إلى مُحتلّها.  

تزداد المسؤولية التاريخية وموقع الجبهة في قلبها، عندما نرى الواقع الموضوعي يدعوك ويستنفرك للتقدم وأخذ زمام المبادرة، ويبقى العامل الذاتي مكبلاً بكل أثقال التجربة التي تم بشجاعة نادرة "فضح" ثغراتها ونواقصها وأزماتها مبكراً.

ثمة ما يجب قوله، أن الدخول للمستقبل كما رهن الاستمرار في ومع التاريخ - وأعتقد أن مؤهلاته متوفرة – ينطلق من اعتبار أن المهمة بالأساس وطنية خالصة ولا يمكن اختزالها أو تقزيمها إلى مستوى رؤى يمكن حصرها في أطر محددة ومُقيّدة، وصولاً لاختزالها في أشخاص/أفراد بعينهم.

وأخيراً، يَحضُرَني الكاتب والأديب الفرنسي "فيكتور هوجو" حين يقول: "للمستقبل أسماء كثيرة، بالنسبة للضعيف هو ليس في متناول اليد، وبالنسبة للخائف هو مجهول، وبالنسبة للجريء هو فرصة".

أعتقد جازماً، بأن الفرصة لا زالت سانحة وقائمة ومساحتها كبيرة، والشعب الفلسطيني يؤكدها باستمرار شعار غسان كنفاني (الكتابة بالدم)، ومن يكتب بالدم طريقه مُسطر بالنصر. هذا عزاؤنا ومحط فخرنا الدائم.